الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التائه في سراديب الزهايمر

عادل الحامدي

2014 / 12 / 25
المجتمع المدني


لايكاد الناظر الى محمود الوصيف جارنا لفترة غير قصيرة في ريف رقاد ة المحاذية لمدينة القيروان التي فقدت قدرتها على الحلم وقدرتها على التجدد منذ ان عاث فيها وعبث سماسرة الدنيا والاخرة وطلاب الكسب من مستثمري مااسي الناس وضياعهم يتبين فيه شيئا من ملامح ذلك الرجل النزيه الذي كم احببته وكم قدرته وابهرني بصراحته ومنهج حياته الذي لا يعرف اللف والدوران فقد فتك به مرض الزهايمر وتبدلت ملامحه على نحو مريع ادمى قلبي فلم اتعرف عليه الا بجهد جهيد عندما زرته في بيته قبل فترة لم اجد معها غير شبح وحطام لرجل كان يضرب به المثل في الطيبة والنزاهة وعفة اللسان ونظافته

اعتدت ان استمع وأنا طفل بعد الى صوته الجهوري باكرا في الصباح عبر المسافة الفاصلة بيننا ويخترق جدران بناء الطوب الذي اتخذناه منزلا ليرن في سمعي مثل كويرات من الثلج وهي ترتطم بزجاج سميك وهو يحاول افزاع العصافير التي يكرت لغزو حقله باحثة في نزاهة الرجل وسعة صدره عن ملاذ يمكنها من ملا حويصلاتها واطعام صغارها ..
لم يكن محمود يستعمل لطرد العصافير وسيلة مؤذية ابدا ..فقط كان يعتمد على صوته القوي الصداح مترددا في الانحاء الى مسافات بعيدة والبراءة تفعمه والنداوة تفيض منه وتغلف الحقول بما يشبه الرذاذ المنعش للاحياء والنباتات لحد ان العصافيركنت تتوقف وهي محلقة في الفضاء لتسبح في ذلك الرذاذ المنعش ...
كان شديد النزاهة جارنا محمود ..شجاعا لا يخشى في قول الحق لومة لائم ولا يتردد في المطالبة بذلك الحق ولو كان لنفسه ..هذه النزاهة التي دفعته مرة الى عدم التغاضي عن حماقة ارتكبها شقيقي المار في حقله على متن شاحنة صغيرة داس خلالها بعجلاتها على انبوبين معدنيين لنقل ماء البئر الى حقل محمود وتسبب في اعوجاجهما .فنزعهما محمود ثائرا وقصدنا بمعية ابنته والانبوبين معهما ورمياهما امام ابي وانتزع انبوبين سليمين على ذمتنا وعادا من حيث جاءا ...بعد ان انهى محمود الحصول على تعويض عادل ...كان ذلك اقصى ما فعله مع ابي الذي لاذ بالصمت ...اما شقيقي فقد اختفى عن الانظار طوال تلك العشية ..
لم يدخل في مشاحنة معنا ولا تلاسن مع احد
- طالبت بالتعويض الفوري لكيلا اغدو حاقدا عليك او يمتلئ قلبي باشياء اكرهها نحوك ....
وفعلا كان ذلك الهاجس مسيطرا على محمود الوصيف .... ان لا يدع شيئا من الاشياء الطارئة او خلافا من الخلافات الحادثة يحوله الى شخص حقود يظهر غير ما يضمر
هذا في الوقت الذي كانت فيه الخلافات والنزاعات التي لا تعرف طريق الحل ولاتجد الانسان الشجاع الذي يقول للمخطئ : اخطأت وللمصيب : أصبت القادر على اعطاء كل ذي حق حقه تتحول الى سموم في عقول وافئدة الناس المتجاورين اجسادا والمتنابذين ارواحا ووجدانا ويتمنى كل واحد منهم لو يصبها-تلك السموم - صبا في فم جاره اوعشاء ابن عمه ولا يقدر فيضطر الى المداورة والمناورة وفي النهاية يموت بسميته وهو على قيد الحياة بعد وقد خلت حياته من كل بعد ومدلول يجعلها تستأهل أن تعاش ...
قبل انتقاله الى حقله الجديد كنت اراه مكبا الساعات الطوال على محركه محاولا تشغيله بمجهوده الشخصي متحاشيا طلب المساعدة من ايا كان ..او ملتصقا باحد الجدران متقيا لفح الرياح مجاهدا ان يشعل سيجارة من ولاعته القديمة على ان يستوقف احد الجيران ليشعل له ..
وعندما توالت ولادات زوجته وانجبت له ما طاب من البنات اللواتي لم يقصرن في مجابهة عناء الحياة معه بشجاعة وتحمل قل نظيريهما في مثل هذه الانحاء التي مثلت مجابهة كروبها عملية شد اشداق مؤلمة سرعان ما كان الانسان يعلن تجاهها استسلامه ..ولم تستسلم بنات محمود الوصيف لعملية الشد وظللن واقفات صامدات رغم لؤم الحياة وغدرها وخذلان الرجال ...
ورفض محمود الوصيف امتثالا منه لمقتضيات النزاهة ان يزوج ابنته الثانية لاحد المتقدمين لها طالما الاولى لم تظفر بحظها وقبل التضحية بالخاطب على ان يرى تفاوتا في الحظوظ بين بناته....
ورغم المحن المتوالية عليه والبؤس المخيم على حياته فان صوته لم يفقد البته رواءه على مدار اعوام طويلة ولا ماتت روح النزاهة والاريحية التي انطبع عليها ...
هل عاش محمود الوصيف حالما طوال تلك الاعوام في ظل واقع لم يستطع ان يستوعبه ولا ان يفهم شرارات روحه المنبعثة من صوته المنطلق الى رحاب الافق الواسع محتويا في نبرته افقا يماثله في الرحابة والاتساع
كانو لا ينفكون اذا غاب عنهم عن السخرية منه وتعييره بسذاجته التي تابى عليه الا تسمية الاشياء باسماءها وفي قيامه بذلك جلب على نفسه عداء عدد غير هين من الناس ...
وها هو الان محمود الوصيف بعد ان اثقلته اعباء الواقع قيض له قدره عبورا الى الحلم الابدي- لا ادري ثمنه على جسده المتهرم- متنازلا عن ذاكرته المثقلة بذكريات بغيضة عن واقع وعالم ابغضه ونفاه فانتقمت منه ذاكرته بتنازلها عن كل تفاصيل ما عاشه معه ..لقد فقد محمود الوصيف ذاكرته وابتلعه الحلم بكليته فتبدلت هيئته بشكل غريب حتى عن اهله .عاش يرفض ان يتنازل او يساوم عن شئ من براءته وانحيازه لصوت الحقيقة المنطلق من داخله كنهر متدفق الجريان فلم يسع الحياة الا ان منحته خلاصا لم يكن يتوقعه من عذاب الذكرى وتباريح الماضي ..فهو الان لا يتذكر شيئا..... لقد استراح من عناءه وان تكن لا فكرة لدي عما يعانيه جسده لقاء هذه الراحة من جراء الزهايمر الذي جفف انسجة دماغه وحولها الى ما يشبه الاسفنجة الجافة
وهو لا ينفك يرغب في ان يهيم على وجهه في الخلاء - وهو في الحقيقة يفعلها كلما واتته الفرصة ووجد نفسه بمنجى من رقابة محيطه – متحررا بجسده من قيد المكان مثلما تحرر عقله وروحه من قيود الزمان ولولا ان بعضا من اهله يلتحق به دائما ويعيده الى ذلك الحيز المكاني الذي مثل سجنا لروحه وجسده .منتظرا لحظة خلاصه الكبرى التي ستمضي به في اتجاه اللانهائية نحو شكل من الوجود ارقى واسمى واكثر استجابة لانطلاقات روحه واشواقها ...
سلام عليك يا محمود .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ديلي ميل: تحقيق يكشف تورط خفر السواحل اليوناني بقتل عشرات ال


.. مؤسس نادي كرة قدم للمكفوفين في العراق يروي قصته بعدما فقد بص




.. عراقيون كلدان لاجئون في لبنان.. ما مصيرهم في ظل الظروف المعي


.. لدعم أوكرانيا وإعادة ذويهم.. عائلات الأسرى تتظاهر في كييف




.. كأس أمم أوروبا: لاجئون أوكرانيون يشجعون منتخب بلادهم في مبار