الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرية المفضوحة

محمد مشكور

2014 / 12 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مرت سنوات كثيرة على عبارة مارشال مكلوهان "قرية كونية"، والتي قالها في أحد كتبه، كان العالم حينها قد بدأ بالانفجار، وكانت وسائل الاتصال والإعلام تتكاثر وتتزايد، والمعلومات تتناقل وتتداول، وقد بدا أن عبارته قد دشنت لعصر جديد، العولمة، حيث الجميع منفتح على الجميع، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
لكن، وبعد مرور كل هذه السنين، لم تصل العبارة، إلى ما كانت ترمي إليه، إذ يبدو الامر اليوم، مختلفاً كلياً: لم تفلح الثورة المعلوماتية في نشر الألفة والمحبة بين الشعوب، ولم تنجح التجارة العابرة للحدود في تقريبها، ولم تنفع السياسة في حل أزماتها وصراعاتها والمشاكل المحيطة بها، بل زادت طينها بلة!، ولنتفحص أحد الجوانب:
كيف نتواصل اليوم، كأفراد وشعوب؟
إن الثورة المعلوماتية لا تعني بالضرورة إضفاء جودة على تواصلنا وشكل حواراتنا، بل قد تعني العكس، وهو ما يمكن أن نشعر به على أرض الواقع. لقد فجر "انفجار المعلومات" تواصلنا، فأصبحنا أكثر عزلة عن ذي قبل، وأكثر انطوائية وتقوقع!، ذلك أن المعلومات لا تساعد على التواصل، بقدر ما تخبر، إن وظيفتها الإخبارية تطغى على الجانب التواصلي.
أن نعرف المعلومة لا يعني أن نتواصل!، فالتواصل شيء، والأخبار والمعلومات شيء آخر تماماً، "وبكلمة، فإن الإعلام معني بالرسالة، أما التواصل فمعني بالعلاقة" كما يقول "دومينيك وولتون".
كيف إذاً نتواصل؟: في الوقت الحالي، نحن نتواصل عبر الهاتف، والفيسبوك، والتويتر، والفايبر، والتانكو، أكثر مما نتواصل بشكل مباشر وملموس، لكن ومع كل هذا التواصل الفائق، نتواصل مع ما نراه مناسباً لنا من أشخاص_ معلومات، أكثر مما نتواصل مع من _وما_ يختلف عنا!، بذا، فإن الانتقائية التي أتاحتها لنا ثورة المعلومات والاتصالات، زادت من تطرفنا، واعتدادنا بأنفسنا كمجموعات بشرية.
إن المعلومات الكثيرة، مع وسائل الاتصال العابرة للحدود والثقافات واللغات، لم تنجح في اجتراح نموذج تواصلي جديد، بقدر ما عززت نموذجاً تواصلياً موجوداً مسبقاً: "التطرف".
عن كل ذلك يقول وولتون: "إن الحذر من الغيرية، والاحتماء خلف نزعة الانتماء إلى جماعة (دينية أو طائفية أو عرقية أو اتنية أو ثقافية...إلخ) يتماشى مع تعميم أنظمة الإعلام والمعلومات. لأن التواصل مع الذين يشابهونكم في أقاصي الدنيا لا يساعد بالطبع على التعايش مع الغرباء، والمهاجرين، أو بكل بساطة مع الآخر الموجود في الطابق الأرضي من المبنى".
إن وولتون أوضح الكثير بخصوص التواصل والإعلام والقرية الكونية المزعومة، في كتابه "الإعلام ليس تواصلاً"، ، نراه يقول: "والقرية الكونية حقيقة تقنية غير أنها ليست اجتماعية ولا ثقافية ولا سياسية".
هكذا، نجد أنفسنا نتواصل مع من يشبهنا، نعجب بما يكتبه في الفيسبوك مثلاً، ونسجل له الإعجاب، ونراسله، في الوقت الذي نحظر فيه، من قائمة أصدقائنا، كل من يختلف عنا، أو مع من يجادلنا، نجتث حضوره الافتراضي، نقصيه، نلغيه، نمحوه، ننفيه، نرمي بجثته في "العدم" الافتراضي، حيث لا صوت له ولا أثر.
في الواقع الملموس، يمكن للاختلاف أن يؤسس لصداقة طويلة الأمد _إذا ما تدبرنا أمره_، ويمكن للجدال أن يطلق حواراً جيداً، تثار فيه التساؤلات، وتقرّب فيه وجهات النظر، أو على أقل تقدير، لا يمكنّا الواقع الملموس من إلغاء الآخر وحجب وحظر حقه في التواجد.
إنها "عزلة الفيديو" أو "الشاشة" كما أشار إليها بعض الكتاب، حيث مواقع التواصل الاجتماعي، تنهش وقتنا وتضر تواصلنا، تعزلنا عن الطبيعة والعالم، لتحبسنا في زنزانة الشاشة.
من هذا كله، يمكن لنا نحت مصطلح "القرية المفضوحة" على ما كان يعرف ب"القرية الكونية"، القرية المفضوحة حيث المعلومات تنتشر فتفضحنا على بعضنا، ولا تساهم في لأم تواصلنا المشروخ!، تكشف وتنقل أخبارنا وأحداثنا، ولا تستكشف مواطن الخلل في أسس تطرفنا وانزوائنا، بل تزيدها وتغذيها وتعززها، هي فضحت لا مبالاة الإنسان تجاه نظيره، والمختلف عنه، واهتمامه بمن يشبهه ويتوافق معه.
الخلاصة:
لقد أصبحنا أكثر قرباً، نعم، لكن لم نصبح أكثر تقارباً، بل أكثر تطرفاً، وعنفاً، وعدواناً، أو قل أكثر إقصاءً وتهميشا وإبعاداً، لقد صار قربنا في القرية _المفضوحة بالمعلومات_ قريباً من الشاشة، العزلة، الانطواء، الانزواء، التطرف، والاكتئاب، وبعيداً عن الواقع، العالم، الطبيعة، والانشراح، بعيداً عن التواصل بمعناه الواقعي، حيث الآخر المختلف؛ عماده وبنيته، فضلاً عن الآخر الذي يشبهنا.
لقد فضحتنا القرية، وكان علينا أن نتدارك فضيحتنا، فنعمد على إنشاء لغة تواصلية جديدة، تفسح المجال للمختلف وتعترف به، تحترم وجوده وتقر بحقوقه، لقد كان علينا استخدام المعلومات لصالح اجتماعنا، حيث نتأمل ذواتنا وصورنا عبرها، نغير ونتغير، نؤثر ونتأثر، نتواصل، وألا ندع العوالم الافتراضية تمسخنا وتشوهنا، فتعزلنا عن التجارب والمواقف التي قد نتشاركها مع شخص ما، أو حدث ما، الأمر الذي لا يمكن لأي موقع تواصل اجتماعي أن يوفره.
كان علينا استخدام الحد الآخر من السيف، لقطع التطرف، بدلاً من الحد الذي استخدمناه لقطع تقاربنا وتحاببنا" وتآلفنا وتفاهمنا.
لكن الفرصة ما زالت سانحة، مادام السيف هو نفسه!.
المصادر: دومينيك وولتون، الإعلام ليس تواصلاً، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2012، ص13_30_64.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط