الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل علماني أكثر انفتاحا

نضال درويش

2005 / 9 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


" أنا إنسان ولا شيء مما هو إنساني بغريب عني "
مقولة قديمة أصلها في الأدب اللاتيني

يضمر العنوان تأكيدا و اعترافا بالمأزق المعاش أولا ، وما يرافقه من هواجس مختلفة ثانيا ، كما يؤكد راهنية و وجوب التحدي ثالثا ، و لا ينفي بالنتيجة اللحسة الإيديولوجية رابعا .

تدخل الأزمة العالم العربي مرحلة متميزة و نوعية ، حتى طالت كل مساحات الواقع ، بما فيها الفكرية و الروحية و الأخلاقية ، ليفقد بذلك المجتمع عناصر توازنه ، مما يضع المثقف أمام تحديات تاريخية متفردة فرضتها العوامل الداخلية و الخارجية عبر تداخلها و تخارجها ، " فاقدا " بذلك وهمه الذاتي بموقعه الحيادي تجاه قضايا الإنسان و الوطن ، كما اكتسب العامل المعرفي الموقع و الأهمية القصوى التي يستحقها ، بعد أن تم إهماله و تهميشه تاريخيا .
بجملة هذا الاعتراف الأولي و المبدئي علينا أن نبدأ ، إذا ما ادعينا إننا نحاول التأسيس – لعقلنة الوعي العربي – العقلنة هنا ليس بالمعنى الوضعي للكلمة – و الحد من الانهيار المعمم ، وتجاوز تظاهرات التأخر العربي .

وفيما يخص بحثنا ، البداية و محاولة التأسيس ، تحيل إلى قضية المنهج ، التصور ، أي كيفية ذهاب الـ " أنا " العارف إلى الواقع ، إدراكه ، تفسيره و كشف قوانين حركته و احتياجات تقدمه هذا من جهة ، ومن جهة ثانية منهجية التعامل مع النص المكتوب .
على ضوء ذلك تندرج محاولتنا لقراءة العلمانية ، وفهم مضمونها و مقاصدها و غاياتها و مستقبل العمل بها ، هذه القراءة ، المستندة إلى ثلاثة معطيات أساسية :
الأول : التقدم المعرفي و المنهجي و العلمي ، الذي يعتبر مكتسب إنساني ، علينا الاستفادة منه ،
و محاولة إغناءه و دفعه إلى أقصاه الممكن تاريخيا .
ثانيا : تفردن المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم بمرتسماته المختلفة ، التي دفعت بأغتراب
الإنسان و انخلاعه إلى حدود التشيوء ، وتحوله عبدا لوضعاته الخاصة ، وفقدان مصداقية
كثير من الأوهام بالخلاص الأرضي المرتبط بالعلم و الرأسمالية و السوق .
ثالثا : الواقع في العالم العربي وما يعنيه من انسداد في الأفق في ظل مناخ الأزمة المعبر عنها في حالة الإرهاب المعمم و ارتهان الجميع للجميع . مع وعينا لما تشكله العلماني و الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان ، من مدخل ضروري ، و إلى حد ما لا بديل عنه ، لوضع حد لكل
أشكال الاستبداد و القهر و الإرهاب ،ووضع أسس وركائز معرفية و سياسية و اجتماعية
للاعتراف المتبادل ، وحق الجميع في المساهمة بهذا القدر أو ذاك في صياغة مستقبل هذا
الوطن .

وباعتقادي ، إن المقاضاة الأساسية في هذا الموضوع ، هي مقاضاة الفكر و الوعي ، قبل أية بداية ، لذلك تكتسب الساحة الثقافية أهمية قصوى / تشكل الآن الركيزة و الرافعة لما هو سياسي / اجتماعي ، و لكن عبر علاقة مركبة - معقدة تشاكلية تداخلية تخارجية ، أي الآن بمحدداته التاريخية ، تشكل الزحزحة المعرفية ركيزة و خلفية للزحزحة السياسية – الاجتماعية .

و الزحزحة المعرفية ، هي بحد ذاتها إحالة إلى الصفر ، بتعبير إلياس مرقص ، هذا الصفر العظيم الذي هو انبساط ، و حامل اللانهاية ، أي أن الصفر ليس العدم ، العدم المعرفي ، بل هو انبساط النقد في سياق الفكر عبر نقد ذاته و حقائقه المزعومة ، لأننا إذا لم نبدأ بأصنام اللغة و الفكر ، أصنام و آلهة الـ " أنا العارف " كأننا لم نبدأ ، و تنهدم بذلك كل الركائز المحتملة للحوار القائم على احترام حق و حرية الآخر ، و إعادة إنتاج الوعي الغارق تحت هاجس الماهية الجوهرية ، بإمانه المطلق بأن قوانين العقل هي نفشها قوانين الواقع ، فيفترض معها أن يبلغ هذا الوعي : النفس ، العالم ، الله ، و يتحول العالم عنده إلى عالم الماهيات و الجواهر ، و التناقض و الاختلاف الاجتماعي إلى صراع بين آلهة الخير و آلهة الشر ، فالجوهر الذي يحركه يبعده عن جذره الإنساني ، و يستغرق في أحد انتماءاته ( إسلاميا ، مسيحيا ، يهوديا ، ماركسيا ، قوميا ، علمانيا ،............) ، و يضعه في معارضة ما يعتبره آخرون جوهرهم ، معتبرا سواه تجسيدا ملموسا للخطأ المطلق و الشر المطلق، الذي ينبغي حذفه و الابتعاد عنه بصورة نهائية .
ترتكز منظومة هذا الوعي على ثنائية ضدية حدية ، تميز بشكل حدي و قاطع بين الصح / الخطأ ، الخير / الشر ، المادي / الروحي ، المتعالي / المحسوس ، المشروع / غير المشروع ..... ، التي شكلت بدورها التحديدات الثنائية للانظمة اللاهوتية بتلاوينها المختلفة ( الدينية ، الماركسية ، القومية ، ....) ، مؤمن / كافر ، حلال / حرام ، طاهر / نجس ، وطني / خائن ، اشتراكي / برجوازي ، .....إلخ ، أي يؤكد ارتباطه بشدة و صرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية ، بعد أن يضعها في خانة الصح و الخير و الحق ، ويرفض بنفس الشدة و الصرامة مجموعة أخرى يضعها في خانة الخطأ و الشر و الباطل ، فيعتبرها لاغية لا معنى لها ، فينسجم تأويله للواقع مع مبادئه الأساسية بقسره على طاعة حقائقه المزعومة ، وإذا ما امتلك أي سلطة ، يرهب الواقع و يبتره ، و يعذبه ، فلا يعترف بتغيره ، تنوعه ، اختلافه ، تعقده ، صدفه و عشوائيته ، أي كل الذي يشكل عاملا أساسيا في زحزحة صنمه الأيديولوجي و التشكيك به ، و الكشف عن استبداده " 1 " .
فتتغذى بذلك معارك النفي ( الحذف ) المطلق المتبادل ، بين الأفراد و الجماعات و الطوائف والأحزاب ، حيث تحسم قضايا الخلاف السياسي ، الفكري ، الأيديولوجي ، اللاهوتي ، بواسطة الإرهاب المدفوع أحيانا إلى حد شرعية الوجود .
هذه العلاقة التحاذفية ، تعبير موضوعي عن التعصب الأعمى للذات التي تتطرف في تحويل ذاتها إلى مطلق ، و تُكسب ما ينبثق عنها الصفة الاطلاقية و التقديسية ( كلماتها ، أفكارها ، حركاتها، شعاراتها، براغماتيتها ) ، و تفرض على الآخرين ، المُستطفلين ، الضالين ، الذين عليم أن " يرتقوا " إلى سن الرشد المزعوم ، و طلب الغفران و الرجوع بعد الضياع ، إلى " فردوس " الواحدية المقدس و المخلص .
على هذه النهاجية الإيمانية يتمحور الوعي العربي السائد ، على اختلاف تلاوينه ، التي تجاوزت سمة النظريات و الأيديولوجيات ، و أصبحت عامل موجه في علائقنا الحياتية اليومية .
نعم : إن وثنية الروح ، تقيم شيئة المعرفة ، استبدادية الممارسة .

من هنا ، يكتسب الصفر بالمعنى المذكور سابقا ، أهميته و راهنيته ووجوبه ، ليشكل لحظة تمفصل ، بين زحزحة العقلية الحاذفة ، القائمة على الثنائية الضدية الاستبدادية ، و بين التأسيس لمشروع عقلنة الوعي العربي و دمقرطته ، عقلانية أكثر اقترابا من الواقع ، أي أكثر اعترافا بكل عناصر الواقع و مقوماته ، عقلانية أكثر انفتاحا ، تفتح المجال لاحتمال و إمكانية الخطأ و الصواب ، دعوة لقراءة جديدة للأشياء ، نحاول عبرها فهم الظاهرة بكل جوانبها و أبعادها ، و اكتناه الكائن بكل أنماطه و تجلياته ، و ذلك لتشكيل رؤية أكثر رحابة و معنى أكثر اتساعا ، و هوية أقل بساطة وتطابقا ، أي أكثر تركيبا و اختلافا ، ووحدة أقل حذفا و تهميشا و انشطارا ، إذن أكثر تعددا و تنوعا و تكاملا . " 2 "

لذلك نرى ضرورة الانطلاق من مبدأين أساسيين ، نرفع بهما لواء المفهوم – الفكر ، وإقامة الحد على شيئية و صنمية اللغة و الفكر ، هذا بمستوى ، و بالمستوى الآخر إقامة الحد على تحويل تضاريس الواقع و تبايناته ، ذاتيا ، ؟إلى سطح أملس قائم على الواحدية ، المعبرة عن " العقل لسليم " و " الخط المستقيم " .

المبدأ الأول : إعادة الكلمات إلى حقيقتها ، إلى و ظيفتها : فكر ، مفاهيم ، وهي رموز بدائل عن
الفكر أو المفاهيم ،" فالعلامة اللغوية " حسب دي سوسير ، عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران ( المفهوم و الصورة السمعية – التصور الذي تنقله لنا حواسنا للصوت أو الرمز المكتوب ) ارتباطا وثيقا ، أي أن العلامة اللغوية لا تحيل إلى الواقع الخارجي الموضوعي إحالة مباشرة ، و لكنها تحيل إلى " التصورات " و " المفاهيم " الذهنية القارة في قلب وعي الجماعة – و في لا وعها – فمعنى ذلك أننا مع اللغة في قلب " الثقافي " ، فالعلاقة بين اللغة و العالم محكومة بأفق المفاهيم و التصورات الذهنية الثقافية " 3 " ، و بالتالي فالمفردة اللغوية ليست كائنا مفردا موجودا أمامنا ، بل " عكسه " إنها تعبر عن كلي ، عام ، عن فكر و معنى ، لذا للكلمة أكثر من معنى ومن اتجاه من قصد ، المعنى المحدد يحدده سياق محدد ، و محكوم بعلاقة الكلمة مع كلمات ، و لنقل مع مقابلات أو معارضات ، فمعنى الكلمة لا يجتر مرّة واحدة و إلى الأبد ، بل إنها تخضع و باستمرار لضغط الزمان و المكان .
و تحتاج إلى التصويب المستمر من قبل الفاكرة ، عبر حوار خلاق و منفتح مع الواقع ، فتفقد بذلك الكلمة قدسيتها و ألوهيتها ، فتكف أن تكون العلمانية كلمة تحيل إلى الإلحاد و الزندقة ، و الدين يحيل إلى الشر و التخلف التاريخي ، و نتجاوز التضمين المسبق لهذه الكلمات الذي لعب دورا تجييشا يساهم في إدارة اللعنة المتبادلة، ودليلا على الشقاء المعرفي و المنهجي في الساحة الثقافية في المنطقة العربية ، بعد ذلك تأخذ هذه الكلمات المعنى المحدد ، بعلاقتها العضوية بالفضاء السوسيو – ثقافي التاريخي العربي ، فنلعب بذلك دورا في تبييء و تجوين المفاهيم التي تم نحتها في سياق تجربة أخرى ، و في إغناء المفهوم ليكون أكثر رحابة و انفتاحا أمام مساهمات التجارب المختلفة ، ليفقد المفهوم عنصريته الضيقة ، و يكتسب بعده الإنساني .
المبدأ الثاني : الاعتراف بالواقع كجملة ، ككل حي ، مجتمع و عالم و إنتاج و طبيعة و تاريخ ، قوامه الاختلاف و المغايرة و التنوع و التعدد و التغير و النفي المستمر ، و الفكر ، فكرنا إزاءه من أجل معرفته ، معرف الوجود – الاختلاف ، باعتبار أن الوجود بلا الاختلاف هو فكر و ليس سوى الفكر ، هوية كاملة مطلقة ، هوة الهوية .
في العمل ، الواقع يعارض الهدف ، المطلوب توقعن الهدف ، من هنا تأتي أهمية معرفة الواقع ، معرفته كجملة حية ، ككل متناقض ، كجمع يتضمن فكرة اللانهاية ، و هذه المعرفة لن يؤديها إلا الجدل : فكرة الجملة ، فكرة التناقض كمفهوم .
على عكس الوعي العربي السائد ، ذاتوي النزعة ، الذي تقوم عنده مقولة الجماعة ، الشعب ، الأمة ، الحزب ، .....كهوية نابذة للأفرادية ، و لاختلاف الأفراد الحقيقي ، للمغايرة و التعددية ، مخفضا الواقع إلى محض " موضوع " ، إلى مادة و " مادة أولية " يملك قوانين عملها ، وما عليه إلا أن يفرض إرادته و أهدافه على حساب الواقع ، أي منطقه و ذاتيته و حياته ، وهذا بحد ذاته حرب ضد الوجود ، الواقع ، ضد كل آخر ( سياسي ، أيديولوجي ، فلسفي ، لاهوتي ، قومي ، ....) فارضا اللون الواحد ، الرأي الواحد ، وهو موقف استبداد و إرهاب و عدم .
وعلى النقيض من هذا الموقف ، يشكل الاعتراف بالواقع جزء أولي و بسيط في التصور العلماني و الديمقراطي للعالم و السياسة ، التي هي ميدان مصائر الناس مع التاريخ ، الذي هو احترام للواقع ، للمجتمع ، للناس ، لفهم الناس و عقلهم و مذاهبهم .

على أرضية ما سبق ، يمكن أن نكوّن أرضية لفتح الحوار و الانخراط في عملية تستحق أن تسمى الجهاد الأكبر ( النفس و المعرفة ) ، متجاوزين اطلاقيات مقولاتنا و قدسيتها و قدرتها التعبوية و التجييشية ، عدا ذلك تنقطع كل أشكال الحوار ، وتتعمق الخنادق التتولوجية ، و تنكفئ الذات داخل سياجها الدوغمائي ، فلا " ترى " سوى داخل بطنها مصدرا للحق و الحقيقة ، وبالتالي لا يكون لوجهة النظر المختلفة أية أهمية تذكر .
وعليه ، أدعي ، أن الانخراط في عملية الجهاد الأكبر ( جهاد النفس و المعرفة ) تشكل مدخلا ضروريا لا بد منه للخوض في موضوع العلمانية ، الذي لا يكتسب أهمية نظرية فحسب بل أيضا حياتيه و معاشية .

لماذا من أجل علمانية أكثر انفتاحا ؟

يضمر هذا التساؤل كثير من النقاط ، أبرزها : أن هناك علمانية أو بالأصح فهم ما للعلمانية فقد مصداقيته نظريا و واقعيا و تاريخيا ، على الأقل هكذا أرى ، عبر تزمته و انغلاقه ، لحذفه كثير من أبعاد الإنسان ( الروح ، العاطفة ، الخيال ، التقديس ...) بلاضافة لعدم استيعابه لكثير من الأحداث التاريخية الأخيرة ، فتحول إلى خلفية أساسية في إدارة عجلة الإرهاب و الديكتاتورية ، بالرغم من بناء شرعيته تاريخيا بنضاله ضد إرهاب و فساد رجال الكنيسة ووعودهم الخلاصية.
كما يؤكد هذا التساؤل ، على الأزمة العالمية التي تعاش بربريا ، كما أوصلت البشرية إلى "إكتشاف " وهمها الذاتي ، بإنجازها المعركة الأخيرة تحت لواء " العلم و " العقل " .
وتأخذ هذه الأزمة مظاهر أكثر قبحا في العالم العربي ، ويمكن أن نعبر عنها تكثيفا : ضحالة و فقر في الثقافة ، وثنية في الروح ، فساد و تذرر و إرهاب في المجتمع ، استبداد و لا عقلانية في السياسة ، تبعية و ارتهان للخارج في الاقتصاد .
بالإضافة إلى هذه النقاط ، يدعو التساؤل ، دعوة صريحة لفهم أكثر انفتاحا ، أكثر جذرية ، أكثر واقعية ، أكثر قربا من الإنسان التاريخي ، أكثر واقعية ، يكتسب هذا الفهم راهنيه من راهنيه الأزمة و تعمقها و اتساعها و شمولها .

* * *

تدخل المسيحية ظافرة إلى العالم الهلنستي – اللاتيني ، وتنتشر في مناطق شمال المتوسط بنشاط روحي مكثف ، رغم كل أشكال الاضطهاد الذي تعرض له الداعين لها ، في القرنين الثاني و الثالث الميلاديين تتحول الكنيسة لاحتفاظها بممارسة اللغة اللاتينية في الصلاة ، واهتمامها بالقواعد و الأدب اللاتيني ، إلى أكبر قوة خلاقة في ثقافة العالم الروماني ، و إلى مركز للحضارة الجديدة بين القبائل البربرية ، ويبلغ الإنجاز الثقافي وجه في أواسط القرن الثالث في عهد كليمنت و أوريجين في الشرق ، و ترتليان و سبريان في الغرب ، عصر نشوء و تطور حياة الرهبنة و التجرد ، عصر أثناسيوس و باسيليوس ، و غريغواري الترينزي ، غريغوري النيسي ، امبروزي ، هيروئيم و أغسطين ، و الذهبي الفم ، عصر العماة و الفن المسيحيين ، الأدب و الفلسفة التي كانت محاولة لتفسير الكون من وجهة نظر المسيحية .
في نهاية القرن الثالث ، يدخل المسيحيون في المعادلة السياسية و العسكرية و الاقتصادية ، فيتم التزاوج بين الامبراطرية الرومانية و الكنيسة في عهد قسطنطين ، فتدخل الكنيسة مرحلة جديدة ، تلعب فيه دور " الدولة " و يتحول البابا إلى إمبراطور فوق الإمبراطور ، فتزداد قوة و بطشا ، من خلال ضبطها لحياة الناس في كل لحظة ، حتى طالت قوانينها التصرفات اليومية للناس العاديين ، لتشكل محاكم التفتيش عنوانها الأبرز ، " تقتل " أي محاولة ابداعية تزحزح ركائزها الأساسية ، من فلسفية و لاهوتية و علمية ...، مؤسسة لتصور مرعب للدين يقتل في الإنسان حس المبادرة و الحركة ، و يدعوه للاستكانة و الاستسلام و رفض الانخراط في العالم .
أي أن لمسار الكنيسة أكثر من وجه ، من اتجاه ، رغم محاكم التفتيش كانت الخلفية و الركيزة الثقافية و الروحية ، للنهضة الأوروبية و الانعطاف الأوروبي ، فبدايات النهضة لم تكن خارج الكنيسة ، التي كانت بحد ذاتها بدايات تراجع هيمنتها ، توما الاكويني ، كالفن و تمجيد العمل ، مارتن لوثر و تحطيم وحدة أوروبا الدينية و تقوية الشعور الديني ، زوينغلي ، إراسموس و الطباعة ، كوبر نيكوس ، فرانسيس بيكون و تقديم التجربة على جدلية القياس المدرسي ، غاليلو ، كبلر ، سبينوزا و الكتب المقدسة و كل تعيين هو نفي ، ديكارت " أنا أشك ، أنا أفكر ، أنا موجود " ، هوبس ، هنري الثامن و الكنيسة الوطنية الإنكليزية ، جون لوك ، الديمقراطية و التسامح الديني ، نيوتن ، جيمس واط و جورج ستيفنسون و تطور الإنتاج ووسائل النقل ، آدم سميث و العمل المجرد ، مونتسيكو ، جان جاك روسو ، فولتير ، كانط ، كوندورست ، روبسبير و الثورة الفرنسية ، دافيد هيوم ، نيتشة ، غوته ، بلزاك ، هيغل ، ماركس ، داروين ، كونت .....إلخ .
وبسبب من موقع الكنيسة المحوري ، كان من أهم أهداف الثورة البرجوازية من القرون الوسيطة إلى نهاية القرن الثامن عشر ، الكفاح ضد الكنيسة و حتى ضد الدين و المتدينين ، أخذ هذا الكفاح أشكال مدمرة و ظلامية ، فراحت دولتها الوليدة ، تحذف الجانب الثقافي و الروحي في الدين ، مثلما تقضي على الجانب المذهبي أو الدوغمائي المغلق أو السلطوي ، مدعية أنها تخلص البشرية ، بهذا العمل ، من كل أسباب الشر و الفساد و الاضطهاد ، إلا أن التاريخ يعيد الانطلاق في العواصف ، مع المقصلة و الانتفاضات و استعمار الشعوب و الحروب المتجددة .
في مناخ هذا المسار المعقد الآخذ شكل العلاقة الزورية الابادية " حياتك هي موتي ، وحياتي هي موتك " ، تبلورت تدريجيا التجربة العلمانية الأوروبية ، حتى أخذت شكلها الأكثر تزمتا في القرن التاسع عشر ، باندراجها في النظرة الوضعية أو الوضعوية التي فرضت نفسها كدين جديد لا يناقش و لا يمس ، رامية كل التراثات الدينية و مصدرها ( الوحي ) في دائرة القديم و المستهلك ، على أنها تنتمي إلى مرحلة الطفولة في تاريخ التطور البشري ، وما على البشرية لكي تعبر عن " نضجها " و " رشدها " ، أن تحذف هذا التراث و هذا البعد و تنتقل إلى الحالة الوضعية الإيجابية العلمية ، التي حملت معها وعدا نقيضا للدين التقليدي ، بالخلاص الأرضي ، الذي يتحقق بواسطة العلم الذي سيحل المسائل الأساسية للإنسانية .
هذا الانتقال ، المبني على الإقصاء الحاد و الحامي ، لم يحصل بشكل حدي و فوري ، و إنما كان نتيجة سيرورة تاريخية طويلة و معقدة ، كان الفصل فيها نتيجة لعملية جراحية صعبة جدا ، طالت كل مساحات الواقع –النفسية ( البسيكولوجية ) المعرفية ، السياسية ، الروحية ، القانونية .....إلخ .

الإنسان / حياة ، " الإنسان السياسي " ( الاجتماعي ) بمعنى أرسطو ، يتراجع أمام الفرد المعزول في الجمهور الكتلة ، أمام الإنسان / التقني العلمي ، بسبب من اغتراب الإنسان و تشيؤيه ، متحولا و عمله إلى سلعة تباع و تشترى ، تراجعا يقيم قاعدة كبيرة لقهر شمولي ، فالحضارة الرأسمالية المعممة تكشف عن بربريتها المتوحشة ، التي تأخذ أشكالا متباينة بالنسبة لشعوب المعمورة ، منفلته من جذرورها الإنسية و التنويرية ، معرية الإنسان من قيمه الإنسية المكتسبة تاريخيا ، كاشفا عن ذئبية متفردة ، مهددة الإنسان و الطبيعة بالانتحار و الفناء ، وهذا ما عبر عنه و بشكل ملفت رينيه هويغ في كتابه المشترك مع ديزاكوايليدا " إن الأزمة التي تهدد البشرية اليوم ليس مصدرها الخارج ، إن المنزل الذي نعيش فيه ليس مهددا بإعصار ظاهر في الأفق ، و إنما يهدده شاغلوه – البشر ، المتنافسون في سياق الكسب – الذي يتخاصمون على أثاثه ، ويقتلعون سقوفه و أخشاب أرضيته و ينخرون ركائزه ، فيهددونه بالانهيار " ( 4 ) ،
و لما لا طالما الفلسفة الذرائعية و الوظائفية تقبع خلف الممارسة السياسية ، و التي تعني بالوجه الآخر تلوع الضمير و الأخلاق ، حيث تشكل المردودية الاقتصادية و الربح المادي محور علاقاتها ، دون أي اكتراث بالآخرين ، الأفراد أو الشعوب الأخرى ، التي تأن تحت وطأة الجوع و الحرمان و الفقر ، أي ، بمعنى آخر ، إن هذه العقلية السائدة الآن في الغرب الرأسمالي و بعلاقتها مع و حدانية السوق ، لم تحذف فقط الغائية الآخروية للأديان ، و إنما حذفت أيضا كل غائية اخلاقية وروحية ، بعد أن أنتجت آلهة و أوثان جدد ، المال ، السلطة ، " الفرد" ، " العلم" ، " العقل" .....إلخ ، و هنا تأخذ مقولة ماركس حقها و استخقاقها ، عندما يتحول المال إلى إله تتحول كل آلهة البشر إلى سلعة .

الآن ، ونحن في بداية الألفية الثالثة ، قضية و معضلة " المجتمع الإنساني " أصبحت راهنة وكلي و كوني ، فثمة كلية قهر و جدلية قهر ، تنهار فيه وعود الأنوار و عام ( 1789) بالخلاص الأرضي و الفردوس المفقود على الأرض ، كما ينهار الوهم الذاتي بقدرة العلم و الأيديولوجية العلموية على حذف كثير من أبعاد الإنسان ( الروحي ، التقديسي ...) علميا ، بعد أن ساهمت في اختزال الإنسان إلى جسد ، قائم على بعدين وحيدين ، الإنسان / منتجا بالمعنى الضيق للكلمة ، و مستهلكا .
فيواجهنا التاريخ بحقيقة يجب وعيها على الدوام ، ليس هناك معركة أخيرة تم خوضها أو سيتم خوضها ، ليس هناك نهاية له ، مؤكدا أيضا ، أن الكائن له عقله و مكره ، و قوام الواقع ليس مكر البشر مهما مكروا ، و ثأره : الموضوعي يغلب الذاتي ، يؤكد و يحد و همه .
وبالتالي ليس عبثا ، أن كثير من المظاهر الاجتماعية تعود لتفرض نفسها واقعيا على نظر المهتمين و الدارسين ، فتاريخ البشر ليس خطا مستقيما ، بل إنه اعقد بكثير ، وهذا التعقد لا ينفي بالضرورة الخط .
وهذا ما ينطبق ، تماما ، عل ظاهرة التقديس (Lesacre ) أي حاجة الإنسان إلى التقديس ، و الانفتاح على التسامي ، التي تنتمي إلى التراث الجيني و الثقافي للنوع ، و التي تم إغفالها ووضعها جانبا ، على أساس إمكانية الإنسان " العلمي " على القطع مع هذا الإثم العلمي ، نراه ينبثق الآن أمامنا ، في الغرب و العالم أمتداده ، على أرضية الشدة الواقعية ، مع ضروب من الفوضى و الاضطراب و التهديد بالإرهاب .



التاريخ ، وباستمرار ، يفرز أسئلته التاريخية ، ركيزة جدل الإجابة و النتيجة ، إلا أن الإجابات تنتمي إلى دائرة الذاتي ( فرد ، حزب ، أمه .......) ، و النتائج تنتمي إلى دائرة الموضوعي ، ذات الموضوع ، لتؤكد بالتالي حدود الإجابة و نقصها و مرحليتها ، فالإجابة ليس عابرة للزمان و المكان .

لن أتعرض ، في هذا البحث لتاريخ العلاقة المباشرة و غير المباشرة بين الغرب و العالم العربي ، و ما أثارته من ردود في محاولة الإجابة على السؤال المقلق ، لماذا تقدم الغرب و تخلف المسلمون ؟ ، و العلمانية ليست خارج مضمار هذا التساؤل ، وهنا تندرج محاولة شبلي شميل و الكواكبي و الطهطاوي و الأفغاني و عبدو و المسار طويل ، إلا أنني يمكن أن أتكلم عن الخطوط العريضة في كيفية تعامل الوعي العربي السائد مع هذه القضية ، وكتابات كثير من الباحثين و المفكرين ليست خارج هذا الوعي ، بل يمكن أن تكون أكثر ارتكاسا و شقاء .
فمن موقع الإتكالية و الاستلاب المنهجي / المعرفي ، كنا ندعي تاريخيا ، بأن التطور الأوروبي قد أجاب على كثير من الأسئلة التي أفرزها التاريخ ، إجابة شافية ووافية ، ومنها بالطبع موضوعة العلمانية ، هذه الإجابة التي شكلت مرجعية للوعي العربي السائد ، بتياراته العريضة ، على أهمية التياينات في خلفيلتها الأيديولوجية – السياسية ، فمنها من تبناها جملة و تفصيلا ، و ما على الشعوب الأخرى ، سوى تطبيق الوصفة الأوروبية لتدخل " ملكوت السموات و الأرض " ، ومنها من تعامل معها باللامبالاة ، كونها تمثل ترفا برجوازيا نزقا ، وتشكل مرحلة تاريخية غابرة ، لذلك لم تدنس وعيها بالتعرض لها ، لأنها تمارس مهام تاريخية مهمة و هي على عتبة الفردوس الاشتراكي ، أما التيار الآخر فقد رفضها جملة و تفصيلا ، فهي من نتاج الغرب الصليبي و الرأسمالي الغازي ، فتوجه إلى بطن الذات ، باحثا و نابشا قبورها ، ليبعث فيها الحياة ، ففيها ما يفي بالغرض ، و إذا ما دعت الحاجه ، يقوم بتغليف المعايير و العلوم و المعارف و المفاهيم بمخلفات بطن الذات ، ليؤكد ، وبوهم ذاتي ، على أن الـ " أنا " النقي و الصافي ، غير " مدنس " بالآخر و ملوثاته .
هذا الاستلاب و الشقاء المنهجي / الأيديولوجي ، أسس موضوعيا لعلاقات الحذف المتبادل ( نفسي ، فكري ، سياسي ، ....) و أعاد إنتاج العلاقات ما قبل المدنية ، " لأن كثير من العداء في مجال الفكر بصفة خاصة يرتد إلى " عدم الفهم " أو إلى عمليات " التباس " ناتجة عن سيطرة نزعة تتصور أن " ما في الأذهان مطابق مطابقة تامة لما في الأعيان " وتزيد درجة الالتباس " و ما تفضي إليه من عدم الفهم و ما يترتب عليها من عداء و رفض ، حين يكون " ما في الأذهان قديم و راسخ ، لأنه يكتسب من القدم صفة العراقة التي تفضي عليه المشروعية التي لا يجوز المساس بها أو الاقتراب منها ، لأنها مشروعية مقدسة " ( 5 ) ، فتحت مقولات الحاكمية لله و الاشتراكية ، الطبقة ، الوحدة ، القومية ، العلمانية .... ، يكفر و يخون كل آخر ، إلا إذا كف عن أن يكون آخرا مختلفا ، ليسود بذلك مناخ دائرة العنف ، باسم هذا المقدس الديني الطائفي القومي الماركسي العلماني العشائري ... ، الذي يشكل إحدى بؤر الاستنزاف الاجتماعي الأكثر التهابا في الجسم العربي .
وهذا يرسم لنا ، إلى حد ما ، الملامح المأساوية التي تميز الواقع العربي ، و يؤكد لنا مدى راهنية ووجوب التحدي ، الذي هو على أرضية ما سبق ، تحد منهجي / معرفي بامتياز ، و سياسي- اجتماعي – اقتصادي بالضرورة .
فالفكر عندما يعي ماهيته ، كفكر ، يضع ، وباستمرار ، مساره أمام المسائلة ، في عودة نقدية على ذاته ، ناقدا أخطاءه ، معنيا بالتصويب المستمر ، طالما الخطأ يميز مملكة الفكر ، فالفكر هنا حالة تساؤليه لذلك اتصافه بالمرونة و الجرأة الاقتحامية .
فالواقع يحمل مسألته و قضيته على شكل آخر ، دائما ، و في كل مكان و زمان ، و ما على الفكر إلا أن يعي هذا الأساس ، وذلك دون إهمال ما هو كوني و عام ، و المكتسب الإنساني ، و البعد التاريخي و المنطقي / المعرفي ، في مقاربته للقضايا التي تطرح عليه .
بهذا المسار تندرج قضية العلمانية ، فالعودة النقدية على علمانية القرن ( 19 ) بعد أن تأكد ضيقها و تزمتها ، هذا لا يعني بالضرورة هجرانها نهائيا ، بل استنباط الجوهري و الإنساني و المعرفي ، وتعرية التاريخي ( المرحلي ) و العرقي و الأيديولوجي ، وخصوصا الجوانب " السلبية " المرافقة للنظرة الوضعية أو الوضعوية ، ومسلماتها اليقينية الثابتة و الضيقة .

بهذه النهجية ، وعبر الانخراط في عملية الجهاد ضد الذات و على الذات ، يمكن أن تشكل العلمانية مدخلا ضروريا و ركيزة أساسية لانتقال المجتمع من دائرة العنف المرتكز على عدم الاعتراف المتبادل ، وذلك بمشاركة الدولة / السلطة ، إما طرفا في الدائرة أو حارسا لها و مساهما ، إلى هذا الحد أو ذاك ، في إعادة إنتاجها ، إلى مناخ السلام الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل ، احترام حرية و حق الآخر ، بالإضافة إلى تقويم العلاقة بين الدولة و المجتمع ، دولة الحق و القانون ، هذا الانتقال الذي هو بحد ذاته انتقالات متداخلة يستدعي بعضها الآخر ، معرفية ، نفسية ، اجتماعية ، سياسية ، ثقافية ، اقتصادية و قانونية .
أي أن قضية العلمانية ، كما نفهمها و ندعو إليها ، أوسع و أعمق بكثير من قضية تضاد الدين و الدنيا ، فهي أولا و بداية قضية لغوية – فلسفية ، قضية واقع ، قضية شعب ، قضية حضارة على عتبة الزوال ، وأمه في مناخ الانتحار الجماعي .

" العلمانية من منظور مختلف "


بسبب من طرحنا القضية بهذه النهاجية ، تشكل دعوة للدخول في الموضوع ، الإشكال ، في الراهن ، في منطق و عقل الواقع ، حيث تتموضع العلمانية في المسار المؤكد على موضوعيتها ، كتظاهرة فرعية للمجتمع العقلاني ، و غصن من شجرة المعرفة ، نتاج فرعي ، أي ليست ظاهرة منفصلة أو تيارا مستقلا ، هذا ما تؤكده دروس التاريخ ( فرنسا ....، تركيا ...) هذا خيار الجذرية و الراديكالية ، المسار الأعقد و الأطول ، و منطق هذا الخيار ، كما يقول الياس مرقص ، و عي الذات من أجل وعي الواقع ، وعي الآخر ، واستقلال الوجدان و جهاد المعرفة ( النفس و العقل ) من أجل الحق و ( الحقيقة ) ، فالمعرفة هنا ، عتلة و ركيزة لتجاوز الأزمة المعاشة ، و إذا كان الفكر لا يصنع التاريخ ، فليس هناك تاريخ بلا فكر .
من جانب آخر ، يتم التقريب بين الفكر و العمل ، و الرفع من مردودية نشاطنا اليومي ، حينما نعي إن تحليل المفاهيم يشكل الوسيلة الأساسية لتنوير الذهن و تقويم المنطق ، حيث إن الكلمات تجسّم مجالات مفهومية تشير إلى تجارب ، و التجارب لا تترجم إلى الواقع الاجتماعي إلا إذا تم التعبير عنها بطرق مستساغة لدى الجميع . " 6 "

فمفهوم العَلمانية ـ بصرف النظر عن قيمته الفكرية و أهميته الاجتماعية و السياسية ـ يشكل واحدا من أكثر المفاهيم غموضا و التباسا و حساسية في الوعي العربي السائد ، بأخذه في تغطية مضامين مختلفة و غير محددة بالنسبة إلى جميع الناس ، مثل العداء للدين و التغرب و الاستلاب ....إلخ ، فاقدا بذلك و إلى حد ما قيمته الفكرية الإجرائية ، مما شكل حائلا أمام اشتغاله بشك إجابي في تنقية المناخ الاجتماعي السياسي . بل تحولت عقيدة العلمانية ، في الساحة العربية إلى طرف إضافي في الصراع العقائدي ، ومصدر جديد لتوليد الخلاف و تعميق الانقسام الأيديولوجي السياسي الاجتماعي " 7 " ، و مصدرا إضافيا لتنامي الديكتاتورية و تبريرها " 8 " .
من هنا تكتسب في ساحة الفكر العربي قضية الفكر – المفهوم أولويتها و أهميتها ، ضد أشباح الحسّ و الجوهر الآتية إلينا من ماضٍ سحيق ، و من حاضر متأخر و موات في إطار الامبريالية البربرية . و المدخل اللغوي يشكل مدخلا ضروريا ، للوضوح و التحديد المفهومي ، لا معرفة دون اللغة و لا مفهومية ، إنها توسط بين الفكر و الواقع ، انطلاقا من نقد مفهوم التمثل أو التمثيل ، و أصبحت إمكانا للوجود ، تحيل إلى تجارب اجتماعية – تاريخية ، حتى إنه يمكن القول : [ان اللغة هي مفتاح الوعي ، و بأن الوعي بلأشياء نشاطا رمزي لغوي " 9 " .

إن كلمة " عَلمانية " بمعنى حالة أو وضع هي ترجمة عربية للكلمة الفرنسية " Laiciteََََََ " أو " Secularisme " ، أما كلمة " Laicite " فهي مشتقة من كلمة Laicos اليونانية ، التي تعني عامة الناس و تميزهم عن رجال الدين ، و التي اشتقت منها " Laique " للدلالة على المدني العادي ، إبن العامة ، غير المتعلم ، و ذلك مقابل كلمة " Clerc " التي استخدمت للدلالة على رجال الدين ، الكاهن ، المتعلم . و في لاتينية القرن الثالث نجد أن كلمة Laicos تعني الحياة المدنية أو النظامية ، حيث يعيش الناس حياتهم بكل معطياتها ، و تعارضهم مع محاولات رجال الدين المستمرة للتدخل من أجل ضبطها irijular . وظهرت كلمة Laicite بمعنى مذهب أو عقيدة ، و كلمة " Secularisme " التي تعني دَنيوة ، المشتقة من " Seculier " التي تعني الزمن ، الدهر ، في مقابل اللازمن أو الروح أو الدين .
كما إنها ترجمة للكلمة الإنكليزية " Secularism " ، أو Secularizatian بمعنى تحويل أو عملية ، تشتق من كلمة Socular ( المدني العامي ) ذات الأصل اللاتيني " Seculris “ المشتقة من Saeculum التي تعني القرن ، الزمن ، العالم . و ثمة لفظ آخر لاتيني يعني العالم هو mundus ، و الفرق بين اللفظين ، الأول ينطوي على الزمان ، العالم متزمن بالزمان أي له تاريخ ، أي إنه محكوم بالزمان و التاريخ ، أما الثاني فينطوي على المكان ، أي إن التغيير حادث في العالم و ليس لـ العالم ، و هو لهذا يعني في اللاتينية أيضا لفظ Cosmos أي الكون أو الجمال أو النظام .
و قد أفضت هذه الازدواجية في اللغة اللاتينية إلى مشكلة لاهوتية ، و هي الخلاف الحاد بين الرؤية المكانية للوجود عند اليونان ، و الرؤية الزمانية عند العبرانيين ، و قد رفع هذا التناقض في مفهوم العالم في العصر الوسيط ، بتقدم العالم المكاني أو الديني على العالم التاريخي ، و أصبح لفظ علماني محصورا في معنى ضيق ، إذ أطلق على الكاهن " الديني " الذي يتحمل مسؤولية إدارة أبرشية ، فيقال في هذه الحال إن الكاهن قد " تعلمن " " Secularized " .
ثم اتسع استخدام اللفظ عندما استقل الإمبراطور عن بابا روما و سمّي هذا الانتقال ب " العلمانية " . " 10 "
أما كلمة " علمانية " و اشتقاقاتها في اللغة العربية ، حيث تشكل حركة العين نقطة خلاف بين المهتمين العرب ، و هي ليست خلاف محض شكلي ، بين من يؤكد على إنها مشتقة من " العِلم " ( بكسر العين ) ، إدراك الشيء بحقيقته ، و معرفة منظمة تدور حول موضوع معين ، و تقوم على منهج مقرر و تؤدي إلى نتائج و قوانين كتطابقة ، و بين من يؤكد على اشتقاقها من " العَلم " بمعنى العالم ، العالم الدنيوي ، عالم البشر ، و العلماني من يعني بشؤون الدنيا .
و لكن مهما يكن ، فبقدر ما هناك من اختلاف و تباين بين الاشتقاقين ، هناك تقارب و تقاطع ، يؤكد على عضوية العلاقة بين العَالم ، صانع العِلم ، موضوع العلم ، و بين العِلم .
رغم هذا التعدد الاشتقاقي ، و التطور اللغوي و الاصطلاحي " للعلمانية " ، إلا أنه يمكن أن نلاحظ ، ناظما محوريا يربطها ، على أهمية التباينات في الفضاءات السوسيو _ ثقافية ، وهو الإحالة إلى العالم ، إلى الحياة ونبض الحياة ، و الاعتراف بالإنسان و عالم الإنسان و مسؤولية الإنسان ، هذا بمستوى ، و الإحالة إلى جدل محاولات الضبط المستمرة ( الضبط بالمعنى الواسع ) و محاولات الإنفكاك التاريخي منه ، و البحث عن مساحات أوسع " للحرية " و الاستقلال بالحدود التاريخية بمستوى آخر .
و ضمن هذا الجدل تندرج نشاطات الإنسان المختلفة ، الفلسفية و اللاهوتية و العلمية و الفنية و ......إلخ .
و لما كان البعد الإيديولوجي _ الميتافيزيقي ، هو البعد المهيمن في النظام ما قبل الرأسمالي ، لذا فقد كان محورا لهِم و نشاط الإنسان ، دون فرق بين المنتمين إلى الإسلام أو المسيحية أو اليهودية ، أو الوذية .........إلخ ، وهذا يجعلنا نستنتج استنتاجين مهمين ، الأول : لا يجعل العلمانية بمستوييها ( مستوى الحياة و العالم ، ومستوى جدل الضبط و الانفكاك ) تستغرق بهذا البعد و بهذه المرحلة التاريخية ، و الثاني : لا يجعل العلمانية مسيحية – غرب الهوية ، و إلا لا معنى لهذا الموضوع ، و لفتح هذا الملف الآن، إن كان في الغرب أو في العالم بتبايناته المختلفة .

من هنا فالعلمانية ، من وجهة نظرنا ، تشكل تنويعة على مفهوم العقل ، حيث ترتبط أوثق ارتباط بقيم العقلانية و العلمية و الحرية النقدية بمستوها المعرفي / الأخلاقي ، أي إنها تتموضع على النقيض و التعارض مع كل ما يمكن أن يقيم حدودا على العقل و الضمير ، عبر تهديم أصنام الفكر و الروح ، و الخروج من أسر الأيديولوجيا و استبدادها السياسي . بكلام آخر ، تتموضع على النقيض من كل أشكال السلطات ، مع سلطة رجال الدين و تدخلهم السافر في شؤون الإنسان ، و مع سلطة رجال السياسة و الدولة و ديكتاتوريتهم الشمولية ، مع سلطة النص المقدس و غير المقدس ، أي مع الاستبداد الديني و السياسي و المعرفي ، نازعة طابع القداسة عن النصوص و الأفكار ، و طابع العصمة عن البشر . بالتالي تجاوز قراءة العلمانية بدلالة الدين و رجال الدين إلى قراءتها بدلالة العقل و المعرفة الساعية و باستمرار إلى الحقيقة .
أي أن العَلمانية موقف معرفي ، أخلاقي ، وجداني ، و عودة مستمرة إلى نقاء الضمير ، عبر جهاد النفس و جهاد المعرفة المنفتحة و الحرة إلى الحد الأقصى الممكن تاريخيا ، بحمل جدل الشك و الإيمان و الذهاب إلى أعماق الأشياء ، إلى الجذور ، من أجل تشكيل رؤية أكثر صحة و عدلا و دقة عن الإنسان و عالم الإنسان ، بذلك تتموضع و باستمرار في لحظة السلب بالمعنى الهيغلي ، تلك اللحظة المبدعة و الخالقة ( التي تحولت في الوعي العربي السائد إلى لحظة حذف و استبداد ) التي تخترق كل المعيقات و الحواجز المقدسة و غير المقدسة ، تصورها أن الدنيا – تاريخ ، الدنيا نفي باستمرار ، تشكل ، تغير ، تكون ، و ليس الدنيا – دنيا ، أي إنها أوسع بكثير و أعمق من فصل الكنيسة عن الدولة .
ثمة في الإنسان الواقعي التاريخي ، كما يقول محمد أركون ، حاجات و دوافع ، متزامنة ، تتجه عموما في اتجاهين أساسيين مترابطين ، توجد أولا مرتبة الرغبة Limstame du desir التي تتأرجح من الرغبة في معانقة المطلق ( الله ) مع كل القوى التي أثارتها على مر التاريخ ، وصولا إلى الرغبة البسيطة المتمثلة في الإنجاب و الغنى و الهيمنة ..... ، أما المرتبة الثانية أو البعد الثاني فهو إلحاح الفهم و التعقل Lexigence de Lintelligcilreit ، هذا الإلحاح الكامن في أعماق الإنسان ، الذي يشق طريقة و يؤكد نفسه ضد القوى المتمثلة بالرغبة . ضمن هذا المسار المعقد من الجدل و التداخل بين المرتبتين و سعي الإنسان و نضاله المستمر من أجل الفهم و التعقل ، يندرج تاريخ العلمنة بالضبط ، ، و قفة الروح الإنسانية أمام مشكلة المعرفة " 11 "
أي إن تاريخ الإنسان في أحد مستوياته و مساراته العميقة ، تاريخ الاتصال و الانفصال ، التجاذب و التنابذ ، التداخل و التخارج ، بين السحر و المقدس و الأسطورة ...من جهة ، و العلم و الفلسفة و العقل من جهة أخرى .
و بالتالي فإن الأسطورة و المقدس و الخيال و العاطفة و الشعور و .... في النوع البشري المسمى بالعارف ، أصيلان صالة الشك و العقل ، ولا يمكن طردهم من مملكة العقل و الإنسان مكللين بالزهور ،كما فعلت عقلانية المناخ الوضعي ، التي اختزلت الإنسان إلى الإنسان التقني / العارف ، و حولته إلى جوهرٍ ، مجردٍ ، كامن في مكان ما خارج هذا العالم ، و حولت العلمانية ، بالضرورة ، إلى دين جديد متزمت ، يكفر ما عداه ، وتحول هاجس العلمانية إلى طرد الدين و الرغبة في المطلق و الحلم و الخيال من مملكة الإنسان غير مكللين بالزهور .
وعلى هذا لا يمكن الفصل بين نقدنا للعلمانية المتزمته و الضيقة ، ونقدنا للعقلانية الوضعية . هذا النقد ، هو دعوة من أجل علمانية أكثر انفتاحا ، و عقلانية أكثر اقترابا من الإنسان و عالم الإنسان ، تعترف بتعقده الإكولوجي و الثروات الملازمة له ، فتتجاوز مدلول الإنسان التقني ( الصانع ) بأن تضم إليه ، ضما لا يقبل الفصل ، مدلول الإنسان الخيالي ( المتخيل ، الحالم ، الإيهامي ، الإسطوري ) ، وهذا وحده يسمح بتأمل قدرة الإنسان العارف على إنتاج الشعر و الفن و الحلم ......" 12 " .
فالعقلانية لا تقتصر على تماسك البناء النظري المبحوث عنه و الموجود ، ونقدها للعقلاني فقط ، بل اعترافها به و محاورته ، و محاولة تصوره ( كل إبداع يتضمن شيئا من فوق عقلاني ، تستطيع العقلانية ، احتمالا ، أن تستوعبه بعد حدوثه ) و في إرادة الحوار المفتوح مع الخبرة ، و مع العالم الخارجي بصورة أوسع ، فتفترض دائما ، أن معرفتنا لم تكتمل و إن جديدا سيأتي لتعديلها . " 13 "
على ركيزة انتقالنا الأساسي من نهاجية العقل الوضعي و علمانيته ، إلى نهاجية العقل ( و حسب ) الجدل و علمانيته الإنسية ، ننتقل عند الحديث عن التقديس و التعالي و العقل و الأسطورة و التاريخ ....إلخ كأنها هوّيات جوهرانية جامدة لا تتغير ، عابرة للزمكان ، و موضوعة فقط في خدمة الخطابات الدينية و اللاهوتية و القانونية و العلمانية التي تقتصر على نوع من العقائد الدينية التبسيطية ، تشكل سببا و نتيجة للشدة الواقعية و الحذف المتبادل ، وذلك من أجل امتلاك السلطة ، رغم الغطاء الأيديولوجي الذي يغلف به مشروعها السياسي .ننتقل إلى تتبع آليات التقديس و التعالي و العقلنة و الأسطورة ....، داخل الوجود المحسوس للبشر ، و دراسة التداخل و التفاعل و الارتباط الوثيق ، بين تجليات التقديس و التصورات الدينية و الثقافية و السياسية ، وبين الحقل الاقتصادي – الاجتماعي لمجتمع من المجتمعات .
فالتصورات الدينية ليست محض إلهيات ، فالدين بشري ، و الإلهي له وظيفة تسويغ البشري بعد تأكيد حدوده ، فالمطلق لا ينحل في نسبيات البشر ( الدين ، الحزب ، الأمة ...) أي إن الدين ابن الإنسان و التاريخ ، و هذا ما يؤكد نسبيته ، ويفسر تعدده و تطوره التاريخي و مرونته التاريخية ،و من جهة أخرى يحيل إلى و هم تحرير الأديان من دنس الإنسان .
بهذا التصور للعَلمانية ، ننتقل و على كل المستويات ، من استبعاد التناقضات إلى الالتحام معها ، و هو بحد ذاته اعتراف برحابة الحياة وغناها ، و اعتراف بكل أبعاد الإنسان ، بذلك لا يستبعد هذا التصور الدين و ( تجليات التقديس أو الحرام ( Sagre ) ) من ساحة الدراسة و الاهتمام ، كما تفعل النظرة التقليدية و العلمانية ( العلموية ) المتزمته التي تدين الدين سلفا ، بل يأخذ هذا البعد ( الظاهرة ) حقه و استحقاقه و يندرج كعامل من عوامل أخرى ، فاعلة و مؤثرة على المسار التاريخي للمجتمعات البشرية ، حيث إن فهم ما للدين في مرحلة تاريخية ما و ضمن شروط اجتماعية بعينها ، يمكن أن يشكل عامل إعاقة و تأخر و تبرير ، و بالوجه الآخر يمكن أن يكون عاملا أساسيا في التغيير و النهوض .
وبذلك يمكن أن نتجاوز التضاد الاستبعادي بين الرؤيا الدينية / و الرؤيا اللادينية ، بين العقل / و الأسطورة ، و النظر إلى جملة هذه العلاقات و الإشكاليات بطريق تساؤلية منفتحة لا دوغمائية ، و نؤكد عل العلاقة الوثيقة و العضوية ، بين الرؤيا العلمية و التاريخية للعالم ، و بين البعد الروحي أو الرسالة الروحية للإنسان ، فيمكن أن نتوصل بذلك إلى إيمان جديد يتجاوز الإيمان القديم و يحتضنه و يكون بحجم حداثة العالم . " 14 "
وعليه ، بهذا الفهم و التصور للعلمانية ، يتم التأكيد على اشتراطها البشري ( جدل الفهم و الرغبة ) و ارتباطها بكل التجمعات البشرية ، فلا يمكن أن تكون غائبة تماما عن أي تجربة تاريخية لجماعة بشرية ما ، حتى لو تجلت أحيانا في صور ضعيفة و غير مؤكدة هنا ، أو ذُهب بها أبعد ما تكون تاريخيا هناك ، إلا أن هذا لا يكسبها جنسية محددة ، تربطها بهذا الدين أو ذاك أو بهذا المجتمع أو ذاك .

العَلمانية ، الديمقراطية ، المجتمع المدني

في دائرة " المجتمع المدني " عثر ماركس على مفتاح التاريخ ، في المجتمع المدني و ليس في الدولة ، السياسة ، الأيديولوجيا ، فلسفة الحق .....
عندنا من يريد " العلمانية السياسية " بدون " العلمانية الاجتماعية " و كبديل عنها ، علمانية " الولاية " بدون و ضد علمانية " الكينونة " ، اجتماعية الدولة بدون اجتماعية المجتمع ، كائنية الشكل بدون كائنية كائنه ، يريدون دولة تكون مجتمعا مع تقرير أن المجتمع يجب أن يبقى جماعات ....، بل ، أحيانا ، تأتي قومية الدولة مع " لا " لقومية المجتمع و اندماج المجتمع ، هذا لحن عربي سائد و معروف . " 15 "
قضية العلمانية ، هي قضية الإنسان ، الإنسان – تاريخ ، قضية الدنيا ، الدنيا – تاريخ ، و بعد ذلك ، فقط ، قضية مجتمع ، وطن ، هو واقع و روح و إنتاج و إعادة إنتاج و تعامل و عقل و عقالة .قضية جرّد و تجريد ، قضية معرفة ، و مشكلة معرفة . المنطلقة من جدلية العلاقة بين الوعي و الوجود ، بين الذات و الموضوع ، ووحدتهما في الممارسة الحية ( البراكسيس ) لحظة التوسط الديالكتي بين الفكر و الواقع ، أو لحظة التركيب و نفي و النفي ، نقطة انطلاق التاريخ و صيرورة العالم و المعرفة ، و شرط الانتقال من الضرورة العمياء إلى وعيها ، أي إلى الحرية .

أي أن المشروع العلماني في أحد مستوياته الأساسية ، بمنظورنا ، هو نضال من أجل حرية الميول و الاتجاهات ، السياسية و اللاهوتية و الفلسفية و الأيديولوجية ، وهذا يحيل على إنه نضال من أجل الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان ، بوصفها ممارسة الحرية في المجتمع و الدولة ، في علاقة الاقتران و الجدل هذه ، بين العلمانية و الديمقراطية ، يكتسبا أبعادهما الرحبة و الغنية ، على المستوى المعرفي / الأخلاقي و الاجتماعي / السياسي ، و يؤكدان بالضرورة على الجذر الدنيوي الواقعي للإنسان و الحرية التي هي الضرورة عندما تفهم .

فالعلمانية و الديمقراطية ، بأحد مستوياتهما البسيطة ، سمة الواقع و العالم و الوجود ، قبل أن تكونا سمة المعرفة و الأيديولوجيا . فتقوم بذلك فكرة المجتمع على فكرة " الاجتماع " ، الاختلاف " التعدد ، الحرية ، الحق ، و التشارك القائم على مبادئ ثلاثة : مبدأ التفرد ( الحرية ) ، و مبدأ الخصوصية ( الانتماء إلى ثقافة ) و مبدأ الجامعية ( العقل ) ، و على فكرة التشكل ، فكرة البشر ينتجون يوميا و جودهم و مجتمعهم .
و يمثل بذلك الوطن شكل جدل الوحدة و التنوع ، الحرية و التوجيه ، حيث يقرن بين أكبر قسط ممكن من التنوع الثقافي و بين أوسع نطاق ممكن من استعمال العقل ، و ارتكاز مفهوم الأمة على مفهوم الديمقراطية و العلمانية ، بكل منطوياتهما المعرفية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية .
فاحترام الحريات و حق التعبير عنها ، و تنوع المعتقدات و الأصول و الآراء و المشاريع ، تعتبر من الشروط الأساسية و الضرورية ، التي تضمن أو تساعد على إطلاق الحركة و الصراع داخل عملية التحول لتجاوز المأزق الأزموي المعمم ، على نحو سلمي ، و تفسح بالتالي لقيام مؤسسات المجتمع المدني ، و تحصينه ضد كل أشكال التسلط و الاستبداد وخطر الحروب الأهلية الكامنة و الظاهرة هنا و هناك . حيث تنتظم العلاقات بين الأفراد و الجماعات على أساس حرية و حقوق الإنسان ( ذكر و أنثى ) بصفته مواطنا ذا حقوق ، يرتبط بعلاقات مؤسساتية مع الدولة من جهة ، و مع مختلف أشكال التنظيم و الولاءات العصرية ( مهنية ، سياسية ، ثقافية ، اجتماعية ، ...) على حساب أشكال التنظيم و الولاءات التقليدية من جهة أخرى .
أي أن جدل العلمانية و الديمقراطية يشكل مدخلا و ركيزة في نفس الوقت للاندماج الوطني ، القائم على التعدد و التنوع و التعارض ، و نمو المجتمع المدني بوصفه التجسيد الواقعي و العياني للأمة ، الذي تنتظم فيه علاقة الإنسان و أحواله الشخصية مبادئ و قوانين مدنية ، تنمي استعدادات الفرد و ميوله في مجالات العلم و الثقافة و الاجتماع و السياسة ... إلخ ، معززة بذلك الحرية الشخصية ، التي لا يمكن أن تتحقق على نحو مجرد ، و إنما على نحو عيني أي بتحقيق دعواها في الحق في الحقل السياسي و الاجتماعي .
بلا هذا الاقتران ، و التصور البسيط ، تتحول الديمقراطية إلى ديمقراطية شكلية مخصيّة ، دون مضمون ، كناية عن حرية الاستهلاك و عن بازار سياسي ، ديمقراطية عطاء ، تموه حقيقة السلطة و استبدادها ، و تتحول العلمانية إلى علمانية سياسية ، براغماتية مرحلية و إعلامية ، تعيد إنتاج الاستبداد و تبرره .
و يكون السقوط " الأصلي " في عقيدة الجوهر و الجواهر ، عقيدة عالم الأصنام ، عقيدة إلغاء الفروق و إعدام التنوع و الاختلاف ، و لن يكون لدينا سوى " جوهر " وهمي ( للأمة ، المجتمع ، الوطن ، الحزب ، ....) يلغي حرية المجتمع و استقلاله و ذاتيته ، و العلاقات التي تشكل جوهر أفراده و ماهيتهم ، منتجا حالة من التناثر الاجتماعي تحكمه شريعة الغاب و شريعة الحظ ...إلأخ .
و يتحول الوطن ، كما يقول الشيخ عبد الله العلايلي ، إلى حفنة من التراب لحفنة من الناس دونما فروض و لا أقداس ، وتنضح العلاقة بين أبنائه بالشك الخفي ، و يمشي الاتهام المغلف بين جانب منه و جانب ، و تظل فئاته في يقظة ترقب و مكايدة .
فأي نظام عندما يقوم على حساب الحرية ، الحق و القانون ، هو نظام استبداد و استبعاد " فالفرد و المجتمع و الإنسانية حدود يكون لها قيم متساوية ، إن قيمة أحدهم لا يمكن أن تتوطد بإخضاع الآخر و إفنائه " و هم النهوض و التقدم ، المبني على الحذف و الإلغاء ، هو نهوض للوهم و تقدمه .
هذا هو أحد دروس التاريخ ، و الدرس الذي يجب أن نعيه جيدا ، على الأخص في تاريخنا المعاصر ، ليس هناك مجتمع حر يستعبد أبناءه ، و أكثرية حرة غير آبهة بحقوق الأقلية ، و رجل حر يضطهد المرأة ، و دولة حرة تعتقل شعبها و تنتج شوارع الصمت باسم الاشتراكية و الثورة و التنمية و التحرر و حماية الثورة ....، كما ليس هناك حرية و ديمقراطية مع اللادولة ، و هكذا ، إلغاء الفردي و الخاص هو إلغاء للعام ، إلغاء التعدد إلغاء للوحدة ، و إلغاء النسبي هو إلغاء للمطلق و العكس صحيح .
إن فصل الديمقراطية عن العلمانية ، دلالة من دلالات الشيئة المعرفية و الاستبدادية الفكرية – السياسية ، و يتحولان ( الديمقراطية و العلمانية ) إلى ركائز للديكتاتورية ، عبر إعادة إنتاجها و تبريرها .
أما جدلهما المؤسس على مفهوم الإنسان و حقوقه ، بوصفه وحدة الفرد المتناهي و النوع اللامتناهي المثالي ، يكسبهما أبعادا و مضامين رحبة و غنية ، ترتبط ارتباطا وثيقا بتصورات و آمال و معانات و إشكاليات المجتمع بعينه ، وهذا ما يشكل مضمون المجتمع المدني و الدولة الوطنية شكل المجتمع السياسي .


الدين ، السياسة ، الدولة

يعلمنا مسار الحضارة البشرية ، تاريخيا ، بأن شروط أي فتح ما ( علمي ، فكري ، سياسي ، ديني ...) تتغير من فضاء اجتماعي – ثقافي إلى آخر ، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى ، دون أن يعني هذا هجران الكونية في هذا الفتح أو ذاك ، و ذلك على النقيض من الرؤية الأوروبية التمركز و نقيضها السلبي . و نرفع بذلك الحصار في وعينا عن مفاهيم و تصورات ، كان " العلم " الاجتماعي الأوروبي الخاص بتحديات الواقع الأوروبي يقمعها فينا قمعا كونيا ، حيث جعلنا من إجابات التجربة الأوروبية إجابات جامعة شافية ، كما جعلنا من " العلم " الاجتماعي الأوروبي " العلم " العام و المطلق ، " العلم " الذي يجب أن يكون كل شيء فينا مطابقا معه . برفع الحصار هذا ، يتم التعامل مع مقولات و إنجازات ، بعقلية ناقدة ، تفقدها إطلاقياتها ، وذلك بإدراجها في مسارها النسبي و التاريخي ، و هذا ما ينطبق ، تماما ، على جملة من المفاهيم ، كالعلمانية ، الدين ، السياسة ، الدولة ، الديمقراطية ، المجتمع المدني ......إلخ .
بهذه النهاجية تعاملنا مع مفهوم العلمانية في الصفحات السابقة و نتابع ، وبنفس المنظور ، علاقة الدين بالسياسة و الدولة ، و تحديد ملامح هذه العلاقة يشكل أحد الأبعاد المهمة في رؤيتنا للعلمانية . فالدعوة لفهم العلمانية بمنظور أنسي منفتح ، هي بحد ذاتها ، وضبطا ، دعوة لقراءة السياسة بمنظور مختلف ، و كذلك الدين ، أو البعد الديني ، و ذلك ليكون بحجم الحداثة من جهة ، و بحجم المأزق العالم العربي من جهة ثانية .

إن وعي الناس ليس هو الذي يحدد و جودهم السياي ، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ذاك ، و خاضع هو نفسه لمنظومة منطقية من العلاقات الحدية القاهرة ، هذه المنظومة تبقى حاضرة عبر مختلف أشكال المؤسسات القانونية أو الفلسفية التي يناظر كل نوع منها بنية اقتصادية معينة ، وذلك لأنها ، أي تلك المنظومات ، ليست من نفس طبيعة تلك المؤسسات . فكما الشعور ، حسب دوبري ، لا يشكل جوع الحياة النفسية للفرد ، فإن المؤسسات و التصورات السياسية لا تؤسس جوهر الحياة السياسية للمجموعات البشرية .
فالناس لا ينتجون هذه العلاقات من خلال الروابط التي يقيمونها بينهم ، بعضهم مع بعض بـ " حرية " ، بل إنهم هم أنفسهم نتاج هذه العلاقات التي تتولد فيها ترابطاتهم تلك ، و كما هو الحال بالنسبة للأفراد ، و لكن بصورة أخرى ، فإن الجماعات البشرية المنظمة لها لا شعور نوعي خاص بها ( اللاشعور السياسي ) . تشكل الديانات و ما يقوم مقامها من الأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحا ، وهو ليس من طبيعة سيكولوجية و لا روحية ، يتحدد بأشكال ثابتة في التنظيم المادي ، ليست الأشكال الرمزية تلك إلا رسوما لها و بصمات " 16 "
و إذا كان اللاشعور السياسي " يحكم الظاهرة السياسية من الداخل فإن المرجعية العامة لـ " العقل السياسي " هو " المخيال الاجتماعي " " 17 " ، و هذان المفهومان الإجرائيان ، اللاشعور السياسي و المخيال الاجتماعي ،يربطان العقل السياسي بمحدداته و يغذيان تجلياته .
إنهما يشكلان الجانب النفسي / الاجتماعي ، أو العنصر الذاتي / الموضوعي في الظاهرة السياسية " 18 " ، أي إن الحياة الفكرية و النفسية ( الذاتي و الوجداني و اللعبي ) للفرد و الجماعة ، هي أساس العلاقات السياسية ، الشيء العام و المشترك بين الأفراد و الجماعات و الفئات .
وتتخذ هذه العلاقة ، أشكال أكثر وضوحا ، في المجتمعات التي يستحيل فيها التمييز بين البنية التحتية و البنية الفوقية ، كما المجتمع العربي ، فتتداخل عناصرها ( الاقتصادية ، الاجتماعية ، الدينية ، الأيديولوجية ، السياسية ، النفسية ) بصورة تجعل المجتمع برمته عبارة عن كل معقد ، جملة ، تقوم بين عناصره علاقات جدلية قوامها تبادل التأثير و المواقع ، و من جهة أخرى ، إن الروابط التي تشد الناس بعضهم إلى بعض في هذه المجتمعات ليست ذات بعد واحد ، بل هي عبارة عن شبكة من العلاقات ( دينية ، أخلاقية ، سياسية ، اقتصادية ، طائفية ، عائلية، ...) متداخلة و متخارجة إلى هذا الحد أو ذاك . لذا نلاحظ العلاقة الجدلية الكامنة بين العامل الديني بالمعنى التنزيهي و الواسع للكلمة ( ذروة السيادة العليا ) ، و بين العامل السياسي ( ذروة السلطة السياسية ) ، وفك الارتباط بين الدين ، بالمعنى السابق ، و السياسة ، على أرضية فصل الدين عن الدولة ، يحول السياسة إلى مجال خاص للسلطة و الأحزاب ، عبر الفصل المتزايد للمجتمع في المساهمة بفعالية في صياغة مستقبله ، و " بتحرير " السلطة من وسائل الضغط بين المعدمين من السلطة و العلم ، و التي يأخذ الدين الشكل الأبرز فيها ، و يتحول الفصل المذكور ، أثناء الممارسة ، إلى تقسيم خادع للكفاءات ، ما بين السلطة العقائدية و السلطة التنفيذية ، نجد فيما يخص الإسلام ، إن " العلماء " ( فقهاء الدين ) يغذون الوهم بامتلاكهم سيادة ذات قانون إلهي ، في الوقت الذي توظف فيه دولة الخلافة أو السلطة أو الإمارات المختلفة ، هذا الوهم من أجل أن تمارس سلطة استبدادية مطلقة " 19 " .
و بذلك تحولت السياسة إلى نزاع مكشوف و مفتوح على السلطة التي باتت مصدرا للثروة و الجاه ، و كذلك نزاع مكشوف على المشروعية الأيديولوجية من جهة أخرى ، معبرة عن سياسة نخب متحاجزة و منفصلة عن المجتمع و الناس و فوقهما ، مما دفع المجتمع إلى مزيد من التفتت و التشرذم ، تتكور أشلاؤه على انتماءات ما قبل حديثة ، إضافة إلى تتريث السلوك و الأخلاق و العودة بهما إلى الوراء ، وانتقال المجتمع من مرحلة الإسلام – دين إلى مرحلة الإسلام – ملجأ و ملاذ ،منتجا خطابه الانفجاري ، بسبب ما يتعرض له من كبت و مهانة ، واحتقار ووصاية مفروضة عليه ، لأنه لا يستطيع أن يتكلم بشكل طبيعي و من خلال القنوات الملائمة . و يتحول الدين إلى نوع من الأيديولوجية الظلامية ، تهدد السلام الاجتماعي ، وحيث يتراجع بعده الروحي التنزيهي لصالح النفعية و الانتهازية .
ضمن هذه الشروط ، تبدو لنا إعادة التفكير جذريا بالإسلام بمثابة البداهة و الضرورة التاريخية و الفلسفية ، وهو حيز مهم من حيزات مشروع عقلنة الوعي العربي و المجتمع العربي ، و هو مشروع معرفي / فكري في الأساس و الجوهر و سياسي في دلالته و مغزاه ، ليشكل محاولة لفهم عصري متحرر و منفتح للإسلام بوصفه صيرورة تاريخية اجتماعية ، يعاد إنتاجها باستمرار ، ليكون بحجم الحداثة ، و ركيزة أساسية من مشروع النهضة العالم العربي .

و إن مشروع عقلنة الوعي العربي ، هو بمعنى آخر ، مشروع إعادة بناء السياسة بمنظور مختلف ، فبدلا أن تكون السياسة متمحورة حول السلطة ، تتحول لتتمحور حول المجتمع ، بحيث يكون الإنسان و الشعب منطلقها و مستقرها . فالسياسة فعالية ، رغم أنف التخصص ، بوصفها التعبير عن الشأن العام ، المرتكز على المشاركة و المسؤولية و الحرية ، و هذا شرط و أساس لانتقال الناس من هامشيتهم و سلبيتهم إلى ذات تاريخية و سياسية تساهم في بناء المجتمع و الدولة .
فالسياسة تعبر عن ما هو مشترك بين جميع الأفراد و الجماعات و الفئات الاجتماعية و الطبقات و التيارات الفكرية و الأيديولوجية ، ففي كل جانب من الجوانب الاجتماعية عنصر عام يدفع بهذا الجانب إلى أن يصير سياسيا عند مستوى معين ، فيرتقي الأفراد من مستوى فرديتهم البدنية و الذهنية و النفسية و عضويتهم في العائلة و العشيرة أو الطائفة إلى مستوى عضوية المجتمع المدني و الدولة ، هذا الارتقاء لا يجب ما تحته و ما سواه ، بل يضفي على باقي الانتماءات أبعادا و آفاقا رحبة ، ناقدا الفكر العشائري ، الطائفي ...المنغلق و المتزمت .
من هنا هذا الارتباط الوثيق بين السياسة و المعرفة ، بما هي مسعى نحو الحقيقة ، و ركيزة كل الحقائق من جهة ، و بينها و المعيارية الأخلاقية من جهة ثانية ، وذلك تأسيسا لفعل أخلاقي مطابق للعقل ، فالإنسان وحده القادر على تخطي الحالة الاستلابية لإنسانيته الحقيقية ، عبر جهاد المعرفة و جهاد النفس ، النفس الأمارة بالسوء ، الجهاد الذي يستند على اعتراف ، تصور ، بأن المطلق لا ينحل في نسبيات البشر و التاريخ ( الديانات ، الأحزاب ، القوميات ، الطوائف ...) وهذا موقف أخلاقي بامتياز قبل أن يكون موقفا معرفيا / سياسيا ، و هو شرط إقامة مملكة الحرية الإنسانية التي هي في الوقت نفسه مملكة الأخلاق .
ثمة نفي ، تكوّن ، تشكّل ، المطلق و النسبي ليسا شيئين ، لا النسبي شيء ، و لا المطلق عفريت ، المطلق و النسبي مفهومان و حدان ، المطلق حد ، يحد النسبي فمن ليس عنده المطلق يحول نسبيه إلى مطلق و هذا هو جذر الاستبداد و عدم الاعتراف ، كما يقول الياس مرقص .

بهذا المنظور للعلمانية ، السياسة ، الدن ، الديمقراطية ، المجتمع المدني ، تتغير بالنتيجة الأرضية التي كانت تطرح عليها مسألة العلاقة المعقدة بين الدين و الدولة ، الفرد ، المجتمع ، الدولة .
فكل فرد منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية ، فتجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة ، فالدولة وجه ، موضوع قائم ، في حين الحرية تطلع إلى غاية غير محققة و باستمرار " 20 " .
إن التساؤل حول الدولة يتجدد باستمرار دون أن ينتهي إلى جواب ثابت ، منذ قرون و الناس يطرحون الأسئلة نفسها ، إن كان بهدف التبرير أو بهدف الكشف و التعرية ، بهدف الأيديولوجيا أو بهدف النظرية ؟ . رغم تعدد الإجابات المرتبطة بتجارب بعينها ، إلا أن الهدف هذا لا يضمن الحصول على الإجابة الشافية و النهائية .
فالدولة ظاهرة اجتماعية أساسية ، و ليس هناك تمييزا بينها و بين المجتمع ، و إذ نرفض التمييز مبدئيا ، لا ننفي المنهجية ، ما يفعله الفكر الإنساني تلقائيا عندما يتعرض لكل ظاهرة اجتماعية على حدة ، إنما نؤكد أن التمييز من عمل الفكر و ليس من مكونات الأشياء . لا بد من الفصل ، التمييز ، للفهم و الإدراك ، للعرض و التفسير ، لكن لا يجب أن نجعل منه حقيقة كيانية تبرر بها تمييزات أخرى ، تجعل التأمل في الحرية من شأن الفلسفة الماورائية الأخلاقية ، و التأمل في العقل من شأن فلسفة العلوم ، و التأمل في الدولة من شأن الأيديولوجية السياسية ، هذا التخصص المعبر عنه موضوعيا بتساكن الفرد و الدولة ، كعنصرين متقابلين متعارضين ، مما يسبب الانعزال عن الواقع و اليأس من إدراكه ، و اختزال الدولة إلى جهازها القمعي التسلطي .

إن المجتمع ينتج وجوده الاجتماعي و ثرواته المادية و الروحية ، و يتوج ذلك كله بإنتاج وجوده السياسي ، أو شكل وجوده السياسي ، أي بإنتاج الدولة . و بالتالي فإن الحديث عن الدولة ، حديث عن المجتمع ، حديث عن التداخلات و التخارجات إلى هذا الحد أو ذاك ، فقضية التقارب بين أهداف المجتمع و أهداف الدولة ، أو التعبير عنها قضية مفتوحة .
فإن جدل العلمانية و الديمقراطية ، يتيح إلى جميع التيارات ( روحية ، سياسية ، فلسفية ...) المساهمة الفعالة في بناء المجتمع و الدولة ، دولة الكل الاجتماعي ، دولة الحق و القانون ، التي مهمتها إدارة شؤون المجتمع التعددي ، بالمعنى الديني و القومي و الفلسفي و السياسي للكلمة ، دون أن تنزلق و تصطبغ بأية صبغة حزبية أو دينية أو أيديولوجية محددة ، أو أن يشكل قاعدة لها ، و تتخذ موقفا استبعاديا و استئثاريا تجاه الآخر ، فالدولة العقلانية لا تستطيع أن تكون إلا شيئا عاما ، و تلحق بالأخلاق بعد أن توحد أهدافها مع أهداف المجتمع ، و بمقتضاه تكون الدولة ، دولة المجتمع و الشعب ، ولا يكون المجمع مجتمع الدولة و الشعب شعبها .
هذه الدولة ، كما قال ماركس ، لا تحتاج إلى دين بعينه من أجل اكتمالها السياسي ، بل تضعه بين سائر عناصر المجتمع ، بعد ذلك تستطيع أن تُفَعِّله لأن َّ فيها القاع الإنساني للدين ، موقّعن بشكل دنيوي ، بتأكيدها على الحرية الضميرية و الروحية و الفكرية و السياسية للمجتمع ، فهي حيادية بالمعنى الإيجابي للكلمة ، و تقف فوق الجميع و تعاملهم على قدم المساواة ، فلا تفرق بين أفراد المجتمع من حيث انتماءاتهم المختلفة .
و بالتالي كل إكراه من قبل الدولة أو الجسم الاجتماعي ، من أجل فرض الإيمان و الممارسة الدينيين على الفرد ، يشكل اغتصابا للضمير ، و ليس في نهاية الحساب ، إلا " تطفيلا " للإنسان المعتبر قاصرا في خياراته الميتافيزيقية ، و نفي فكرة الإنسان ، كذاتية مفكرة و حرة .
و بالمقابل فإن كل إكراه من جانب الدولة أو فيئات اجتماعية متنفذة ، لنزع دين الضمائر ، أو عرقلة العبادة ، أو تخفيض اعتبار الدين ، يجب أن تكافح . " 21 "
فالدولة بالمنظور العلماني المنفتح ، تتيح و تكفل حرية الضمير و تصون التعددية الأيديولوجية للمجتمع ، و كذلك تؤمن للاعتقاد الإمكان ليضطلع بنفسه و ينتشر ، و ليس لها أن تمنعه تحت أي ذريعة كانت .
و بالتالي فإن تحديد العلاقة بين الدين ، الدين – تاريخ و الدولة و السياسة ، التي تحيل كلها إلى الجذر الاجتماعي التاريخي ، تنزع طابع القدسية عن نشاط و ممارسة الدولة و الحكام و إخضاعهما للمناقشة العقلية و المسؤولية و المحاسبة البشرية . و يضمن ، بالضرورة ، جدل التلاقح الخلاق بين قيم و أهداف و رغبات المجتمع ، وقيم و أهداف الدولة ، أي رغم الفصل و التمييز البحثي ، إلا أنه هناك علاقة جوهرية بين الدولة و بعض عناصر السلوك الأخلاقي و الاجتماعي ، و بنية الشخصية الاجتماعية .
لا يمكن بالفعل شق الإنسان إلى شقق فيها الانفعال و حس الجماعة و الاندفاع الإلهي و العقل المحاكم و المعرفة ، تتراصف أو تتراكب بلا وصال ، الإنسان أيضا وحدة جامعة و لأنه فعل على الإنسان الكل نجح الدين " 22 " ، فلا تراصف و نوازي بين الخاص و العام ، بين المطلق و النسبي ، بدون ذلك تكون العلمانية مصدرا إضافيا لتنامي الديكتاتورية و تبريرها .

على أرضية ما سبق ، يمكن القول : بأن العلمانية ليست بالظاهرة التي يمكن وصفها ببساطة و يسر ، فهي جملة من التحولات التاريخية المعاشة كتوتر مستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي ، فتكون بذلك تابعة لتحولات سابقة في مجالات الحياة المختلفة ، وهذه الحركة الدنيوية ، كما لاحظنا ، لا تعني التصفية الجذرية للدين كما يتوهم بعضهم ، و يريد أن يوهم الآخرين ، و تندرج في أطر أوسع من تضاد الدين و الدولة ( المقولة الملتبسة ) .
و بالتالي ليست بالوصفة الجاهزة ، يمكن أن تطبق هنا أو ترفض هناك ، لجملة من الاعتبارات التاريخية ، بل هي اشتراط بشري بامتياز .
على الرغم من أخذها أبعادا واسعة في الغرب ، إلا أن ذلك لا يجعلها أوروبية الجنسية ، كما أن حلها لإشكالية العلمنة ليس نهائيا و لا شافيا ، على الرغم من إيجابياته التحريرية التي لا تنكر ، و تحول كثير من عناصرها إلى مكتسب إنساني ، أي يجب أن تتحول رؤيتنا لما ينجزه الغرب ، من رؤية انبهارية و إعجاب بالمطلق ، إلى التأكيد على تاريخية التجربة و الإنجاز ، فتتموضع كتجربة ، و إجابة جديرة بالنقد .
بذلك لا نكون ، كما يقول عزيز العظمة ، مرتهينين بالتجربة الأوروبية ، و لا نرى فيها نهاية التاريخ ، و لسنا ملتزمين بحدود تجاربها التاريخية ، بل نحن جزء من مشروع تاريخي كوني يتجاوز حدود الغرب ، وهذا على النقيض من المنظور الاستبعادي و الحاذف بين الكونية و الخصوصية و الرؤية الاستشراقية أوروبية التمركز ، و الاستشراق المعكوس في الساحة العربية .

وعندما ندعو إلى علمانية أكثر انفتاحا ، أكثر واقعية ، أكثر جذرية ، أكثر إنسانية ، ندعو إلى عقلانية أكثر اقترابا من الإنسان و عالم الإنسان ومن الحياة و نبض الحياة ، تعي تماما بأن الواقع يحمل قضيته بشكل آخر . أي أن مشكلة العلمانية ، هي مشكلة المعرفية بما هي نضال من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة ، و بمستوى آخر لا يصبح المقصود منها تأنيس الإله و إنما الإنسان ، و تأنيس الإنسان يعني جعله يفقد بالتحديد هذه الرغبة بتأليه نفسه بأي شكل من الأشكال .
فالموقف العلماني ، موقف عقلاني ، ديمقراطي ، وجداني ، أخلاقي بامتياز ، و هدف يتطلب افتتاحا مستمر .

.

المراجع

1. محمد أركون : الفكر الإسلامي قراءة علمية ، مركز الانماء القومي 1987 ص ( 5-6)
2. علي حرب : لعبة المعنى ، فصول في نقد الإنسان ص ( 10 )
3. نصر حامد أبو زيد : النص ، السلطة ، الحقيقة ص ( 80 )
4. رينيه هويغ و ديزاكو إيكيدا : شرق و غرب حوار في الأزمة المعاصرة ص ( 13 )
ترجمة عيسى عصفور ، منشورات وزارة الثقافة ( سورية ) 1995
5- نصر حامد أبو زيد : نفس المصدر ص ( 67 )
6- عبد الله العروي : مفهوم الحرية ص ( 7 )
7- برهان غليون : نقد السياسة ، الدولة و الدين ص ( 503 )
8- برهان غليون : نفس المصدر ص ( 527 )
9- علي حرب : الممنوع و الممتنع نقد الذات المفكرة ص ( 34 ، 35 )
10 – انظر في هذا الموضوع : عزيز العظمة : العلمانية من منظور مختلف ص ( 17-18-19 ) . مراد وهبه : العقل العربي و العلمانية ، في كتاب قضايا فكرية العدد ( 25- 26 ) لعام 1995 . رشيد اشقير : حول علمانية الدولة الحديثة : مجلة الوحدة العدد 13 . محمد أركون : تاريخية الفكر الإسلامي ص ( 290 )
11- محمد أركون : تاريخية الفكر الإسلامي ص ( 290-291 )
12- إدغار موران : مقدمات للخروج من القرن العشرين ص (111 ) ترجمة أنطون حمصي ، منشورات وزارة الثقافة ( سورية ) 1993
13- إدغار موران : نفس المصدر ص ( 136-255 )
14 – محمد أركون : أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ص ( 31 )
15 – الياس مرقص : مقدمة و ضعها لكتاب من ترجمته حمل عنوان ، المرأة في العالم العربي لـ جوليت منس ص ( 15 – 19 )
16 – محمد عابد الجابري : العقل السياسي العربي محدداته و تجلياته ص ( 12 )
17 – محمد عابد الجابري : نفس المصدر ص ( 14 )
18 - محمد عابد الجابري : نفس المصدر ص ( 17 )
19 – محمد أركون : تاريخية الفكر الإسلامي ص ( 171 )
20 – عبد الله العروي : مفهوم الدولة ص ( 5 )
21 – هشام جعيط : الإصلاح و التجديد في الدين ، مجلة الواقع العدد الثاني 1981
22 – هشام جعيط : نفس المصدر













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا تخشى الكنيسة الكاثوليكية الذكاء الاصطناعي؟


.. الرئيس السيسي يستهل زيارته للأراضي المقدسة بالصلاة في المسجد




.. ساعة حوار | برنامج -مراجعات- يكشف شهادات من داخل جماعة الإخو


.. الرئيس السيسي يستهل زيارته للأراضى المقدسة بالصلاة فى المسجد




.. 26-An-Nisa