الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الوجود – 2 – عن الحياة.

نضال الربضي

2014 / 12 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



لكي يتم تصنيف كينونة ما على أنها "حيـّــَة" لا بد و أن تظهر فيها الخصائص التالية: النمو، التكاثر، النشاطات الوظيفية، التغير التفاعلي، و الموت. و بحسب هذا التصنيف فإن الكائنات العضوية هي التي يمكن اعتبارها حية ً، و نعني بها: البشر، الحيوانات و النباتات، بينما يكون ُ كل ُّ شئ ٍ آخر غير حي.

لكن الحياة تتقاطع ُ بالضرورة مع الوعي، و علينا شئنا أم أبينا أن نُحدِّد علاقتهما ببعضهما من حيث التقاطع أو الافتراق، و لهذا سننظر ُ فيما نعلمه من أن الوعي يتطلب إدراك الكائن لذاته و لمحيطه و تفاعله معه و سنجد صعوبة ً في قياس هذا الوعي على بعض ما نعلم ُ أنه حي، كالنباتات، الديدان، الحشرات، الحيوانات البسيطة التي تنعدم فيها مستويات ُ الذكاء الواضحة، بينما سيكون هذا أسهل في البشر و القردة ِ العليا و الدلافين.

و سنكون مضطرين بالضرورة ِ للاعتراف بأن الوعي و إن كان َ معدوما ً أو غير مُقاس ٍ منا في كائنات ٍ ما إلا أنها تنسجم ُ مع تعريف الحياة ِ و تخضع ُ له، و هي النتيجة ُ المشتركة مع الكائنات التي تتسم ُ بالوعي المُقاس و تنسجم ُ مع تعريف الحياة ِ أيضا ً. فإذا ً نحن ُ هنا بين الوعي و الحياة لا بد و أن نقول بأشكال ٍ أعلى و هي التي تتسم ُ بالوعي، و بأشكال ٍ أدنى و هي معدومة ُ أو "ناقصة الوعي".

و سيكون ُ هذا الحكم ُ على أفضلية نوعية ِ الحياة ِ لبعض المخلوقات (نحن) على غيرها (كل شئ آخر بدرجات) حكما ً نسبيا ً ضمن الإطار الجامع ِ لنوعنا البشري و الذي يُخبرنا - بحسب ِ ما يقود نوعـَـنا إلى تبنيه من نُظم ٍ اقتصادية و سياسية و اجتماعية و دينية – بأن الوعي غدا معيار استدامة الحياة، هذه المعيار الذي يتعلـّـَـقُ بالاستدامة في محاور َ أربع:

- المحور الأول: محور تقيـِم حياة ِ من يتصفون بعدم الوعي أو نقصانه عن وعينا، أي غير البشر من الأحياء.

- المحور الثاني: محور تحديد مدى و كيفية استغلال ِ حياة ِ من هم أقل وعيا منا في استدامة ِ حياة ِ نوعنا.

- المحور الثالث: محور تحديد ِ التهديد الواقع ِ على أفراد ٍ أو جماعات ٍ من مثلهم ممن يتسمون بذات الوعي ِ قُدرة ً لكنهم لا يُبدونه انعكاسا ً و صفاتا ً، أو يبدونه لكن وجودهم يهدد في مصلحته وجود الأوائل ِ بدرجة ما. و يجب أن ننتبه هنا أن تقيم التهديد نسبي ٌّ إلى الجهة التي تضطلع ُ به، دون أن يعني هذا أن لها الحق في التقيم أو أن تقيمها صحيح.

- المحور الرابع: محور تحديد طبيعة فعل ِ تحيد ِ هذا التهديد، و مدى و كيفية تكامله في الأنظمة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الدينية.

و هكذا تختار ُ المجتمعات ُ البشرية أن تُحدِّد طبيعة علاقاتها:
- بالطبيعة ِ من حولها، لتحفظها أو تُمعن َ في استغلالها، لتستصلح الأراضي الزراعية، أو تُقيم المباني و الُمنشآت، أو تجعل مساحات ٍ للتنزه و الترفيه، أو تمضي لتخصيصها محميات ٍ طبيعية.

- و بالمجتمعات المجاورة ِ لها إما بتنصيب ِ نفسها المرجعية ِ الأولى التي لا بد َّ و أن تحدد المسموح و الممنوع كما تفعل الدول الكبرى اليوم. أو بإقامة ِ علاقات ِ مودة و تعاون و تكافؤ ٍ لا غالب فيها و لا مغلوب لكن أطرافا ً يُحققون مصالح مشتركة أو فردية عن طريق تفاعلات مفيدة و عادلة للجميع.

و لكن يجب ُ أن نسأل هنا: هل حقا ً أن معيار استدامة الحياة بواسطة علاقتها مع الوعي يخبرنا بالضرورة عن طبيعة الحياة و عن طبيعة الوعي؟

لقد حاول الإنسان ُ من خلال تاريخه الطويل الإجابة َ على هذه الأسئلة لكي يقرِّرَ ماهية َ جوهرِه، فكان أن اعتمد وجود َ الروح َ (أو الكيان الشبحي) كما فعلت الأديان ُ الأولى، ثم تبعتها لكن مع تحديدٍ مصقول ٍ مقولب ٍ واضح الأديان ُ الإبراهيمية. و في هذا الجواب يكون الروحُ كيانا ً حالَّا ً في مادة الجسد، محييا ً لها، يفارقها عند الموت و يعودُ للاتحاد بها عند البعث أو القيامة. نرى هنا أن الروح َ البشرية َ في هذا الجواب هي تصميم ٌ لا يمكن ُ أن يوجد َ إلا كشقٍّ مُتحد ٍ بالشقِّ المادي، حتى لو كان قد انفصل َ عنه بالموت الذي هو مؤقت ٌ.

إن الجواب السابق على الماهية في إطار الروح يفترض فردية ً شخصية، فروح ُ كل ِّ كائن ٍ هي غير ُ روح ِ الكائن ِ الآخر، و بالتالي هناك تمايُز ٌ و انفصال ٌ للوعي، كل روح لها وعيها، و كل كائن ٍ له وعيه الناجم عن روحه المحركة التي تتصل بجسده المُحرَّك ِ و المُتحرِّك.

أما إذا تحركنا شرقا ً من أرض ِ الحضارة ِ الأولى و الديانات الوثنية ِ ثم الابراهيمية ِ نحو الهند و الصين، فسنجد ُ أن القوم َ لا يشتركون َ معنا في تحديد ِ الوعي على أنه فردي شخصي خاص، فهناك حيث مفهوما البراهمان و التاو سنصادِفُ القاع الوجودي الذي هو مبدأ كل شئ، و الذي كلُّ شئ ٍ هو انعكاس عنه هو و تجل ٍّ له، هذا الانعكاس و ذلك التجلي الذي يبدو لنا أنه فردي في كل كائن، و يظهر أنه شخصي في كل فرد، لكن هذه الفردية و تلك الشخصية هي مجرد وهم و سراب، لأنه لا يوجد سوى ذلك القاع الوجودي الأول ذاك َ المبدأ الذي منه ينطلقُ كل شئ و إليه يعودُ كل شئ دون أن يُنتقص َ منه شئ أو يضاف إليه شئ، البراهمان في الهند و التاو في الصين.

إن الحكم على نوعية الحياة و أفضليتها و معاير قبول استغلالها أو إنهائها، ثم تأثير هذا على بناء المجتمعات ِ و الدول ِ قد يبدو مُنفصلاً أو مفارقاً للفلسفات ِ الوجودية، إلا أنه لا شئ أبعدَ عن الحقيقة ِ من الجملة السابقة، لأن تاريخ َ الأمم ِهو نتاجُ تفاعلاتهِا، و تفاعلاتُها نتاج ُ استجاباتها لمحيطها، و استجاباتُها هي انعكاس رؤيتها للحياة مُستتبَعَة ً من أنظمتها الاعتقادية ِ و العقائدية ِ التي تصوغ ُ وعيها، و بالتالي حياتها و حياة َ من حولها.

لقد برز َ في التاريخ ِ البشري خلال القرن ِ الماضي صعود ٌ للمدرسة ِ العلمية ِ التي أصبحت وريث َ الفلسفة ِ و بديلها، فبديلا ً لما صنعهُ الفلاسفة ُ القدماء ُ باحثين َ عن أصل الكون ِ و الحياة ِ في أروقة العقل ِ و بقوة ِ المنطقِ و ما يفرضه بالضرورة، صار َ العلماءُ اليوم َ روَّادا ً في النشاطات ِ التي تجري تحت المجاهِر و في المختبرات و المسارعات النووية، و كتحليل ٍ للصور ِ التي تُرسلها المكوكات ُ و التراكيب ُ الفضائية، أو العينات ُ التي تأتينا بها الشُهبُ و النيازِكُ و بقايا الحطام ِ الفضائيِ لأي جسم ٍ ما هناك.

و بالتوازي مع السابق ِ برز َ عالم ُ الكوانتيـّـِـة ِ الكمِّي، ليخبرنا عن الذرات و ما دون الذرات، ليطيح َ بكلِّ توقعاتنا عن ماهية ما يجب أن تكونَه ُ القوانين و بالتالي ماهية صفات الجسيمات، فدخل َ إلى حيز ِ الفضاء العلمي الواسع مفهوم ُ عدم ِ اليقين. و كأن عدم َ اليقينِ لم يكن مفاجأة ً كافية بحد ذاته، فيمضي العلم ليحير العقول التي ما أن أفاقت من صدمة ِ الكوانتية حتى وقعت في مُعضلة ِ التوفيق بين عدم يقين الجسيمات الصغيرة المُكونة للمادة، و يقين ِ المادة الكبيرة التي نعرف سلوكها و نتنبّـؤ به بحسب قوانين كلاسيكية ٍ معروفية مع أنها أي المادة تتكون ُ من تلك الجسيمات غير يقينية ِ الصفات.

أي أننا هنا أمام وصف ٍ واضح ٍ صريح ٍ للمادة الحية و غير الحية تشتركان ِ به، هو وصف الكوانتيةِ الجامعة الذي يقول ُ بكل ِّ وضوح أن الوجودَ الذي نعرفُه و نرى فيه النظام يأتي من اللانظام على المستوى الكمي، و أن النظام مولودُ الفوضى، و أن الأصل هي الفوضى و منها يخرج ُ النظام، و أن النظام َ و الفوضى لا يميزان ِ بين الأحياء و غير الأحياء، فمادة الأحياء هي ذاتُ مادة ِ غير الأحياء.

و حتى ينتهي عقلنا المحدود ُ من تلك المعضلة يجب ُ أن نعودَ من الكوانتية ِ إلى الحياة ِ و من الحياة ِ إلى الوعي، لنسرع َ جزعا ً و عجزا ً فنقول َ أن الوعي ما يزال المعيار و المقياس الذي يجب أن يتخذه الكائن البشري. و هذا قول لا بدَّ منه حتى يستطيع القائل ُ أن يحيا، و يتفاعل مع محيطه و يبقى، لأنه لا يملك سواه. دون َ أن يكون َ هذا القول ُ و ذاك َ الوعي ُ مُلزما للحقيقة ِ أو الوجود ِ في شئ ٍ أبدا ً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ الربضي المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2014 / 12 / 25 - 12:29 )
نهار سعيد و امنيات بايام قادمة هانئة
تحياتنا لمن احتفلت معها ليلة البارحة مع سلام خاص للوالدين الكريمين
يبدوا ان الاحتفال ليلة امس كان وفق (الموديغاسيو)فكنت هذا الصباح نشيط
هل الوعي حي فهو يولد و ينمو و يخبو و يموت؟
ترد دائما و هنا وردت (تتقاطع) اعتقد انها من (قاطع و قطيعه و تقاطع و قطع)واعتقد ان التلاقي افضل.
اعتقد حتى ابسط الخلايا الحية تعي ما يحيط بها و تشعر بما سيحصل لها لكنها لا تستطيع التصرف دائماً
الفيروسات تتبدل باستمرا
البكتريا تتكبسل و تتحور و تعرف بالخطر
النباتات تعي اهمية الضوء او ضوء الشمس فتتحرك باتجاهه و تتحسس تبدل المكان فتبدي اعتراضها عليه
تقبل شكري
دمتم بتمام العافية


2 - العزيز عبد الرضا حمد جاسم
نضال الربضي ( 2014 / 12 / 26 - 12:44 )
نهارا ً جميلا ً طيبا ً أتمناه لك أخي عبد الرضا،

شكرا ً لكلماتك الطيبة ِ الودودة، أثمنها كثيراً!

بالفعل كلمة التلاقي أفضل من التقاطع و أعتقد أنني سأتبناها حيث أجد أنها أفضل من التقاطع الذي أرى أنه مفيد حين الحديث عن جهتين مختلفتين تلتقيان في نقطة ثم تكملان الافتراق.

أفكر كثيرا ً في الوعي أين يبدأ (إن كانت له بداية) و هل يصح أن نسمي ما لدى البكتيريا و الخلايا -وعياً-، فهو من جهة كونه حركة ً و تفاعلا ً فهو استجابة ٌ لقوانين البيولوجيا و الكيمياء، لكنه قياسا ً على كوننا نحنُ كائنات بيولوجية بأنفسنا فهو أيضا َ خاضع ٌ لمعايرنا و يلاقيها!

فإذا ً يبدو أنه وعي ٌ ما و إن كان مُختلفاً عن وعينا.

لكن من قال أن وعينا يجب أن يكون المعيار و المقياس؟ و هذا بالضبط ما عنيته حين كتبت عن نسبية ِ الحكم إلينا و إلى طبيعتنا. و هذا أيضا ً بالضبط ما تحدثت ُ به عن تعلق الوعي بالاستدامة في أربعة محاور.

فإذا نحن هنا نُشكِّل ُ إطارنا الذي نعمل بداخله و نموذجنا الذي نتحرك منه و ننطلق للحكم ِ على الخارج.

تسعدني تعليقاتُك َ الثرية.

دمت بود!

اخر الافلام

.. مسؤول إيراني لرويترز: ما زلنا متفائلين لكن المعلومات الواردة


.. رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية يأمر بفتح تحقيق




.. مسؤول إيراني لرويترز: حياة الرئيس ووزير الخارجية في خطر بعد


.. وزير الداخلية الإيراني: طائرة الرئيس ابراهيم رئيسي تعرضت لهب




.. قراءة في رسالة المرشد الإيراني خامنئي للشعب حول حادث اختفاء