الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذات السياسية و العودة الاسطورية

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2014 / 12 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



ذات مبنية على الطفيلية و المسايرة مع حركية و ارادة الطبيعة كيف نتوقع منها ان تكون سياسية بالمعنى العلماني و الاكاديمي للكلمة؟. السياسة تنظم الامور و لا تبعثرها، تنسق الفضاءات الحياتية و لا تمزقها عن بعضها، ترتب الخطابات و لا تهبب الضبابية في المعاني لكل من الحقول المعرفية سواء للأفراد أو للمجموعة بأسرها. السياسة بيننا اصبحت سحرا تنخدع بها مدركات الافراد و تتحير من سرعة تبدلاتها الاكروباتيكية.
يا للمهزلة نتحدث عن المخدوعة (السياسة) كما كانت الاسلاف تحدثوا عن (الكرامات و الكشوف) النبوئية، هم اي السياسيون!! فقط هنا لهم الحق معرفة مكنونات القدرة السحرية تلك و نحن علينا فقط ان نتحير و نسحر بحركاتهم فوق الاسلاك العالية.
السياسي فاعل حديث التكوين و البنية ظهر بفعل الحداثة الفكرية و التألق الناصع للعقل في مقابل التقهقر الجاهر للماورائيات و التفكير الخرافي الذي واكبها و تماهى معها منذ ان غاب الأنا عن نفسه و كذلك جسده، الغياب عن النفس و الجسد موقف ازلي دام مع الكائن الانساني الى ان وصل به الدهر حدود العقل في مملكة الحداثة و الثورات المتنوعة التي عبرت عن مختلف الحاجات التي تؤدي بالفرد صوب الحريات المنشودة.
لم يكن الفرد او الذات سياسيا يوما قبل ظهور مؤسسات العقل الفعال و هذا لا ينكر وجود السياسة كفعل و وظيفة سلطوية ادارت بها السلاطين و الملوك امور بلاطهم و مماليكهم ، ادارة العروش و البلاط لا تعني ادارة المجتمع و من هذا نستدرك عدم وجود خارطة سياسية تستوعب الافراد بغية جعلهم كائنات سياسية تشاركون مؤسسات الماكينة الاكبر الا وهي الدولة او المملكة.
تسييس الذات تحول نوعي مقصود يمس وجود الفرد و يشمل جغرافيته النفسية و الروحية و حتى الجسدية و ذلك لانجاز المشروع البنائي لشخصيته المملوكة له اصلا و ليس افرادا لا يملكون النفس و الروح و الجسد(جسد جماهيري من نوع و أصل خاص على حد قول باختين) هذا النوع الذي يبكي و يضحك و يصرخ مع العامة حيث لم يكن ينفصل عنهم ابدا.
السياسة هي الادارة و الادارة هي التنظيم و التشغيل و التنسيق بين شؤون عدة في الفضاء العام و الخاص، ما يتعلق بالفضاء العام هو المجتمع حيث الجهة التي تكلف بادارة المؤسسات تعمل على تنسيق النشاط و العلاقة فيما بين الاعضاء المكونة للجسم السياسي قد يكون مدينة أو دولة أو مجتمعا داخل اطار قانوني أو مجتمعي معروف.
نماذج الادارة السياسية كثيرة نحن هنا لسنا بصدد الخوض في تصنيفاتها بقدر ما نبغي التطرق الى حكمة التنسيق و التنظيم ضمن الدائرة السياسية. ادارة الذات اشبه بادارة المؤسسات الأكبر منها حيث البنية و النواة الأقوى للبنيان المجتمعي هي الذات و المؤسسة النواتية تلك هي الأعقد من بين جميع المؤسسات كونها تقوم دائما بعملية التنسيق و التنظيم فيما بين حاجات العقل المتجسدة في الواقع الاجتماعي و الثقافي و حاجات اللاعقل المتجسدة في الغرائز و الدوافع التي تحرك الفرد و تسبب له التوتر الدائم.
الذات الفاعلة هي بحاجة دائمة الى التواصل مع آخرها الذي يكمن في جوفها و هي القوة العاقلة اللحظية التي تقرر سلوكاتها و كيفية التعاطي مع ما ينبهها في الخارج وما يجب عليها التلائم معها كي تكون على خط الارتباط سواء مع نفسها أو مع الآخرين و كذلك مع المحيط الفيزيقي بكل انواعها. ان كانت الذات فعالة و نشطة بمعنى هي تدور وفق النمط الاداري الخاص الذي اختارتها و ان كانت سلبية و غير فاعلة هي في هذا الحين منفصلة عن نفسها و مبتورة الوجود مثلما يشير اليها داريوش شايغان في كتابه القيم( النفس المبتورة).
هذا التمزق الازلي بين الذات و الآخر الكامن داخلها أو بمعنى اوضح بين الفاعل الظاهر و ما يفعله الآن استأصل في البنية الشخصية للفرد و تهاوى بفعله وجوده الفاعل حيث ارتماه الزمن خارج دوامته، ذات من هذا النوع لا يمكنها ان تتلاقى شقيها الوجودي في آن واحد،
لا يمكنها ان تستقيم في وقفتها السياسية و لا تظهر للعيان لا اطلالاتها و لا خطاباتها ذات النسقية و الترتيب الهارموني الجمالي.
الذات السياسية بيننا هي مقطوعة الاوصال و مرتبكة في نغميتها، لا تجد في لحظاتها الراهنة الآنية ما يتناغم مع ما يحركها داخلها، احداث و ظواهر سلوكية فارغة من محتويات عقلية و خارجة عن مسالك الارادة الصادقة، التفكير الكامن وراء الاحداث التي تجري لا تمت بالعقل المحلي بصلة بقدر ما هو نتاج رؤوس اخرى قد نلتقي عند بعض مصباتها.
تسييس الذات لا يعني غير ما يعنيه تحديث الذات و اعادة برمجتها وفق الشروط الحداثوية التي تتجسد في دمقرطتها و تمدينها بالمعنى الحديث لهذه المفاهيم، عندما تغيب الذات أو تستبعد من الاجواء السياسية لا تعني غير تذويبها و العملية تلك هي الانشط عبر تاريخ مجتمعاتنا حيث الفناء في عشق الايقونات الخارجة عنها سلبها وجودها و فاعليتها الفكرية و العقلية. السياسة بمعناها الحديث هي تنشيط كل مجالات الحياة و محاولة ايجاد فضاءات اكثر صفاءا لاظهار جمالية و سلاسة حراك المجالات تلك مع بعضها.
التسييس لا تعني جعل الفرد كائنا سياسيا فقط لا تلتفت الا الى السياسة وحدها بقدر ما تعني تنظيمه و اعطاءه حقوقه في ابداء مواقفه ازاء كل المستجدات و الاحداث التي تدور حوله و السماح له ان يقول كلمته في اى شيئ يحدث أو قيد الحدوث. الذات الفاعلة هي ذات تدير شؤونها بأنجح الاساليب و لا تستغيث بالآخرين أن يرشدوها في كل صغيرة و كبيرة، ادارة الذات هي في الآن نفسه تسييس ارتباطاتها و التنسيق فيما بين الحيز المتنوعة التي تتكامل في النهاية ضمن المحيط النفسي لهذه الذات الفعالة و النشطة الحروكة.
ادارة الذات تتجلى و تتمظهر في رسم العلاقات ضمن الفضاء العام الذي يتحدث عنه يورغن هابرماس، كيف يفكر و بماذا يفكر؟ و لماذا يفكر؟ و لأجل من و لاي شيئ يفكر؟ كيف يخطو و يتحرك و يسلك؟ في اى موقف يبكي أو يضحك أو يتحدث أو يسعد أو يمل .....؟؟، كيف يرتبط بالآخرين و يرسم ارتباطاته مع المحيط؟ لماذا يحب و كيف يمارسه و من يحب و يكره؟ بماذا يتخيل و ماهو نوع خيالاته و كيف يوجه تفكيره و خياله؟ و هلم جرا. هذه هي جملة من الوظائف على الفرد ان يتصل بها و يؤديها أو على الاقل يوليها اهتماماته.
لا تقل ادارة الذات اهمية من ادارة مجتمع بأسره من قبل قائد أو سلطة معينة، اغوار النفس عميقة و لا متناهية الوجهات يراد لها خبرة سينتظم بموجبها الفرد بحيث يكون في النهاية شخصا معافيا و سليما من الشوائب النفسية و الصحية. من استطاع ان يدير شؤونه من كل الجوانب و الجهات و حافظ على التوازنات النفسية و المزاجية و الاجتماعية امكنه هذه التوازنات ادارته لمؤسسات المجتمع السياسية و الاجتماعية و ال......الخ. ادارة الذات مرتبطة وثيقة الارتباط بالاحساس بالزمن و تنظيمها من المنظور الاستثماري للزمن و ليس مسايرته ارضاءا للروح المنهكة و العاجزة التي اصبحت جزءا من الموروث الماهوي لتشكيل هويتنا أو بالاحرى هوياتنا المتعددة.
ذواتنا تخدرت احاسيسها بالزمن و كذلك فقدت جاذبيتها للبواعث التي تلزم الكائن دائما للتحرك نحو الاشياء التي تنجذب بداهة (الفرد) نحوها، الهروب من الأنا الفعلي اصبح سمة بارزة في شخصية الافراد في مجتمعنا الكوردستاني ناهيك عن الذات السياسية التي تجسد الهروب النفسي هذا في شبكة علاقاتها الادارية في الداخل و كذالك في الخارج الذي لا يساوم عليها ابدا بكل ارتباطاتها في الداخل المجتمعي المكون اساسا للبناء التحتي للسلطة الشرعية لكل مجتمع أو امة.
اين هي الذات السياسية التي تتجه نحو مكنون القدرة و القوة الاصيلة(الشعب) و تتقوى بهذه البؤرة؟ اين هي موقعها في الحس و الشعور المشترك للمجتمع؟ هل تجرأ الذات تلك ان تتقاسم و العامة زمنها و تبقى معهم في الغور في تفاصيل ما تؤلمهم يوميا و تحزنهم كالتكرارات الاسطوانية في الخطاب الاسطوري للموديل السياسي العتيق في بلدنا؟ اين هي موقع و مرتبة الذات السياسية عند البوح سرا و علنا بالعدالة و فرصها بين مواطنينا؟ هل ان فرص الحياة عندهم تعادل فرص المواطن!!! العادي؟ ام تتجاوزها مئات المرات بل الاكثر احيانا كثر؟.هل ترضى ذات القائم على الفعل السياسي ان تعزل عملها السياسي عن المكاسب التي تجنيها وراء العنوان هذا؟. تسترسل بنا التساءلات و المقارنات تلك الى ان نمل و يمل القارئ معنا و لا نصل الى ما تروي عطشنا من الاسئلة الغاضبة و التي ترمي معها الاجابات السهلة الى ساحات اللاعب الاكروباتيكي!!؟.
الذات السياسية عندنا فقدت الهمة بشأن المشروع الشفهي الثوري غير المؤطر ضمن اسس فلسفية معينة و مبرمجة و الذي كانت نلقاه دوما من على افواههم، استسلموا لغرائز ظلمات النفس بالمطلق و لم يعيروا ايما اهتمام لمبادئ العقل التي كانت تناديهم بعدالة التوزيع و نغمية التعاطي مع الطاقات الحيوية التي توترنا و تحركنا.
الاستسلام للطاقة الشهوانية (مفهوم افلاطوني) جعلهم اكثر عدوانية و اكثر تلهفا ورائها و لم يحيدهم ابدا من الغرق بقدر ما تطاولوا فيها و الطاقة القاهرة وقعت بايدهم و ذلك لغرض التمادي الاكثر و ليس الكف عن الافتراسات الدنيئة.
الفصام و التمزق في شخصية السياسي عندنا واضحة وضوح الشمس، فالتلاعب بالخطاب اللفظي و المواقف التي يواجهون فيها العامة اصبح كمشاهد (طوم و جيري) الهوليودية للاطفال لا تحتاج اي تحليل لمحتوى الخطاب للوصول الى التشرذم في البنية المفاهيمية لها كونها منفكة في البداية بفعل التكرار الدائري لها و التعويد الازلي للمتلقي عليها.
الذات كهذه لا تصل بنا الى بر الامان الفكري و الاطمئنان العقلي كونها تجر ماضيها خوفا من الجديد و المواجهة مع ما يؤسسها هذا الجديد من القيم الحديثة، و تتطلع زيفا الى المستقبل كمحاولة أو كاستراتيجية للدفاع النفسي كي تنقذ وجودها من الوحل التي هي اوجدها.
الكيمياء التي ركبت تلك الذات لم تعد صالحة لبناء الانسان الجديد بيننا و نحن نعرف ان التحولات الكيميائية لا ترجع كبدايتها و لهذا يحتم علينا الزمن ان نبحث عن مركبات كيميائية اخرى لرأب صدع الجسد السياسي للذات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرجال هم من صنع الحروب


.. مختلف عليه| النسويّة الإسلامية والمسيحية




.. كلمة أخيرة - أسامة الجندي وكيل وزارة الأوقاف: نعيش عصرا ذهبي


.. من يدمر كنائس المسيحيين في السودان ويعتدي عليهم؟ | الأخبار




.. عظة الأحد - القس تواضروس بديع: رسالة لأولادنا وبناتنا قرب من