الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تحوّل يهوه من إله محلّي إلى إله عالمي؟

إبراهيم جركس

2015 / 1 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الفصل الثاني ((طفولة الدين))
الديانات الإبراهيمية الحديثة والمعاصرة التي نراها في أيامنا هذه (اليهودية، المسيحية، والإسلام) جميعها منسوخة من نسيج مشترك فيما بينها. سنبدأ بدراسة فيروس الدين من خلال ثمانية نقاط أساسية تطورّت خلال الألفية التي سبقت عصر المسيح. وخلال دراستنا لكل فكرة من هذه الأفكار، أرجو أن تحاولوا أن تنظروا غليها بوصفها ميماً: كيان متطوّر، متناسخ، متضاعف يتنافس مع غيره من الكيانات الأخرى (الميمات)، محاولاً الحفاظ على بقاءه واستمراره، محاولاً الانتقال للجيل التالي، مثل الجينات تماماً. أغلب دراسات تاريخ الأديان تركّز على كيفية اكتساب مجموعة من الأفكار لأهمية ومكانة معيّنة وكيفية جمعها ودمجها وإنشاء دين كامل منها. في قصّتنا الحالية من التاريخ، سنتعرّف إلى سبب بقاء هذه الأفكار وانتشارها، في حين لم تنجو أي أفكار أخرى، إنّما انقرضت وتمّ نسيانها.

# الميم الذي يسمّى بـ"إله المهام الشاملة"
((لو حُكِمَ فجأةً على الله بأن يعيش الحياة التي فرضها هو على البشر، لَقَتَلَ نفسه على الفور)) [أكسندر دوماس، فِلْس]
تقع جزيرة غينيا الجديدة شمال أستراليا عند الحافة الجنوبية الغربية للمحيط الهادي، وهي ثاني أكبر جزيرة في العالم. اكتشفها الأوروبيون خلال القرن السادس عشر، لكن تمّ تجاهلها حتى حلول منتصف القرن الثامن عشر عندما بدأ المبشّرون والتجّار بالاستقرار هناك. احتُلّت غينيا الجديدة وهُجِرَت كثيراً من قبل الأمم الأوروبية، وفي النهاية أصبح الجزء الغربي منها Iryan Jaya الذي بات يسمّى الآن "بابوا" إقليم إندونيسيا، وفي عام 1975 حصل القسم الشرقي منها على استقلاله وبات يُعرَف اليوم باسم "بابوا غينيا الجديدة".
خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، حدث شيء مذهل. كان عمق الأراضي الغينية مؤلّفاً من جبال شاهقة وشديدة الانحدار، مغطّاةً بغابات مطرية كثيفة، وكان يعتقد أنّها غير مأهولة إطلاقاً. جمعت للحكومة الهولندية _على أمل الاستفادة من مستعمراتها_ بعثة للدخول في أعماق غينيا واستكشافها بحثاً عن الذهب أو مواد أخرى في الجبال الوعرة. ولدهشتهم البالغة، فبدلاً من عثورهم على أدغال وغابات غير مأهولة، عثروا على حضارة كاملة. وليس مجرّد قبائل أو مستعمرات متفرّقة ومشتتة، بل حضارة مكوّنة من حوالي مليوم إنسان. وعلى مرّ العقود التالية، استمرّ اكتشاف المزيد والمزيد من القبائل في هذه السهول والهضاب الوعرة والمنحدرات وكان ذلك بمثابة أخبار صاعقة لعلماء الأنثروبولوجيا، في الواقع كان هذا آخر أعظم اكتشاف لمجتمع كبير و"بدائي" في تاريخ العالم. فبالرغم من المعجزات التكنولوجية التي تمّ تحقيقها في القرن العشرين، كان هناك حوالي مليون شخص معزولين تماماً عن باقي البشر في العالم.
إحدى القبائل التي كانت تقطن هذه المرتفعات سُمِيَت بشعب "الأمونغ Amung" تيمّناً بالجبال الوعرة والوديان السحيقة في إقليم غينيا الجديدة، كان شعب المرتفعات منعزل ومنفصل تماماً عن شعب الأراضي المنخفضة، وأغلب القبائل كانت معزولة عن بعضها البعض لآلاف السنين. وقبل أن يُعاد تحديد مواقعها من قبل الحكومة الهولندية وكهنة ومبشّرو الكنيسة الكاثوليكية لاستغلال أراضيهم واحتكارها، كان الأمونغ يشغلون سبعة عشر وادياً في جبال سودرمان.
كان لشعب الأمونغ عقيدة أرواحية نموذجية Animism ونظاماً عقائدياً روحياً كاملاً، وظّفت "الأنيما/الأرواح Anima" بشكلها الجذري لتعني حرفياً (الروح). قامت الباحثة والدكتورة كارولين د. تورينسكي كوك بدراسة شعب الأمونغ عن قرب، وكتبت قائلةً:
((الشعوب البدائية والفطرية كشعب الأمونغ، يؤمنون بأنّ المادة حية _جميع أشكال المادة وبمختلف أنواعها. يمكن رؤية الحياة في الحجارة، الأشجار، الجبال، والأنهار، بالإضافة إلى البشر... يتضمّن نظامهم العقائدي مزيجاً من أرواح الأرض [و] أرواح الأجداد...))
بمعنى آخر، لم يكن الأمونغ يملكون أي فكرة عن الله أو الآلهة منفصلة ومستقلة عن الطبيعة، فالأرواح والطبيعة هما شيء واحد ونفس الشيء. لم يكن الدين منفصلاً عن حياتهم، مثل الكنيسة التي ترتادها أيام الآحاد، بل كانوا مُشبَعين بدينهم الذي تربّوا عليه طوال حياتهم. بمعنى أنّ الأرواح جزء من المجتمع وليست منفصلة عنه.
إذا قمت بإحصاء عدد الآلهة على مرّ التاريخ منذ فجر التاريخ المكتوب، فسترى اتجاهاً واحداً واضحاً أمامك: على مرّ القرون، كانت أعداد الآلهة تقلّ وتنقص، لكنّ تلك الآلهة التي ظلّت اكتسبت قوى وقدرات أكثر فأكثر.
المعتقدات المبكّرة التي يمكن تصنيفها كمعتقدات دينية هي الأرواحية عادةً، كالتي يؤمن بها شعب الأمونغ، أي أنّ الناس "سَيُرَوحِنون" جميع الأشياء والمواد التي كانت ضرورية وحيوية من أجل بقائهم واستمرارهم.
المحاصيل والأشجار، الدببة والغزلان، الشمس والقمر، الغيوم الماطرة، الرمح والفأس _جميع هذه الأشياء ضرورية وهامة بالنسبة لهم_ كلها كانوا يتصوّرونها على أنّها تمتلك شخصيات ودوافع ورغبات خاصّة بها. دوّامة مفاجئة في النهر تريد ابتلاع القارب وإغراقه، وعلى قائد القارب أن يتفوق على الدوامة بذكاءه (إنّها مسألة شخصية، قائد القارب ضدّ الدوامة). قد تعطف غيمة عابرة على القرية وتقدّم المطر لسكّانها. إذا استعطفوها وعرضوا عليها حاجاتهم وقاموا بالطقوس اللازمة. قد يوافق الغزال على التضحية بنفسه إذا شرح له الصياد سبب صيده له وأخبره أنّه يريد إطعام أولاده الجوعى.
يمكن استثارة هذه الأرواح، وتفادي غضبها وسخطها، واسترضائها وتهدئتها، خداعها، والدعاء لها، كل ذلك جزء محوري من حياة أي شخص. يتفاعل الناس في هذه المجتمعات مع هذه الأرواح مثلما يتفاعلون مع بعضهم الآخر _بمساواة متفاوتة. كل روح أو نفس لها غاية واضحة أو هدف واضح: روح الغزال تحمي الغزال، روح القمر ترشده عبر السماء، وروح الغيوم هي التي تقرّر موعد هطول القمر وأوانه. فإذا كنت بحاجة لمساعدة الروح، عليك أن تطلب ذلك منها.
كتبت الدكتورة تورنيسكي كوك عن حياة شعب الأمونغ اليومية:
((كل شيء له أهمية بالغة، حتى أصغر الأشياء، الحجارة، الهضاب، والجداول تجري من دون اسم في أرض الأمونغ. جبال الأمونغ الشمالية هي مرتع أرواح أجدادهم. إنّها جبال مقدّسة، وترتبط بها العديد من الأساطير والحكايات. حياتهم اليومية تعكس مكانة الروحانية عندهم مدى ارتباطهم بأرضهم.
القيود والمحظورات التي يفرضها النظام الاجتماعي لدى الأمونغ يعكس احتراماً وتقديراً كبيرين لبعض القوى غير البشرية، لنسمّها أرواح السلف أو الأجداد أو أرواح الأرض... وهذا يمنحهم إطاراً عاماً لتفاعلاتهم وعلاقاتهم مع الآخرين))
مع مرور الزمن ونضوج المجتمعات، تظهر الأرواح العليا meta spirits (أو أرواح مافوق الأرواح) أنّها مرتبطة بالجماعات أكثر من ارتباطها بالأشياء أو الموجودات: قد تكون هناك روح دب مسؤولة عن كافة الدببة الأفراد، أو روح للطقس هي المسؤولة عن جميع الغيوم. هذه الأرواح تكتسب المزيد من القوة مع مرور الوقت، ويتفصل أكثر فأكثر عن الأشياء المادية في هذا العالم. الخط الفاصل بين "روح" و"إله" هو عبارة عن منطقة رمادية في الواقع، لكن بعد فترة من الزمن، ستغدو هذه الأرواح قوية للغاية، وسيصبح من الأنسب تسميتها "آلهة".
ما أن تصبح الآلهة كيانات مجرّدة (أي مستقلّة عن العالم وموجوداته)، فإنّ الخطوة التالية في مسيرة تطوّرها هي أنّها ستصبح آلهة المفاهيم أكثر من كونها آلهة الأشياء. هذه الآلهة بإمكانها الاستجابة للدعاء والصلوات من أجل مفاهيم مجرّدة، كالحب، العدل، والحرب. والدعاء لروح الحجر أو الغزال لايساعد على الحب، بل الصلاة "لله" قد تنفع.
كانت هذه هي الخطوة الأولى في مسيرة تطوّر "ميم" إله الغايات والمهام الشاملة. لقد تطوّر الدين من آلهة أرواحية (أرواح) كانت متّصلة ومرتبطة بأشياء مادية معينة (دببة، أشجار) بأهداف وغايات محدودة وضيّقة، إلى آلهة مسؤولة عن فصائل وأنواع كاملة من الأشياء (جميع الدببة، جميع الأشجار)، ثمّ إلى كيانات مفاهيمية مجرّدة بشكلٍ كامل (الحب) أو نشاطات أخرى للإنسان (الحرب).
ويستمرّ الميل نحو فكرة الآلهة الأشمل والأقوى. يبدأ الآلهة بتولّي بعض المهام، إذ بات بإمكانك الصاة لواحدٍ من الآلهة ليحقّق عدداً من الأمور المختلفة. هناك أيضاً تراتبية هيراركية تتخلّل هذه المجموعة المُقَلّلة من الآلهة، آلهة أقوى وأعظم واقل عدداً. وسيظهر الإله الأعظم آجلا أو عاجلاً، في بعض الأحيان بشخصية الأم، وفي أحيان أخرى بشخصية الأب.
هذا الميل أو الاتجاه العام في تاريخ مسيرة تطوّر الدين نتجت عنه تنويعة رائعة ومختلفة من المجتمعات الإنسانية. ليس جميع المجتمعات طبعاً، وبالتأكيد هناك مجتمعات لم تطأ برجلها حتى عتبة "التوحيد"، لكن ضمن سياق أوسع تميل أغلب المجتمعات للبدء من المرحلة الأرواحية ثمّ تنتقل إلى الأديان المتعدّدة الآلهة (المرحلة الشركية)، ثمّ نحو مرحلة الآلهة الهيراركية، حيث تنخفض أعدادها ويتمّ اختزالها في مجموعة من عدّة آلهة مسيطرين، أو إله واحد مهيمن. هذا تعميم جامح، لكنه يقدّم لنا صورة شاملة وواضحة.


كتاب فيروس الدين [4]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كان المشركين أنصح
محمد البدري ( 2015 / 1 / 20 - 18:21 )
جميع المجتمعات حتي يومنا هذا لم تطأ برجلها حتى عتبة -التوحيد- لكن تم وطئها ووطئ شعوبها بحذاء الاستبداد السياسي الذي فرض عليها من تصلح معه أو تماس مع الفكرة الدينية ديانة التوحيد. فالتوحيد فكرة باطلة. ففقر الفكرة يكشفه تعدد الوظائف التي تغطي الواقع وما يتبع ذلك من دعوات البشر بتعدد مصالحهم وتوجهاتهم في الصلاة وفي كل وقت بان يصلح لهم احوالهم باعتباره الاله (بتاع كله - حسب قول المصريين) وهنا تتجلي سذاجة الفكرة وفقرها في آن واحد ومدي صحة فكرة الشرك وتعدد الالهه. ففكرة التوحيد حسب مدونات البشر ولدت في لحظة محاولات عدة ليشارك من لا ينتج المنتجين نتاج عملهم. هكذا كشفت لنا التوراه في قصة ابو الانبياء هذا الزعم كما جاء في سفر التكوين.

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah