الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع القاضي المستشار عبد الجواد ياسين صاحب كتاب (السلطة في الإسلام)

محمد عبد المنعم عرفة

2015 / 1 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المقصود "بالسلفية" في هذا الحوار، ليس هو المذهب السلفي المعروف بالمذهب الوهابي - فهذا ليس مذهباً إسلامياً، وإنما هو صناعة بريطانية لا يختلف عن القاديانية كما هو معلوم لكل مثقف - بل المقصود الحالة السلفية التي عليها جميع المذاهب الإسلامية، أي تقليد الأسلاف وتقديس التراث.
فكل المدارس الفكرية الحالية بمختلف أنواعها وأشكالها بدءاًمن الوهابية من أقصى اليمين، إلى العمانية اللادينية إلى أقصى اليسار، كل هذه المدارس لا تعترف إلا بالتفسير السلفي للإسلام ! وأي محاولة لإعمال العقل ومخالفة الأسلاف يتم مقابلتها بالهجوم والإتهام بالتزوير وتغيير الحقائق !
يقول هذا التنويريون قبل السلفيين.. لأن الكل سلفي.. ولكن هناك سلفي مسلم، وهناك سلفي رفض فكرة الإسلام والأديان تماماً، ولكنه باق على سلفيته في التفكير، ولو تخلى عن سلفيته ربما راجع نفسه واعتنق الإسلام بشكل جديد، يوجد هذا وهذا.. ولكن هناك كلمة إجماع على رفض تغيير نمط التفكير القديم.
جميع التيارات الفكرية المتواجدة حالياً في العالم العربي سلفية، وهابيهم وأزهريهم وتنويريهم ولا دينيهم.. الكل سلفي.. وكانت هذه رؤية الأستاذ جمال البنا رحمه الله.. وسخر حياته لأجل القضاء على هذا الجمود في التعامل مع التراث لدرجة العبادة، وأثبت في مولفاته أن السلف أخطأوا كثيراًُ في تناول مفاهيم الدين.
وربما كان لهم مبرراتهم ورؤاهم التي ناسبت عصرهم، واما الآن فمن الخطأ بل من الجريمة في حق الإسلام، الإبقاء على تلك النظرة الضيقة للإسلام، وفهم الإسلام من خلال ما جاء في كتب التراث، وتجاهل حركة النهضة العلمية التي وقعت في القرن التاسع عشر الميلادي على يد محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا والكواكبي انتهاء بجمال البنا..
إن واجب الوقت وفريضة الساعة هي نفض المفاهيم التراثية عن الإسلام، والتفريق بينه وبين طبيعة العصور السابقة التي اتسمت بتلك السمات وتلك التجاعيد، وأن الإسلام الحق لا يؤخذ عن كل من هب ودب، بل يؤخذ عن أهل بيت النبوة عملاً بوصية سيدنا رسول الله ص في حديث الثقلين (وإني تارك فيكم ثقلين، كتاب الله.. وعترتي أهل بيتي) فالعترة الطاهرة باقية إلى يوم القيامة، ومنها إمام مجدد يبعثه الله على رأس كل قرن إمام، من اتبعه نجا ومن تخلف عنه هلك.. قال رسول الله ص (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها).

الحوار:
* كان لظهور كتابكم القيم (السلطة في الإسلام) صدى كبير، تراوح بين السلب التام والإيجاب التام، وقبل أن ندخل في الحديث عن مفرداته، نريد أن تعرفوا بأنفسكم للقراء الكرام....
(المستشار) : أنا عبدالجواد ياسين من مواليد عام 1954م، في قرية الزرقا إحدى قرى شمال مصر، تخرجت من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1976م، ومارست العمل في النيابة العامة والقضاء المصري لفترة من الزمن، وأمارس الآن العمل في القضاء بدولة الإمارات العربية المتحدة.

* بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ كان من المفروض أن تكون قارئاً للمدرسة السلفية من الداخل، لكنكم وقفتم خارجها ونقدتموها، ما هي الأسباب التي دعتكم إلى ذلك ؟.
(المستشار) : من طبيعة العقل أن يتحرك ويمارس التفكير، والمدرسة السلفية ليست بدعاً من العقائد والأفكار التي يمكن يمارس في حقها التفكير… فطوال فترة طويلة كنت أعتبر نفسي بشكل من الأشكال داخل المدرسة السلفية، أقول بشكل من الأشكال لأنه كان هناك دائماً نوع من الخلفية الرافضة للانصياع لمفهوم التبعية العمياء. وهذا سببه الممارسة العقلية التي تأبى بطبيعتها مبدأ الاتباع، أي أن يكون الإنسان تابعاً بلا تفكير.
وبعد فترة من الفترات وأنت تبحث، تصطدم بقضايا لا يمكن العبور عليها بسهولة، وفي فترة معينة كان من اللازم على الإنسان أن يقف وقفة مراجعة، وأنا أعتقد أن هذا تم بشكل طبيعي؛ وناجم عن ممارسة حقي الطبيعي في التفكير كإنسان أولاً ثم كمسلم ثانياً.
وهذا التناول للقضايا والمسائل التي هي من صميم ديني وتمس أساً من أسس الحياة ... فأنا أعتقد أن هذا تم بشكل طبيعي.

* هل لوظيفتكم القضائية أثر في مناقشتكم للدائرة السلفية، لكونكم تتعاملون مع نصوص أقرب ما تكون إلى النصوص الشرعية، مع الاختلاف في أن هذه نصوص قضائية، وتلك نصوص شرعية. هل للقضاء أثر في تغيير وجهة نظركم للدائرة من الداخل إلى الخارج؟.
(المستشار) : لا شك أن أية صفة للإنسان تؤثر فيه سواء كان قاضياً أو غير قاض، وهناك عوامل كثيرة تؤثر في تكوين الإنسان الفكري منها: قراءاته، ومنها ثقافته ، ومنها وظيفته، ومنها بيئته، ومنها العوامل الوراثية الأخرى، ولأن القاضي يمارس تعاملاً متواصلاً مع النص، وفي هذا التعامل من الواجب عليه أن يمارس نوعاً من منطقية في التعامل، فلا شك أن يكون له أثر فيما تسأل عنه.

* كتابكم "السلطة في الإسلام" كان نقلة نوعيه في نظرنا للفكر الإسلامي المعاصر، وصفها بعضهم بقوله: (إنها محاكمة للمسلمات التاريخية إلى ثوابت النصوص القطعية)، لم كانت مثل هذه الاطروحات الراقية مجرد صرخات في واد ولا مجيب، ولم لا تنتشل من غياهب النسيان أو التغييب بالأصح، ولم لا تتحول إلى تيار قوي يفرض وجوده في الساحة؟.
(المستشار) : أولاً: أشكر التقريض اللطيف الكريم للكتاب. وأعتقد أن صيغة الاستفهام الإنكارية التي سألت بها ... أنا أتفق معك بشأنها، نحن نتعشم أن هذه الاطروحات لا تكون مجرد صرخات، وأن تنتشل من غياهب النسيان –على حد تعبيرك-، وأن تتحول إلى تيار قوي يفرض وجوده في الساحة.. هذا أمر مطلوب. لكن هذا لكي يتم لا بد أن تتغير الظروف الموضوعية أولاً ..

* ماذا تقصد بتغير الظروف الموضوعية؟.
(المستشار) : أقصد به التغير الناجم عن حركة التاريخ في الحياة، يبدو أن هناك أطوارا تاريخية تمر بها الشعوب، ويبدو أن على هذه الأمة أن تتجاوز الطور التاريخي المتأخر نسبياً الذي تمر به في المرحلة الحرجة… ومعروف أن هذا الطور التاريخي مورث بحكم الميراث السلفي العاتي الشديد الوطأة، الذي ترزح هذه الأمة تحته من قديم.
وهذا الظرف الموضوعي، الذي هو تغير التكوين الذهني العقلي النفسي الثقافي المسلم شيء أساسي وأولي، وهذا يتم بعناصر بعضها ظاهر ومحدد، وبعضها خفي غير مرئي، تفعل فيه يد التاريخ فعلتها مع الأمور، وتتم بشكل قد لا يكون محسوساً في النهاية.
وعلى كل من يعلم الحق أن يصدع به، وعلى كل من يرى رؤية في الفكر تصب في تيار إظهار الحق وتسليط الضوء على النواقص التي تنقص العقل المسلم، وبالذات ما ألححت عليه في هذا الكتاب من غياب المفردتين التي أسميتهما هناك رائعتين وهما (العقل والحرية) وما يترتب على ذلك من مزيد من البروز – إن كان ثمة بروز- على إطلاق الحاسة النقدية في العقل المسلم، التي تمكن الإنسان من أن يمارس جرأة النظر فيما يظن أنه ثوابت، ويطرح بشأنها كمسلم تحت سقف النص أطروحته العقلية.

* طرحتم في هذا الكتاب القيم رؤية أصولية حديثية تدعو إلى مراجعة الاطروحات السلفية، هل هناك من يقول: إنكم تهدمون بذلك صرحاً إسلامياً شامخاً وما تعليقكم على مثل هذه المقولات؟
(المستشار) : كما اتفقنا أن السلفية كنمط تفكير تمارس سلطاناً عاتياً على العقل المسلم، ونستطيع أن نقول إنها هي ذاتها العقل المسلم، والعقل المسلم الراهن هو مجرد امتداد طولي زمني للعقل السلفي الأول.
وهذا يفسر بشكل بسيط جداً الهبّة التي يهبّها هذا العقل الراهن في وجه أي نوع من أنواع الممارسة النقدية على العقل السلفي، لأنه - في حقيقة الأمر - وهو يدافع عن العقل السلفي الأول يدافع عن نفسه.
ومن الصعب جداً أن تقتلع الأفكار التي تم توارثها عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة من أعماق الناس... أياً كانت هذه الأفكار، فما بالك إذا كانت هذه الأفكار تتعلق بفرضية السلفية ذاتها. لأن العقل السلفي الأول كان سلفه سلفياً، وكانوا على وعي بهذه القضية، وورث العقل المسلم فيما ورث مفهوم السلفية، أي مفهوم الاتباع الأعمى، وهذه قضية خطيرة جداً في العقل المسلم.
وقبل الوصول إلى حل لإشكالية مفهوم الاتباع المطلق الأعمى في العقل المسلم، ستبقى الأمور في خلل كبير، ويكون من الصعب جداً القفز إلى المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن يقدم من خلاله الإسلام للناس في القرن الحادي والعشرين.

* طبعاً... نحن نسلم بوجود هذه الأصوات التي تعترض على هذه الاطروحات، ونحن نلاحظ هذه الحيثية التي ذكرتموها من عمق السلفية في العقل المسلم. لكن أليس من سبيل للتحاور العلمي الهادئ الهادف مع مثل هؤلاء؟!.
(المستشار) : السلفية بالمفهوم الذي تكلمنا عنه ليست مجرد رأي، هي نزوع سيكولوجي..
وهذا النزوع من الصعب التعامل معه بمنطلقات الفكر المحض، الرأي والرأي الآخر و الحجة بالحجة، هذا أمر يختلف عند التعامل مع إنسان يعاني من مرض نفسي.. أو من خلل نفسي.. أو من إشكالية نفسية لا سبيل إلى إقناعه بالحجة… القضية مختلفة.
أنا أزعم أن السلفية نزوع سيكولوجي بالمعنى الموجود في علم النفس… الناس تمارس هذه السلفية أحياناً بوعي وأحياناً بغير وعي. أصبح تكويناً راسخاً في التكوينة الإجمالية للإنسان بما فيها الشق النفسي، فمسألة الحوار وعدم الحوار يخضع فيها الإنسان الراشد لحجية البرهان، فلما تكون المسائل بهذا الشكل تكون سهلة لا إشكال فيها، لكن لما يكون الإنسان قد قرر سلفاً بحكم نزوعه الوجداني أن لا يسمع.. تكون المسألة صعبة.
ومع ذلك نحن لا ننفي أهمية الحوار مع أي أحد من الناس وفي أي وقت من الأوقات، ونحن نعيب على العقل السلفي أنه ينفر من الحوار ويتوجس منه خيفة ، وأنا لا أنفر من الحوار، بل أحب الحوار وأحب الخلاف، لأني أعلم أن الاتفاق الكامل مستحيل، ولا يوجد نوع من الاتفاق الكامل ولن يحدث (ولا يزالون مختلفين).
والاختلاف شيء من طبيعة البشر وتكوينهم، وهذا من خلق الله عز وجل، كل القضية أن تنظم هذا الاختلاف، وأن تنزل به إلى أدنى مستويات الضرر التي يمكن أن تترتب عليه، ثم تحصل منه على أعلى مستويات الفائدة التي يمكن أن تؤخذ منه؛ لأن الاختلاف له فوائد بحكم أنك تستطيع أن تأخذ من كل شيئاً مختلفاً عما يعطيه كل فرد من الأفراد. ومن هذا الاختلاف بين الناس يمكن أن ينتج ما ينفع الناس؛ ويؤدي إلى المصالحة بالمعنى الحقيقي…
فأهلاً وسهلاً بالحوار.

* لو خرجنا نوعاً ما عن الدائرة الإسلامية، فمن خلال اطلاعكم على عقلية غير العقلية الإسلامية كالعقلية الغربية مثلاً، هل ما زالت العقلية الغربية تمارس هذه السلفية أم أنها تحررت منها؟.
(المستشار) : عند الحديث عن الغرب بالمعنى العام؛ يمكن أن تقول إنه بانتهاء العصور الوسطى والدخول في عصور النهضة الأوروبية، أعلنت أوروبا قطيعة نهائية مع السلفية، لا سيما السلفية الدينية، لأن هناك سلفيات أخرى في الفكر الغربي، مارست أوروبا نوعاً من النكوص الارتدادي للماضي.
ومع بزوغ عصر النهضة توجهت أوروبا –في نوع من الحنين- إلى استدعاء الثقافة اليونانية القديمة، وادعت الانتساب إليها، وزعمت أنها امتداد للفلسفة اليونانية، والفلسفة الأوروبية المعاصرة تمارس الآن نوعاً جديداً من التمرد على السلفية اليونانية.
وبالمعنى الدين ... أنت تعلم أن الكنيسة مارست على الإنسان الأوروبي طوال العصور الوسطى سياسة قبضة حديدية شديدة، فرضت عليه أن يقبع في دائرة بعيدة عن ممارسة العقل وعن ممارسة الحرية…. الكنيسة الكاثوليكية التي حاكمت (جاليليو) عندما تكلم عن الأرض بإنها ليست هي مركز الكون، وقال: إن مركز الكون هو الشمس ، مفجراً بذلك ثورة في العلوم الطبيعية، فأمرت الكنيسة بمعاقبته عقاباً شديداً…كاد يقتل فيه.
وانتهى الأمر بحبسه بعد اعتذاره الشديد عن النطق بهذه المقولة الهائلة الشديدة… والذي حصل عندما أخذ (جاليليو) للحبس، وبعد أن كتب إقرارا يعتذر فيه، فعندما دخل إلى الحبس نظر إليهم، وقال: ومع ذلك فإنها تدور؛ على الأرض … أي أنه غير قادر أن يقنع نفسه أن الأرض لا تدور لمجرد أن بعض المفاهيم السلفية لقراءة التوراة والإنجيل ترى أن الأرض لا تدور... فالذي حصل في خلال السنوات القليلة الماضية أن أصدرت الكنيسة الكاثوليكية ذاتها اعتذاراً رسمياً (لجاليليو) وتبرأت من المفعول السلفي الأول الذي كان…
الكنيسة الكاثوليكية التي تمثل عمق أوروبا المسيحي الآن تمارس نوعاً من الرجوع عن السلفية... في أشياء كثيرة في تفاصيل الفقه الكنسي وتنصاع يوما بعد يوم لضغوط المجتمع المادي؛ الشديد المادية؛ الشديد الاغترار بقدرة العقل وفتنة التكنولوجيا التي ظهرت… لدرجة أن رجال الكهنوت أصبحوا من النساء، ويسمح لهم بأشياء لم يسمح لهم بها في الماضي، إلى درجة متطرفة، فالبعض يتحدث عن السماح لهم بممارسة الشذوذ الجنسي، وأشياء من هذا القبيل.
فأوروبا تعيش؛ ليس مجرد ردة عن السلفية، بل تعيش انفجاراً ثورياً مضاداً للسلفية، هذه قضية تجاوزتها العقلية الغربية من قديم.
لكن كلامنا هذا لا يمنع من وجود جيوب صغيرة أو شراذم داخل المجتمع الغربي تتكلم بشكل سلفي، أعني بذلك السلفية الدينية أو السلفية العقلية المتمثلة في الفلسفة اليونانية، وقضية الفلسفة مشوار طويل جدا مختلف؛ فيه محطات طويلة؛ لا نريد أن نثقل على كاهل القراء به.

* هل تتصورون أنه سيأتي اليوم الذي سوف تعتذر السلفية للعقل المسلم الذي ينظر إلى النص مجرداً عن الإضافات التي أضيفت إليه؟.
(المستشار) : نعم أتصور... ولكنها حينئذ لن تكون سلفية، لا بد... لا بد أن يحدث ذلك بحكم حركة التاريخ الطبيعة.

* عند نقاش بقية المدارس مع المدرسة الحديثية في مسألة نقد الحديث، يطلب أهل المدرسة الحديثية أن يكون النقد مبنياً على ما قررته المدرسة الحديثية، فيلزمونا أن نتكلم وننقد وفق قواعدهم. فهل المنهج الحديثي على ما استقر عليه ملزم لبقية المدارس الإسلامية؟!
(المستشار) : منهج أهل الحديث يلزم أهله، والقائلون به يرون أنه الحق، والقائلون بغيره يرون عكس ذلك، هؤلاء يرون أنه ملزم، وهؤلاء يرون أنه غير ملزم، إذن فهذه وجهة نظر هؤلاء، وتلك هي وجهة نظر أولئك.
وأما وجهة نظري فهي أن لا شيء وضعياً يلزم إلا بدليل الحق، وقد لاحظت أن هذا النمط من علم الحديث، الذي أسميناه بعلم الحديث الكلاسيكي؛ وجهت إليه بعض الانتقادات الواضحة في هذا الكتاب، وهذا وضع طبيعي أنك لا تلزم أحداً بما تنتقده… علم الحديث التقليدي الكلاسيكي؛ علم له وعليه، وأنا أرى أنه بما انتهى إليه من قواعد لم يستطع أن يقوم بالمهمة التي نشأ أساساً من أجلها وهي تقديم النص الحديثي الصحيح الواضح.

* هل يمكن أن تتفق أو تشرع المدارس الإسلامية في تأسيس وجهة نظر حديثية منهجية جديدة يحاكمون إليها الروايات؟.
(المستشار) : أنا أشك في هذا، وأرى أنه صعب، على الرغم من رؤيتي أن الأرضية في علم الحديث بالذات ليست بعيدة بين المدارس… الأرضية العامة الإجمالية تكاد تكون مشتركة بين معظم المدارس، والخلافات تكمن أساساً في سلسلة الرجال، وامتداداتها خارج دائرة الرجال قليلة التأثير في رأيي، وبالتالي فإن علم الحديث باعتباره علماً توثيقياً تاريخياً قابل لأن يمنهج، وقابل لأن يستند إلى قواعد المنطق والعقل؛ وهذا أمر مشترك… من الناحية النظرية يسهّل من حدوث ما تفضلتم بالسؤال عنه، ولكن شكوكي الأولى التي أبديتها ناجمة عن أسباب غير نظرية، ناجمة عن أسباب محض عملية في الواقع الذي نراه أمامنا.

* بمعنى أن نستخدم العبارة (جائز عقلاً ممتنع واقعا)ً؟
(المستشار) : بل سهل عقلاً.. سهل جداً. إنما سهام النقد يجب أن توجه لهذا العلم كما هو... بحالته الراهنة، أساساً من حيث إنه إسنادي بحت، قائم على السند وليس قائماً على المتن، ولا ينظر إلى نقد الحديث من متنه بأساسه، ونحن لا نتوجس من استعمال مفهوم النقد، وندعو إلى نوع من التوسع في ممارسة النقد... هذا مطلوب.

* هناك قضايا جدلية على مدى تاريخ الدائرة الفقهفكرية الإسلامية، مثلاً لو تحدثونا الآن عن الإجماع والقياس، فهل لكم أن تسلطوا الضوء على وجهة نظركم التي طرحتموها في الكتاب، وهل هي نظرية جديدة، وإذا كان كذلك فما الجديد فيها؟.
(المستشار) : الإشكالية الكبرى في الإجماع والقياس كليهما أنهما يشكلان مرجعية مصدرية مفارقة للنص، ونحن لا نعادي مفردة الإجماع في ذاتها ولا مفردة القياس في ذاتها. ولكن نرفض ما رتبه عليهما العقل المسلم السلفي من إلزامية على أجيال المسلمين إلى آخر الزمان.
مفهوم الإجماع في العقل السلفي هو: إذا اجتمع الناس – وهذا هو المفهوم الأول أو الميلاد الأول لمفهوم الإجماع، أنه اجتماع الناس بإطلاق - وكلمة الناس تشير إلى المسلمين، أي إذا اجتمع المسلمون على أمر معين... أن هذا الأمر يمثل حكماً شرعياً، ومعنى أنه حكم شرعي أنه مؤبد على أجيال الأمة، وبالتالي يأثم من خالفه من الأمة ولو بعد ألف عام.
ويظل الحكم الذي استنبطه بشر - على فرض إمكانية إجماع الناس عليه - يظل هذا الحكم ملزماً للناس لا يمكن أن يخالفوه بعد ذلك، فبالتالي يمثل وصاية أبدية متواصلة على العقل المسلم تحرمه من أن يمارس حقه في الاجتهاد كإنسان يعيش العصر ويمارس حقه في حرية النظر.
هذا الاعتراض على مفهوم الإجماع؛ الذي لنا عليه ملاحظات مبدئية منهجية، وهي أنه مستحيل عملاً بحكم جبلة الخلق الرباني التي خلقت بأصل الاختلاف في الجغرافيا والتاريخ وفي البيئة والثقافة والمولد واللون والتفكير.. في كل شيء؛ الاختلاف بين البشر قائم.
أضف إلى هذا أن مفهوم الإجماع قد تطور في العقل السلفي المسلم، بعد أن كان إجماع الناس إلى أن صار إجماع الفقهاء، وهذا يسلمنا إلى وضعية بشرية جديدة معيبة ، لأنك ستكون بحاجة إلى من يعرف لك هذه الهيئة التي سميت بالفقهاء، من الذي يختارها؟!.. من الذي يجمّع بينها؟!… ثم تفترض أن إجماع هؤلاء حدث في التاريخ… وهذا أمر أرى أنه لم يحدث على الإطلاق في تاريخ المسلمين.
الإجماع الذي تكلم عنه البعض ومنهم ابن حزم مثلاً، هو إجماع الصحابة -هذا كلام ابن حزم- على ما وافق الكتاب والسنة، وابن حزم قال على استحياء: إن هذا النوع من الإجماع هو النوع الوحيد الذي يعترف به. ثم يضيف أنه رغم اعترافه به، إلا أن هذا لا يضيف جديداً، لأنه إذا كان إجماع على ما وافق الكتاب والسنة فإن المرجعية إلى الكتاب والسنة وليست لإجماع بشري.
القضية باختصار؛ إنه سؤال منهجي بسيط جداً وهو: من يُشَرّع.. الخالق أم المخلوق؟! .
إذا كان الخالق هو المشرع الوحيد في الإسلام، فالمخلوق لا يشرع ولا يغير من هذه الحقيقة أن يزيد عدد المخلوقين الذين يشرعون، لأن زيادة عدد المخلوقين لا يغير من طبيعتهم، لا يحولهم إلى خالقين..
المسألة واضحة وبسيطة جداً فيما يتعلق بالإجماع.

* وما يتعلق بالقياس؟
(المستشار) : إشكاليته أيضاً في التحليل الأخير؛ تؤدي إلى مرجعية بشرية إضافية قائمة على الظنية، لأن الحكم الشرعي ينبغي أن يكون يقينياً (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)

طبعاً؛ هذا في دائرة الإلزام وليس في دائرة الرأي، أو كما يعبر عنها بعض الفقهاء في مسائل الدين والقطع وليس في مسائل الرأي والظن...
(المستشار) : ربما تكلمنا من قبل؛ أني لا أحرم ممارسة القياس كوسيلة عقلية ذهنية، الإنسان يقيس بحكم الطبيعة الذهنية، القضية غير التي نتكلم فيها. عندما نرفض القياس نرفضه مرجعية مذهبية تنشئ حكماً في الدين.. إذن بشر شرع وقاس شيئاً على شيء من غير يقين في الاشتراك.
أما خارج دائرة الإلزام في الدين، فأنت كبشر إذا كنت مطالباً بالاجتهاد فقد يكون من حقك، بل ستمارس -شئت أم أبيت- أنماطاً شتى من القياس الذهني العقلي.. لن يصادر أحد حقك في ممارستها بعد ذلك… فوضع طبيعي وأنت تشرع داخل دائرة المباح، من الوارد جداً أن تمارس حق القياس الذهني.
وكان الفقه القديم يرادف بين القياس والرأي، وكانوا يعتبرون مفردة القياس تعبر عن محض ممارسة الرأي، لأن القياس -في الحقيقة- هو نوع من الممارسة الذهنية العقلية الواضحة الصريحة.
فإشكالية القياس أنه مبني على الاستناد إلى العلة، وكما قلنا وكما عرفنا القياس؛ بأنه إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لاشتراكهما في العلة، هذا يقتضي أن تثبت العلة يقينا في المنصوص عليه ثم تثبت العلة في المسكوت عنه ثم يثبت أن هذه هي العلة؛ فإذا كانت العلة بذاتها منصوصة فالحكم حكم النص، النص هو الذي حكم.
فإذا لم تكن العلة منصوصة فقد حكمت بالظن، وتكون معيباً لو ألزمت الناس بذلك ظناً، وقلت: إن هذا هو حكم الدين وأسندته للرحمن… لكن لو قلت إن هذا شيء اجتهادي.. أنا أرى هذا.. هذا أمر جيد…
وإذا كنت سلطة تملك حق التشريع الشرعي وانتهيت إلى هذا الرأي ووصلت إلى أن هذا هو الأمر الذي فيه الصالح التشريعي، فإن الإلزامية حينئذ لن تكون ناشئة عن القياس كمصدرية مستقلة، وإنما ستكون ناشئة عن مصدرية وجوب طاعة أولي الأمر في المسلمين أياً كان اسمه: السلطة.. الحكومة.. الحاكم.. إلخ.
ستكون الإلزامية ناجمة عن وجوب طاعته، وليس عن مرجعية القياس الأصلية.
الفارق بين الاثنين: أن مرجعية القياس الأصلية مؤبدة، وأما هذه فحكم محكوم بزمانه وبظروفه يمكن أن يتغير، ويمكن للحاكم أن يغيره، لأن القوانين واللوائح تتغير من وقت لآخر.
ولكن بالنسبة للقياس كحكم شرعي يضاف إلى الإلزاميات المحنطة التي تكبس على أنفاس العقل المسلم لفترة طويلة جداً مع جبال المحظورات والملزمات التي ما أنزل الله بها من سلطان في كثير منها، وتعامل معاملة النص.

إذا نظرنا إلى العلة من حيث إنشاء الحكم، وهذا ما مارسته المدرسة السلفية، ولكن هذه المدرسة عطلت الشق الآخر، أو عطلت ما كانت تقوم به المدرسة العمرية (نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وهي فهم العلة لإعمال النص أو ترك إعمال النص، فما رأيكم في هذا، هل فعلاً أن المدرسة الأثرية أغفلت هذا الأمر؟!، وهل أغفلته عن عمد؟!.
(المستشار) : حجر الأساس في المنظومة السلفية هو الاتباع… التعامل مع النص من خلال علته ضرب من ضروب ممارسة التعقل في النص، وممارسة التعقل في النص شيء محرم في العقل السلفي الأول، العقل السلفي الأول -كما قلنا- كان ينفر نفوراً شبه فطري من ممارسة العقل، وقد مر بكم ما مارسته المنظومة السلفية مع عقلية مثل عقلية أبي حنيفة الذي مارس الرأي والتعقل في النص، وهذا التعقل في النص شيء خطير جداً.

* ماذا تقصد بشيء خطير: بالنسبة إلى الدين أم بالنسبة إلى المدرسة السلفية؟
(المستشار) : عند المنظومة السلفية، وإغفاله هو الخطير عندي.
فأبو حنيفة متهم عند المدرسة السلفية بممارسة التعقل في النص، وهذه جريمة، ليس فقط بالممارسة العملية بل باللفظ …عبارات وتصريحات كثيرة لرجال المنظومة السلفية الأوائل تذم الرأي صراحة وعلناً…(والحديث الضعيف أحب إلينا من رأي أبي حنيفة) يفضله على رأي مستند إلى نص صحيح، لأن الرأي عند أبي حنيفة ليس محض تفلسف في المطلق، فمفاهيمه الأصولية المعروفة ليست مجرد كلام.
انظر مثلاً إلى موقف أبي حنيفة داخل الدائرة السلفية بل الأصولية.
ولم يكن أبو حنيفة متكلماً كالمعتزلة، وموقفهم من المعتزلة كان موقفاً فظيعاً آخر، لأن المعتزلة مارسوا التعقل في النص بجرأة أكبر، بجرأة أكبر من جرأة أبي حنيفة، ومارسوا التعقل في النص تحت عناوين أخرى غير عناوين السلفية العقلية… السلفية العقلية تريد لمن يتكلم أن لا يتكلم إلا تحت عناوين معينة، باستخدام مصطلحات معينة، باستخدام مفردات معينة، باستخدام قضايا معينة… تكلم في الفقه وفي الفروع وتقول: قال شيوخنا، وانتهت القضية.
ولما يجئ أحد ويخرج عن هذا السرب ويتكلم في قضايا أخرى، أو حتى يتكلم في هذه القضايا تحت عناوين أخرى، كأنه أتى بدين جديد.. وهذا نوع من التماهي أو المرادفة بين الدين وبين أنفسهم، وهذه آفة شديدة وخطيرة جداً في العقل المسلم الأول.
أما عن موقفهم من المعتزلة... كان على درجة أشد وأقسى من موقفهم من أبي حنيفة، فهم بالكاد -في إجمالهم- اعتمدوا أبا حنيفة داخل دائرة السنة والجماعة بشكل أو بآخر، ومع ذلك قبل بدرجة مقبول، مع لمزات معينة وصلت إلى حد تكفيره، ومع ذلك قبل على مضض داخل حدود دائرة (ما سمي بعد ذلك) بالسنة والجماعة.
الموقف من المعتزلة كان شديداً جداً، تكاد كتب الفرق مثل البغدادي والشهرستاني تكفرهم صراحة.
تعال إلى موقف آخر أعجب من هؤلاء وهؤلاء… موقفهم مع من مارس التفلسف في الإسلام، كالكندي والفارابي وابن رشد.
فابن رشد مثلاً كان فيلسوفاً صريحاً رغم كتاباته في الفقه وكتاباته في لم الشمل بين الشريعة والفلسفة…ابن رشد كُفِرَ تكفيراً واضحاً علنياً صريحاً، فكان الموقف السلفي النهائي من العقل هو موقف قائم من العقل في ذاته، وتوجس من ممارسة التعقل، مما يشي بنوع من عدم الثقة بالنفس في رأيي لا تليق بمن يمثل هذا الدين العظيم الذي هو دين الله (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال).
من أراد أن يفهم هذا الدين بهذا الشكل ينبغي أن يقدمه للناس دون أن يخشى من العقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتفال الكاتدرائية المرقسية بعيد القيامة المجيد | السبت 4


.. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية برئا




.. نبض أوروبا: تساؤلات في ألمانيا بعد مظاهرة للمطالبة بالشريعة


.. البابا تواضروس الثاني : المسيح طلب المغفرة لمن آذوه




.. عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس عيد القيامة المجيد ب