الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معنى التوبة، بين الفاعل والمفعول

محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)

2015 / 1 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"الفاعل لا يلومنّ إلا نفسه"

هذه هي قاعدة الفعل والانفعال التي لا مناص منها. فنتيجة الفعل -مهما اغترب صاحبه عن هويّته التي كان يحملها عندما فعله- ستصاحبه.

والانطباعات التي تركها عند غيره ستبقى في ذاكرتهم طالما أرادوا هم أن يتذكروا، سواء أراد هو النسيان أم لا، وعليه أن يواجه نتائج أفعاله ولا يلوم أحدا سوى نفسه على أي ألم كان يمكن له تجنبه فلم يتجنبه أو أي لذة كان يمكن أن يحصّلها فلم يفعل.

لحظة التوبة هي تلك اللحظة التي يقرر الإنسان فيها أن يواجه نتائج كل أفعاله وأقواله السابقة، وينظر في عيون كل من أفضت أفعاله إلى احتقارهم له، ولا يلوم إلا نفسه.

هي ليست لحظة اعتذار أبدا (الفاعل التائب يعترف، ويدفع الثمن، ولكنه لطبيعته الخشنة والمحافظة غير معني بالاعتذار) بل هي لحظة تسليم، لحظة توقّف عن مقاومة آثار تلك الأفعال ومحاولة تأجيلها وتجنبها وتجنب من تركت لديهم أسوأ الانطباعات.

هي لحظة تماس مع الحقيقة، تغسل بآلامها ذلك الذي لام نفسه، فأدى الحق إلى أصحابه إن كان ثمة حق، وخاض الألم بلا أي إسقاطات داخلية تبحث عن شمّاعات وتفلسف جرمه وتبرر.

المفعول به، لا الفاعل، هو الذي يبحث عن تبريرات، بينما من اختار أن يكون فاعلا، فهو محكوم بصيغة "لا تلومنّ إلا نفسك على كل ألم لم تتجنبه وكل لذة لم تنلها"....

مواجهة ألم الإحساس بأنه ضئيل في عيون أولئك الذين تم تسجيل جرمه في ذاكرتهم، مواجهة رفضهم، مواجهة أحكامهم المبالغ فيها على صغائر أخطائه (التي قد يغفرونها لغيره أو يصغرونها أكثر مما هي صغيرة)

مواجهة كل ذلك بصيغة "لا تلومن إلا نفسك" وتقبل غيظهم وتفهم أحكامهم، وعدم الخوف من رؤية مشاعرهم التي تستصغره رأي العين...

هذا هو حال الفاعل التائب.... فهو توقف عن التهرب من دفع الثمن...... وقرر أن يخضع للكيّ والألم........ دون مقارنات، دون احساس بالاضطهاد، دون عتاب ولوم إلا للذات التي فعلت فظلمت الآخرين، أو ظلمت نفسها فلم تتجنب الألم، ولم تحرص على اللذة.....

شرط التوبة اعتراف الفاعل بأنه المسؤول الوحيد، فالفاعل الكامل هو الذي يستطيع أن يتوب، وليس من يبحث عمن يشاركه الذنب ويتحمله معه، فهو ليس مشاركا في فعل، وليس منفعلا، بل هو مرسل للفعل لا مستقبل له، لذا من المؤكد أن التوبة هي للقوي، فالضعيف لا يقوى على التوبة، بل يبحث عمن يتشارك معه دفع الثمن، ويبحث عن تبريرات، وشركاء في الفعل، وفاعلين فعلوا فيه، وظروف جنت عليه.....

دعاء الفاعل هو ألا يحمله الله ما لا طاقة له به، فلا يقويه على فعل يتعاجز لاحقا عن دفع ثمنه، لأنه طالما فعل، فسيصبر صبر أولي العزم من الرسل على كل نتائج ذلك الفعل، دون تنصّل منها، حتى لو لم يعد يشعر أنه نفس الشخص الذي ارتكب الفعل، فهو يحترم الأعراف التي تلزمه بدفع الثمن.

الفاعل التائب هذا هو "محافظ" بالضرورة على تلك الأعراف، ليس متحررا يرفض كل القيود...

فبالنسبة للضعيف المستقبل للفعل عادة، أو المرسل لأفعال ضعيفة قد يكون أثرها كبيرا ضمن ظروف رافعة لها (كقناص جبان يصيب فارسا مغوارا من بعيد بكبسة زر)، هو يميل للحرية والتحرر، من ذاكرته ومن ذاكرة الآخرين (ولو بإدمان الشرب والتعاطي، الهيبيز مثلا) ومن أي قيود تلزمه "أو تلزم غيره" بدفع ثمن أي فعل قام به. فهو غير جدّي، وخطابه الذي يحتقر فيه ذلك المحافظ الجدّي مقنع له ولأمثاله من الضعفاء المتحررين....

فهم ينظرون إلى ذلك الجدّي على أنه متخلف، جامد، من القطيع، وفي أحسن الأحوال عبد للسيستم.

المعايير عندهم رخوة، وهم بطبيعة الحال –وهذا فضلهم الوحيد- أرقّ أفئدة عادة من الفاعل الجدّي، ولكنهم أكثر ولولة وأقلّ التزاما، بكل شيء، من العمل والوظيفة إلى مواجهة نتائج أفعالهم وأقوالهم....

ولا عجب أنهم دائما يحتقرون فكرة "العقوبة" ويميلون لتقليلها، ويتعاطفون مع كل من سيواجه عقوبة، ويطالبون بتخفيفها، كونهم ينظرون إلى من سيواجه النتيجة

(يعيشون في الحاضر دائما كونهم متحررين من الزمن فالجرم الذي استحق العقوبة أصبح ثانويا بالنسبة لهم)

بينما الفاعلون الجادون ملتزمون بشروط الزمن وبالتالي ينظرون إلى الماضي والمستقبل أكثر من الحاضر وبالنسبة لهم الجريمة مهما كانت قديمة فلها أولوية وبالتالي هم مع جزاء من جنس العمل، وأكثرهم شدة، مع عقوبة رادعة.

الخِيار من المحافظين يتوبون، ويبرؤون ذمتهم أولا بأول، ويحكمهم العرف والالتزام أولا وأخيرا، بينما الخِيار من المتحررين لا يقيمون للتوبة وزناً (الحاضر هو المهم) ويتعاطفون مع الجاني والمجني عليه بنفس الدرجة.......

أما شرار هولاء وأولئك، فيفجُر محافظوهم فجوراً إذا فعلوا، ودون التفات للضحية، واحترامهم للعرف هو بما يخدم مستقبل "مصلحتهم وحدهم"، باستخدام الماضي، ويلوذ متحرروهم بأوكار جبانة يقتنصون منها لذات خسيسة على حساب غيرهم (تركيز على الحاضر فقط ولكن دون تعاطف) وقد يكونون قناصين لعدول من الرجال، ينالون منهم بالقتل الغدر.

ووحدهم خيار المحافظين الجادّين يستطيعون (ويريدون) التوبة، وهم أهل للاحترام (وعادة ليسوا أهلا للتعاطف حتى وهم خيار، ولا يطلبونه)

أما خيار المتحررين فيلومون كل شيء إلا أنفسهم، ودعاؤهم أن لا يضطروا لتحمل أي مسؤولية، ولكن ولأنهم أهل "تعاطف" فلهم شفاعةُ قلبِهم، وهم أهل للتعاطف (وليس الاحترام) حتى لو لم يتوبوا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا