الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب فيروس الدين [3] تأسيس

إبراهيم جركس

2015 / 1 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


---------------------
تتمّة الفصل الأول ((لماذا الدين يشبه مادّة الفيل الوراثية؟))
# ثلاثة مصادر للمعرفة
هناك ثلاثة مصادر أساسية للمعرفة بالنسبة للبشر: الغريزة، التجربة، والثقافة.
الغرائز هي المعرفة التي تأتي معنا لحظة الولادة. لا أحد يعلّمنا كيف نخاف من المرتفعات، أن نلجأ إلى أحضان أمّهاتنا لحظات الخطر، أن نخاف من الأفاعي، أو نوع الأطعمة التي يجب علينا تناولها والتي لايجب علينا تناولها. لا أحد يعلّم المراهق أنّه بات قادراً على ممارسة الجنس (بل على العكس هذا أمر طبيعي جداً، لكنّهم يخبرونهم بعدم وجوب ممارسته!). هذه المعرفة متجذّرة ومتأصّلة في عقولنا وأدمغتنا، وفي أدمغة الكثير من الحيوانات الأخرى.
الخبرة تعلّمنا أنّ العشب يبدو ناعماً تحت أقدامنا, وأنّ الأشواك ستؤلمنا إذا انغرزت في إصبعنا، وأنّ النار ساخنة ومحرقة. المعرفة التجريبية هي معلومات نكتسبها من خلال تفعلنا مع العالم والأشخاص الذين يحيطون بنا، المعرفة بحدّ ذاتها ليست فطرية.
التربية الثقافية، قدرتنا العالية والمتطوّرة لنقل الأفكار (الميمات) من شخص إلى آخر، هي قدرة بشرية ومحصورة بالبشر وحدهم، وهذه هي القدرة التي تجعل من البشر حيوانات متميّزة عن غيرهم من الحيوانات الأخرى. وظهرت بعض الأبحاث تبيّن أنّ بعض الحيوانات الأخرى كالشمبانزي والغوريلات قادرة على نقل المعلومات ثقافياً، لكنّ قدرتها بدائية مقارنةً بالإنسان.
من هنا يمكننا رؤية أنّ معتقداتنا الدينية يمكن تصنيفها كميمات, فعندما ولدت، لم تكن تحمل أي معرفة دينية، ولا تعرف شيئاً عن دين أبويك أو أياً من الأديان والآلهة (فهي ليست معرفة فطرية-غريزية)، ولم تتعلّم شيئاً عن الدين من خلال تفاعلك مع بيئتك أو محيطك أو البيئة من حولك (الدين ليس معرفة تجريبية). بل هناك أحدٌ ما علّمك كل ماتعرفه عن الدين والله. حتى إذا لم تكن تؤمن بالله، فمازال لديك ميم الله داخل دماغك. إنّه ميمٌ تمّ حشره وإدخاله في رأسك عن طريق أهلك ومجتمعك، وأهلك بدورهم جاؤوا به عن طريق أهلهم والمجتمع، وهكذا حتى بداية التاريخ.
من خلال هذه التظرة الميميائية الجديدة التي تعالج الأفكار بوصفها أجزاء من معلومات ذاتية التكاثر، يمكننا الآن أن نعرف كيف أنّ الدين عبارة عن فيروس، فيورس يتنقل إلى دماغك. وقد تفكّر قائلاً: ((حسناً، لابد أنّك تتحدث بطريقة مجازية، أو كناية، فالدين منظومة عقائدية كاملة، وليس مجرّد جرثومة)). لكن في الواقع، عندما أستخدم عبارة "فيروس الدين Religion Virus" فأنا أقصد ذلك بطريقة حرفية تماماً. فيروس الدين ليس كيان فيزيائي أو مادي، بمادو وراثية DNA وبروتينات وغيرها، لكنه بمعنى ما، فيروس حقيقي. والتماثلات بين الفيروسات التي تنتقل إلى أدمغتنا والتي تنتقل إلى أجسادنا مدهشة بحق. وفي نهاية هذا الكتاب، آمل أن أقدّم لكم فهماً مفصّلاً عن الطبيعة المعدية، التكاثرية، والطفيلية، لفيروس الدين وأثره على الثقافة والمجتمع والسياسة ومستقبل البشر.

# طريقنا
((إذا لم يكن هناك إله، لكان من الضروري أن نخترعه)) [فولتير 1694-1778]
سنقوم بدراسة ثلاث طرق أو سبل بالتساوي. الأولى هي علم التطور الكلاسيكي، الذي كان أول من تحدّث عنه هو تشارxDvJ2 داروين، أحد أعظم العقول في التاريخ. علم التطوّر الدارويني مذهل في قدرته التفسيرية، ففي كتابٍ واحد، أسّس داروين واحداً من أكثر العلوم أهمية في التاريخ البشري. كل ما سنفعله هنا هو أن نخدش القشرة الخارجية فقط، فدراسته ستتطلّب وضع مجلّدات ضخمة، لكن ذلك ضروري جداً لرحلتنا.
الثانية، سنتعلّم أكثر عن الميمات، مجال دراسة جديد يسمّى "الميمياء memetics"، سنتعلّم كيف أنّ الميمات تخضع لنفس القواعد والقوانين التطورية التي تحكم الحياة العضوية التي قام داروين بدراستها، حيث أنّ هذه الأفكار والمفاهيم "تحيا وتتكاثر" داخل أدمغتنا، وسنتوسّع في علمنا التطوّري لنرى كيف يسلّط الضوء على عملية "التطور الثقافية".
الثالثة، سندرس الدين نفسه. وسنبيّن أنّ الدين يمكن تفسيره وتعليله بسهولة وبشكل كامل في سياق علم الميمياء، والدروس التي نتعلّمها من علم التطور الدارويني. لقد بيّن داروين أنّ الله لم يخلق الإنسان، والآن ومن خلال دراستنا لعلم الميمياء، سنتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الله لم يخلق الأديان. وباستخدام مبادئ داروين في التطور، وتطبيقها على مجال الثقافة من خلال نظرية الميمات، سنرى أنّ الأديان الحالية هي نواتج نهائية لعملية التطور الداروينية التي كانت جارية على كل من الثقافة والأفكار. في هذه الحالة، إنّ بقاء الأقوى أو الأصلح لايعني بالضرورة بقاء الأصلح أو الأدق.

# قليلاً عن التطور
((طبعاً، الله هو الذي علّم الطيور الطيران إذ أنّ عظامها مكوّ،ة من ذهب خالص، وعروقها يجري فيها النحاس السائل، ولحمها أثقل من الرصاص, وأجنحتها صغيرة إلى أقصى حد. لكنه لم يفعل ذلك، وهذا يعني شيئاً. فمن أجل أن تحمي جهلك فإنّك تضع الله عند كل زاوية ومنعطف لتلجأ إلى المعجزة)) [غاليليو غاليليه]
أغلب القرّاء يعرفون أطروحة داروين الأساسية: أنّ الأحياء تطوّرت عن طريق عملية تسمّى الانتقاء الطبيعي. فالأنواع عرضةً للتغيّرات العشوائية في جيناتها، وعلى مرّ ملايين ومليارات السنين والأجيال، سمحت هذه العملية _التي أطلق عليها تشارلز داروين اسم بقاء الأصلح أو الأقوى Suvival of the Fittest_ بظهور تشكيلة متنوّعة وغنية من النباتات والحيوانات على الأرض.
وقد رأينا في القسم الأول من هذا الفصل أنّ الميمات والجينات كلاهما يمثّلان أمثلة عن المعلومات المتكاثرة ذاتياً. لسنا بحاجة لأن نتفاجأ عندئذٍ بأن ينطبق مفهوم "بقاء الأصلح أو الأقوى" على الميمات كما ينطبق على الحياة البيولوجية. قد تتغيّر الفكرة (تتطفّر) خلال انتقالها من شخصٍ لآخر، وتتنافس الأفكار فيما بينها لتحتل لنفسها "حيّزاً" داخل دماغك، كما أنّها تتنافس من أجل زمن التكاثر بانتقالها لشخصٍ آخر. أفضل النكت في الناجية، أمّا أسوأها "فتنقرض وتندثر".
كما سنرى لاحقاً، هذا المبدأ نفسه ينطبق على الأفكار الدينية: الأفكار الدينية الأفضل وحدها هي التي تنجو، أمّا الأفكار غير المناسبة والسيئة فتندثر وتنقرض، بالأصح، تلك هي الأفكار التي تجعل الناس يرغبون في تصديقها والإيمان بها، سواءٌ أكانت جيدة أم شريرة، مفيدة أو ضارة. يمكن لأي فكرة أن تنجو وتستمرّ لأنها تستجيب لآمالنا وتطلّعاتنا، غرورنا وكبريائنا، أو الوعد بالجنّة والفردوس وجوائزهما. نحن نخاف العقاب الأبدي بالنار، نحن بحاجة للحماية من أعدائنا، نحن نخاف الموت، ونخاف من المجهول. والأفكار التي تتغذّى وتعتاش على هذه المخاوف يمكن أن تكون مناسبة، بمعنى أنها تعيش وتبقى أيضاً، كتلك التي تتغذّى على المشاعر الإيجابية.
عمدما تتطور الميمات، فإنّها تتطوّر نحو البقاء والاستمرار، تتطوّر لتصبح ناجية _وهي الميمات التي تكون أكثر قابليةً للتصديق، والتي تستجيب لآمالنا وتطلّعاتنا، في حين أنّ الميمات الأقل قابليةً للتصديق واستجابة فإنّها تنقرض وتخرج من الذاكرة. تلك هي قاعدة: "البقاء للأصلح" الكلاسيكية، ضعها في عقلك وحافظ عليها هناك، فسنبدأ الآن رحلتنا عبر التاريخ الطبيعي لفيروس الدين.

# ملحق
جدي وغروب الشمس
((لا أعلم حق اليقين إذا كان الله موجوداً، لكن من الأفضل عدم وجوده نهائياً نظرا لسمعته))[جولز رينارد 1864-1910]
في إحدى الأمسيات عندما كنت في سنّ الثانية عشر من عمري، كنا قد وقفنا أنا وجدي بصمتٍ عند السياج الأمامي لحديقة منزل مزرعة العائلة في وادي كاليفورنيا، ليس بعيداً عن موديستو. كان المكان هادئاً جداً، دلك النوع من الهدوء لبذي لاتحصل عليه إلا في أماكن بعيدة عن المدينة، بعد توقف جميع الأعمال في المزرعة، صمتت الجرارات، ومضت جميع الشاحنات على الطريق السريع إلى وجهتها. بدأت بعض صراصير الليل نشيدها. حلّقت بومة فوق حقل الفاصولياء من فوق الحظيرة القديمة واتجهت نحو الجهة الجنوبية للمزرعة حيث أقامت عشّها.
أمّا المشهد الذي جذب انتباهنا كان مشهد غروب الشمس، أحد أروع وأجمل المشاهد التي تعقب عاصفة ربيعية، عندما يصبح الهواء دافئاً ورقيقاً فوق مزارع الوادي الكبير في كاليفولانيا. كانت أشعة الشمس الغاربة تنير سفح الهضبة، والغيوم المعيقة لها تلمع بمختلف الألوان، من البرتقالي الساطع بالقرب من خط الأفق، إلى الأحمر الزاهي فوقنا، إلى الأرجواني الخافت خلفنا على خلفية قمّة جبال سييرا نيفادا المغطّاة بالثلوج.
مع نزول الشمس نحو الغروب أكثر، قال جدي من دون أن يلتفت ((لا أدري كيف يمكنك رؤية هذا الغروب الرائع من دون أن تؤمن بالله))
ومن دون تفكير، أجابه الصبي الذي يبلغ اثنا عشر عاماً الكامن في داخلي ((أنا لا أرى وجود أي صلة بين الأمرين ياجدي. لقد فسّر آينشتاين سبب زرقة السماء وتحوّلها للون الأحمر وقت الغروب، لقد حاز على جائزة نوبل بفضل ذلك. هذا بسبب التأثير الكهروضوئي. كما ترى، فإنّ الأكسجين...))
التفت إليّ جدي ورمقني بنظرته، فتوقفت عن الحديث. لم يكن جدي إنساناً عادياً، إنّما كان مزارعاً يحمل شهادة من جامعة كاليفورنيا. في الواقع كان جدي ضمن أول دفعة دراسية عام 1929، حيث حاز على درجة البكالوريوس من هناك بعد 49عاماً. كان جدي يعرف الكثير عن العلم، والقليل عن الفيزياء، وكان يعرف جيداً بأنني مهووسٌ بالعلم.
سادت لحظة من الصمت. ثمّ أردف قائلاً: ((لا أعرف كيف كنت لأعيش من دون إلهٍ يابني. كانت حياتي صعبةً للغاية ومليئة بالمآسي والأحزان، لكني لم أستسلم لأنني كنت أعرف بأنّ هناك مكافأة بانتظاري في الجنة عندما أموت. ومن حينٍ لآخر، يريني الرب جلاله وعظمته في غروب الشمس))
لم أعرف حينها بماذا أجيب, حياة جدي كانت صعبة ومليئة بالأحزان؟ كيف يعقل ذلك؟
((حتى وإن لم تكن تؤمن بالله يابني، عليك أن تمنح نفسك بعض الوقت متى أمكنك ذلك لتقف وتراقب هذا الغروب الرائع. لاتنسى ذلك أبداً))
ولم أنسى ذلك بالفعل. مازلت أتذكّر جدي كلّما رأيت غروباً. أنا أعرف تفسير آينشتاين الذي قدّمه عام 1906، لكنّه مازال أحد أجمل المشاهد التي رأيتها من قبل... شكراً لك جدي.
لكنني لن أنسى أبداً تلك الكلمات الحزينة ((لاأعرف كيف كنت لأعيش من دون إله)). هذه الكلمات كانت بمثابة سجن بالنسبة إلى جدي. كان بحاجة إلى مكافأة خيالية في الجنة لمساعدته على تقبّل تعاسته ومعاناته. وبدلاً من جعل حياته أفضل ممّا هي عليه، فعل ما تعلّم فعله بني البشر على مدى آلاف السنين: تقبّل مصيرك، وارضَ بالقضاء والقدر، لا تشتكِ، لاتمتعض من حياتك، لأنّ جائزتك تنتظرك في الجنة وستنالها لاحقاً.
لقد علّمني جدّي الكثير بكلماته الحزينة هذه، أكثر من تفسيره لمجد الرب وجلاله في هذا الغروب الجميل. لقد ألهمني استسلامه وساعدني على جعل حياتي أفضل، لإصلاح الأمور العالقة في حياتي، وألا أستسلم أو أضعف أبداً. لاوجود للجنة، ولا وجود للنار. فإذا كانت حياتي سيئة ومزرية الآن، فمن الأفضل أن أسعى لتحسينها وجعلها أفضل هنا والآن، وذلك لعدم وجود فرص أخرى.
حياتي رائعة وجميلة... شكراً لهذا الدرس ياجدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2015 / 1 / 20 - 00:45 )
المعايرة الدقيقة للكون دليل على وجود الخالق :
https://www.youtube.com/watch?v=KmvgBy3lmFY

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah