الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى فهم علاقة العلم بالدين

محمد لفته محل

2014 / 12 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل ينفي العلم الدين أم يثبته؟ سيرد المؤمنون بالإيجاب ويرد الملحدون بالسلب كما هو معتاد، وهناك رد سيقول إن الدين ظاهرة لا يستطيع العلم إثباتها لأنها فوق طبيعية من مصدر الهي، فما هو موقف العلم الحقيقي من الدين إذن؟ وقبل أن نخوض بالموضوع يجب أن نأخذ تعريف العلم فهو (مجموعة المعارف المتكاملة والمبادئ والكليات العامة المتعلقة بحقيقة ظاهرة معينة. ويقوم العلم على أساس الملاحظة والتجربة ولا يستند على الميول الفردية أو الشخصية)(1)، فالتعريف يوضح بدون لبس إن الملاحظة والتجربة هي أساس العلم؟ فهل يستطيع العلم الطبيعي اختبار فرضيات الدين إذ كيف سيختبر الوحي؟ أو المعجزة؟ أو العوالم السماوية؟ أو حياة ما بعد الموت؟ سيقول العالم هذا هراء لا علاقة له بتخصص العلم الذي يختبر الظواهر الطبيعية ويخضعها للتجارب، فالعلم لا يستطيع اختبار فرضيات الدين، وعليه فالعلم لا يثبت الدين ولا ينفيه، فعدم الإثبات ليس دليلا على نفيه، فالقوانين العلمية كانت موجودة قبل إثباتها أيضا كالجاذبية والنظرية النسبية، والدين ظاهرة إنسانية وليس ظاهرة طبيعية، فهي بهذا تخرج من تخصص العلم، لأن هناك العلم الإنساني المتخصص بالإنسان ونشاطه كعلم النفس والاجتماع والانتروبولجيا بالتالي فان الحكم على الدين يجب أن يكون من وظيفة العلوم الإنسانية وليس العلوم الطبيعية، والتصور المشاع عن زوال الدين بتقدم العلوم الطبيعية؟ تصور مغلوط من الأساس، فالعلم ليس بديل الدين بل بديل الجهل، ولا يوجد مجتمع اعتنق العلم كبديل عن الدين، وحتى الذين يعتقدون بصحة التصور العلمي عن الكون والإنسان ظلوا يعتنقون الأديان، الشيء الصحيح أن الدين يتطور كلما تقدمت الحضارة وليس العلم فقط، فالظاهرة الدينية خارج تخصص العلم الطبيعي، وعليه فإن رد المؤمنين والملحدين على موقف العلم من الدين كلاهما خطأ في إثبات أو نفي العلم للدين. يقول عالم الفيزياء (فيكتور جون ستينجر) (معظم الجمعيات العلمية الوطنية والمنظمات المؤيدة للعلم قد أصدرت بيانات تؤكد أن العلم يقتصر على تناول العمليات والظواهر الطبيعية. فمثلا أعلنت الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة أن "العلم هو طريقة لمعرفة العالم الطبيعي. وهو يقتصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال أسباب طبيعية. لا يستطيع العلم قول شيء حول الفوق- طبيعي. إن كان الله موجودا أو لا هو سؤال بشأنه يقف العلم محايدا.)
إذن على العلم الطبيعي أن يخلي مكانه للعلم الإنساني الذي يتولى هذه المهمة فهو لن يسأل عن حقيقة الدين الطبيعية لأنه يعتبره ظاهرة إنسانية، وسيدرس نشأت الدين تاريخيا، واصل الظاهرة الدينية، ويدرس اثر الدين نفسيا أو اجتماعيا أو إنسانيا، ومدى تأثر الدين أو تأثيره بالتحولات والظروف الثقافية والاقتصادية والسياسية والتغيرات التي طرأت عليه، ثم يقوم بدارسة الآليات التي تحكمه ومحاولة إيجاد مشتركات وخصائص للظاهرة الدينية عالميا أو إقليميا للخروج بنظرية علمية إنسانية عن الدين، وهذا ما تقوم به الانثربولوجيا الدينية، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، وشتان بين النتائج التي يخرج بها العالمين، هكذا يجب أن نفهم علاقة العلم الإنساني وليس العلم الطبيعي بالدين خارج ثنائية الإثبات أو النفي، الدين ظاهرة إنسانية طبيعية كالفن والاقتصاد والعلم والسياسة لا يمكن نكرانها، ويمكن التحكم بها إذا درسناها وفهمناها، لنرتقي بها مثلما ارتقينا بالظواهر الإنسانية الأخرى، في البداية كان يقال إن مصدر الفن هو الوحي أو الإلهام السماوي وبعضهم قال الشيطان، ثم عرفنا المصادر النفسية والاجتماعية للفن، وعلينا أن نسلك مسار الفن في نظرتنا إلى الدين، إذن لماذا يصر اغلب مثقفينا على الحكم على الدين من منظور العلوم الطبيعية؟ مع علمهم بالعلوم الإنسانية؟ أتصور أن هؤلاء المثقفين لازالوا يتصور إن العلوم الإنسانية اقل مصداقية ويقين من العلوم الطبيعية للأسف، وهذه النظرة كانت سائدة عند الغرب في القرن التاسع عشر، وعندما تطورت هذه العلوم زالت هذه النظرة، لعلمهم بالفرق بين الحقيقة الإنسانية والحقيقة الطبيعية التي لازلنا لا نفرق بينهما من حيث الماهية والمنهج في التعاطي معها والكشف عليها، فانساق كثير من المثقفين إلى موجات الإلحاد أو الربوبية (اللادينية)، وهذا حق مشروع لهم، لكن تجريحهم للأديان والسخرية منها غير جائز أبدا، وهذا الفهم الخاطئ جعلهم ينعزلون عن الناس وجعل الناس تنفر منهم ومن الإلحاد والربوبية، ومن حق الناس أن تنفر مع من لا يفهم عمق الدين لديهم نفسيا واجتماعيا، هذا كله بسبب عدم فهم الملحدين للدين وفق العلوم الإنسانية، يتصور هؤلاء الملحدون إن الدين هو معتقدات وعبادة وطقوس وطمع بالجنة وخوف من النار بعد الموت فقط قائمة على أساس وهمي من منظور العلوم الطبيعية، وهذه التبسيطية الخاطئة هي من تجعلهم يحتقرون الدين وينبذونه، لكنهم يجهلون وظيفة الدين الاجتماعية فهو من وسائل الضبط الاجتماعي الأساسية ضابط أخلاقي ومعرفي وجزائي وشرعي، وهو فلسفة حياة ودافع معنوي للعيش والعمل (التوفيق الإلهي بالدنيا للمؤمنين)، وهو بالأساس عامل توحيد للجماعة عبر الطقوس التي تخلق شعور (الأخوة الدينية) هذا عدا الوظيفية الجزائية له التي تجعل الفرد يحس بالعدالة من وجود جزاء للأشرار وللأخيار في الحياة أو بعد الموت، فالناس أول ما تقول للملحد (إنه لا يحلل ولا يحرم) وهي تبادر إلى هذا السؤال الأول لان الدين كما قلت هو مرجعية اجتماعية تحدد للجماعة الصح والخطأ، والحرام والحلال، والجزاء للحؤول دون حدوث فوضى بين الجماعة تفككها، ويكون ضابط اجتماعي بوجه الرغبات والأهواء الفردية، فهذا التحديد الأخلاقي والشرعي والجزائي مهم نفسيا واجتماعيا لأنه يلغي قلق الذات تجاه مسؤوليتها أمام المجتمع والواقع، فيشد الجماعة بعضهم البعض حين يكونوا منسجمين بالأخلاق والقيم. ثم يسأل الناس: هل من المعقول أن لا توجد جنة ونار، وحياة بعد الموت؟ إذن كيف سيعاقب الله الأشرار؟ ويكافئ الأخيار؟ أين العدالة في ترك والأشرار بدون عقاب وترك الأخيار بدون ثواب؟ فيتساوى الأخيار والأشرار؟ ما دام لا يوجد جزاء، فهل من المعقول أن تكون الحياة هكذا بشعة غير منطقية؟ إذن من الأفضل لنا أن نكون أشرار ما دام لا يوجد جزاء؟ هكذا يضيع لديه الصح والخطأ، الحلال والحرام، الخير والشر، أشبه بعملية التصفير المعرفي والقيمي حين تأخذ الدين من الإنسان بعدما كان يوفر العدالة والمنطقية والمعيار. هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة أو ساذجة لكنها منطقية ولها تأثير نفسي واجتماعي على الإنسان، فالدين يرسم للجماعة عدالة ومنطقية للعالم تجعلها تعيش في هذه الحياة منسجمة وهذا ما قصدته بكون الدين ضابط اجتماعي أخلاقي وجزائي وشرعي ومعرفي. ويمكن القول إن الدين يجيب عن الغايات فيما يجيب العلم الطبيعي عن الأسباب، وكما يقول (ميرتشيا إليادة) إن الدين لا يعطي حقيقة بل يعطي معنى، إنه باختصار يعطي الدافع والمعنى والغاية، وهذا جوهر قوة الدين وهذا ما يجهله الملحدون بالذات من قوة الدين الاجتماعية. وحين نطلب من الفرد ترك دينه، فما البديل الذي نعطيه؟ هل نقول له الإنسانية أو المدنية أو العلمانية هي البديل؟ وهو لا يفهم هذه المصطلحات التي يختلف بشأنها حتى الباحثين؟ وحتى لو اتفقنا على شرحها، فهي ليست منظومات متكاملة كالدين فمثلا ما هو معيار الصح والخطأ الذي تقدمه؟ وهل فيها خلاص بعد الموت؟ وهل تعطي منهج بالحياة والعمل؟ وهل هناك مكافئات وعقوبات على الفرد؟ وأخيرا ما هي القداسة التي تمنع من انتهاكها؟ كل هذه الأسئلة تتبادر على ذهن الفرد حين تقول له اترك الدين واعتنق الإنسانية كبديل، والأفضل من ذلك إدخال الإنسانية إلى الدين الذي يعتنقه، لكن الملحدين يختصرون هذه التعقيدات بالسخرية من المؤمن ووصفه بال (جاهل، متخلف، غبي، ساذج)! فالذي يحكم على الدين هكذا هو لم يفهم تعريف العلم ويجهل تخصصاته ولا يميز بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني ولا بين الحقيقة الطبيعية والحقيقة الإنسانية، ويجهل قيمة العلوم الإنسانية ويجهل الدين بالنهاية أصلا.
الدين يعطي معنى العمل كعبادة ويحث عليه ويبارك به، الدين يضع بين يدين الفرد منظومة أخلاقية من الحلال والحرام والثواب والعقاب تجعل طريق الفرد واضح ومسؤوليته تجاه نفسه وتجاه المجتمع واضحة، الدين يعطي معنى الحياة كامتحان للإنسان يجب أن يجتازه بنجاح وبهذا يعطي دافع المثابرة، ويشعر الفرد بالتوفيق الدنيوي حيث يعتقد المؤمن بالدين إن الله معه يساعده على النجاح في حياته، وهنا يوفر الدين للفرد دافع معنوي في الحياة، الدين يحث على الزواج والتكاثر والتعاون، وكل هذه قضايا ايجابية، وطبعا هناك سلبيات أيضا بالدين كالقدرية المطلقة لحياته، أو التمييز ضد الأديان الأخرى، التحريمات التي تتعارض مع الحريات الشخصية، تقديس السلف، تحقير الحياة لصالح الآخرة الخ لكني أورد ايجابيات الدين حتى يعرف كل من يريد أن يقدم بديل يجب أن يأخذ العمق النفسي الذي يوفره للجماعة وحتى يعرف حقيقة الدين الاجتماعية والإنسانية، وأنا أدعو مع ذلك إلى إصلاح الدين لجعله يتعصرن مع المدنية.
اكتب هذا المقال لان المتدينون أيضا لا يفهمون وظيفة الدين الاجتماعية، وليس الملحدون وحدهم، فالمؤمن في دفاعه عن الدين يركز على الخوف من الله وعذابه بالنار وغضبه عليه بالدنيا، لكنه يجهل وظيفة الدين الاجتماعية والدنيوية، فيقولون للملحد (إن الله يوفق المؤمن في حياته ويدخله الجنة، والنار هي مصير الملحدين والكفار) أو يشتمون الملحد (قبح الله وجهك يازنديق يا كافر يا خنزير) بدل الاستماع إلى ما يقوله ونظرته السلبية للدين، فهم ليسوا المؤهلين للدفاع عن الدين لان إيمانهم هو وراثي ونظرتهم للدين مبنية على الخوف من النار والطمع بالجنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، احمد خورشيد تانوره جي، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى، لسنة 1990، بغداد، ص184.
2_الله الفرضية الفاشلة، كيف يثبت العلم عدم وجود الله، فيكتور جون ستينجر، ترجمة وتقديم الدكتور كمال طاهر، ص33.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 12 / 13 - 23:18 )
فائدة ثقافية :
برنامج (وهم الإلحاد - د. هيثم طلعت) :
• نشأة الإلحاد و رد شبهة وجود ملحدين قبل القرن الثامن عشر :
http://www.youtube.com/watch?v=2NXO2iL2vYQ
• كيف ينظر الغرب إلى الملحد؟ :
http://www.youtube.com/watch?v=kbTiGIMgozs
• دراسة الملف الإ-;-لحادي :
http://www.youtube.com/watch?v=2bDpHlgeG9o
• كيف نشأ الدين؟ :
http://www.youtube.com/watch?v=OWcqKFQ5-5o
• لماذا يوجد شر في هذا العالم؟! :
http://www.youtube.com/watch?v=Mqu8qRemUJQ
• عقيدة الملحد :
http://www.youtube.com/watch?v=GEmextV5Psc
• الوعي :
http://www.youtube.com/watch?v=3UMBFkJnR2k
• من أين جاء هذا العالم؟ :
http://www.youtube.com/watch?v=OmBQLNL4phE&feature=youtu.be
• المعايرة الدقيقة للكون دليل على وجود الخالق :
https://www.youtube.com/watch?v=KmvgBy3lmFY

اخر الافلام

.. بعد زيارة بوتين للصين.. هل سيتحقق حلم عالم متعدد الأقطاب؟


.. كيربي: لن نؤيد عملية عسكرية إسرائيلية في رفح وما يحدث عمليات




.. طلاب جامعة كامبريدج يرفضون التحدث إلى وزيرة الداخلية البريطا


.. وزيرة بريطانية سابقة تحاول استفزاز الطلبة المتضامنين مع غزة




.. استمرار المظاهرات في جورجيا رفضا لقانون العملاء الأجانب