الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كردستان: نشوة الإستقلال ومأزق الدولة

عصام الخفاجي

2015 / 1 / 21
القضية الكردية



في عام 2007، استقبلني السيد مسعود البارزاني في مقرّه بشقلاوة. كان مرافقي إلى اللقاء السيد آزاد برواري، أحد أبرز قياديي الحزب الديمقراطي الكردستاني. استلفت انتباهي قول السيد برواري بأنهم أخطأوا عندما تفاوضوا مع بغداد حول علاقة إقليم كردستان بالدولة الإتحادية. كان الموقف الصحيح، وفقا له، أن يتم التفاوض بين كيانين متكافئين حول شروط الإتحاد فيما بينهما.
كان حلمي، ولايزال، أن أرى العراق أمّة تتكون من شعبين رئيسين يجمعهما نظام فدرالي لا إقليما تابعا لمركز، وأن يرى كل من الشعبين مصلحته في البقاء في دولة واحدة. لكن الأحلام تبقى أحلاما.
الآن وقد بات الحلم الكردي بقيام دولة قومية مستقلة لأول مرة في التاريخ قريب المنال، ثمة سؤالان سأجيب على أولهما باختصار لأنني أخمّن أن قادة كردستان يتفقون معه: هل الوقت مناسب لإتخاذ هذه الخطوة الآن أو حتى في المدى القصير. ورأيي ببساطة شديدة: لا! هنا بعض الأسباب: الأهمية الحاسمة لمجابهة داعش بتنسيق بين بغداد وأربيل. فبرغم ميوعة هذا التنسيق حاليا، إلا أن كثيرا من الدول ستمتنع عن تقديم مساعدات عسكرية إلى كردستان من دون موافقة، ولو شكلية من بغداد، لكي لايُفسّر الأمر اعترافا منها باستقلال الأخيرة. وسبب ثان هو انهيار أسعار النفط الذي يجعل كردستان أكثر احتياجا إلى الحصول على حصّتها المقرّة دستوريا من الميزانية الإتحادية. وثالث الأسباب، وليس أقلها أهمّية بالتأكيد، هو ضرورة إيجاد تسوية ما لما يّسمّى بالمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل وبخاصة كركوك.
السؤال الثاني الذي أحاول مقاربته هنا يتعلّق بالمشاكل البنيوية العميقة التي ستواجه دولة كردستان ككيان مستقل قادر على الحفاظ على استقراره الإجتماعي من دون التضحية بالأسس الديمقراطية التي يعلن النظام السياسي التمسّك بها.
إن تأخر الشعب الكردي في نيل حقوقه يضع أمامه كنزا من تجارب انطوت على هزائم ونجاحات. فليس بعيدا عن ذاكرة جيلي ذلك الحماس الساذج الذي رافق أدلجة صراعات التحرر. كان التحرر في نظر الغالبية إكسيرا يقضي على التخلف والضعف والفقر وكل مايخطر على البال من أمراض ومشاكل يعاني منها البلد المتحرر حديثا. وكان التشكيك بقدرة هذه العصا السحرية يعادل الخيانة. ولابد أن نشوة كهذه سترافق نشوء دولة كردستان لعلها ستكون أكثر تعقّلا لأن الجمهرة، المتعلّمة على الأقل، استفادت من تجارب قرن من حركات التحرر. لكن ما لن يتغير على الأرجح هو الشعبية الطاغية التي سيحظى بها الزعيم الذي قاد معركة الإستقلال، واقصد هنا السيد مسعود البارزاني وهو يحظى بها منذ الآن كما تدل نتائج الإنتخابات الأخيرة التي منحت حزبه أغلبية كبيرة ستكون ساحقة بعد الإستقلال.
الشعبية الهائلة في بلد ريعي تحمل خطرا يهدد الديمقراطية جدّيا بغض النظر عن نوايا القادة. فكردستان ستكون دولة ومجتمع ريعيين بامتياز، إذ ستشكّل عوائد النفط عنصرا رئيسا في اقتصادها، وستكون كردستان مرشّحة للإصابة بما يسمّيه الخبراء "لعنة النفط". ندع الجانب الإقتصادي جانبا لننظر إلى العواقب السياسية والإجتماعية لتلك اللعنة. حكومة تتمتع بشعبية كبيرة تتصرّف بموارد النفط يعني أنها قادرة على تقرير من ينال العقود ومن يُحرم منها. وهي عرضة لأن تتوسع في تشغيل الموظفين المحابين لتوجّهاتها. وهي قادرة على منح إغراءات لسياسيين مقابل انفضاضهم عن المعارضة. وهي قادرة على حشد الصلاحيات بأيدي قلّة من المقرّبين حتى وإن حافظ نظام الحكم، وهو سيحافظ، على طابعه التعددي الفاصل بين السلطات. ولا يُستبعد أن يتبنى البرلمان قانونا ينصّ على انتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر مما يمنحه سلطات تفوق ماللرئيس في نظام برلماني.
لكن الخطر الأكبر الذي قد يكون له عواقب جسيمة على مستقبل كردستان يكمن في احتمال أن يؤدي الطابع الريعي للدولة إلى تعميق التباين الجهوي بين جزأي البلد. وهو تباين له جذوره التاريخية ولم يندر أن اتّخذ شكل صراعات دموية حادة لاتزال آثارها قائمة حتى اليوم.
ليست كردستان جنوب السودان التي لم يجمع أبناءها غير كونهم غير عرب وغير مسلمين تعرّضوا إلى تهميش منتظم من جانب الشمال المسلم. لكن التماسك القومي للشعب الكردي ينطوي، مثله مثل أي شعب، على انقسامات عميقة تتعدّى بكثير وجود أقليات كلدانية/ آشورية وتركمانية في كردستان، كما تتعدى الإختلافات المذهبية والدينية فيها. فإلى جانب المسيحيين والأيزيديين ثمة طيف واسع من التنوع في صفوف المسلمين. وإلى جانب الأغلبية الشافعية ثمة أقليات من الشبك والحقّة والشيعة الفيليين وغيرهم. وثمة أخيرا انتشار واسع لطريقتين صوفيّتين قد يكون ذا دلالة جزئية، وجزئية فقط، عند الحديث عن الإنقسامات السياسية- الإجتماعية في كردستان. فالأسرة البارزانية تتزعّم الطريقة النقشبندية التي تنتشر في غرب كرستان (بهدينان) ووسطها والأسرة الطالبانية تتزعّم الطريقة القادرية المنتشرة في السليمانية وكركوك (سوران).
من المبالغة القول أن جذور الصراع بين القوّتين السياسيتين الرئيستين، الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي توارث البارزانيون زعامته والإتحاد الوطني الكردستاني الذي ترأسه جلال الطالباني منذ تأسيسه، تكمن في هذا الإنقسام مع أن المناطق التي حظي بها كل من الحزبين بجماهيريته تكاد تتطابق مع هذا التوزّع. فثمة انقسام ألحقه تاريخ من العزلة الجغرافية بين مناطق كردستان يتمثل في غياب لهجة موحّدة يستخدمها الأكراد للتفاهم فيما بينهم. والمتحدث بالسورانية لايفهم ما يقول البهديناني وبالعكس. وفوق هذا وأهم منه بكثير ثمة التنافس التاريخي بين المركزين الحضريين السليمانية وأربيل. السليمانية حديثة التأسيس (1820) وسكّانها هم الأكثر حضرية، إذ تقل فيها الروابط العشائرية على عكس بهدينان. هي المدينة "النقية" إذ هي كردية بالكامل على عكس أربيل، إحدى أقدم المدن المسكونة في العالم والتي كانت مركزا عثمانيا جلب معه نسبة من أبناء العرق التركي. السليمانية ترى نفسها قلب الحركة الثقافية والحركة القومية الكردي. هي باختصار دمشق كردستان، قلب النزعة الكردية مثلما الأولى قلب العروبة مع فارق أن دمشق كردستان لم تصبح عاصمة لدولتها.
من هذا الإختلاف الإجتماعي نشأ الإنقسام السياسي الكبير لكردستان. للديمقراطي الكردستاني جماهيرية ساحقة في بهدينان وللإتحاد وحركة التغيير "كوران" المنشقة عنه شعبيته في سوران بما فيها كركوك.ولأنه ليس انقساما بين برنامجين سياسيين قدر ماهو انقسام بين جزأي كردستان كانت له تجلّيات وخيمة. فحتى قبل تأسيس الإتحاد الوطني الكردستاني عام 1976، كان السيد جلال الطالباني يتزعّم (إلى جانب والد زوجته إبراهيم أحمد) جناح "المكتب السياسي" الذي انشقّ عن قيادة الملاّ مصطفى البارزاني متّهما إياه بالعشائرية والرجعية. ووصل الصراع ذروته عام 1996 حين اندلعت "البراكجي" أي حرب الأخوة التي كان مسعود البارزاني شجاعا بوصفها بما هي عليه حقّا: حرب أهلية رسمت حدودا جغرافية فاصلة بين منطقتي نفوذ الحزبين وانطوت على "تطهير عرقي" نزحت فيه العوائل الموالية لكل من الحزبين إلى أماكن سيطرته واستدعت استنجاد البارزاني بعدوه اللدود صدّام حسين الذي كانت تلك فرصته الذهبية للتدخل إلى جانب قوات الأخير وإزاحة الخصم إلى السليمانية. وحتى اليوم لايزال كل من الحزبين يحتفظ ببيشمركته المستعصية على التوحّد في ظل شك متبادل يعلو على التحالف الستراتيجي الذي أبرمه الحزبان لتنسيق المواقف تجاه بغداد.
عالم السليمانية اليوم يبدو بعيدا عن عالم أربيل يشخص فيه الأول إلى إيران فيما الثاني إلى تركيا. أربيل العاصمة ورشة بناء هائلة تغرق في الرفاه فقد أعلن قادة كردستان عن حلمهم بأن تكون أربيل دبي ثانية، لكن لايبدو على السليمانية حتى الآن أنها أبو ظبي الرديفة في الرخاء.
لن تندلع براكجي جديدة بالتأكيد لو استقلّت كردستان. لكن الخوف من التهميش سيظل قائما في سوران. خوف قد يحيل كردستان إلى ساحة صراع إيراني- تركي تشدّ فيه الأولى سوران وبغداد إليها فيما ورقة أربيل القوية تكمن في أن تحالفها مع تركيا يؤمّن لكردستان منفذها الوحيد لتصدير النفط فضلا عن ميزة الإرتباط بدولة مهما كان خطاب قادتها الشعبوي، تظل جزءا من حلف الناتو والعالم الغربي.
تساؤل قد يكون فيه بعض من شطح الخيال. هل سيتكرر سيناريو صراع بغداد وأربيل حول ملكية حقول النفط وكيفية توزيع عوائده وحقوق تصديره إلى كردستان المستقلة؟ أكبر حقول النفط وأكثرها غزارة في الإنتاج تقع في السليمانية وكركوك. ماذا لو أصرّ المركز، الذي لن يكون بغداد هذه المرّة بل أربيل، على حقّه في حصر التصدير ونيل حصّته؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ عصام الخفاجي المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2015 / 1 / 21 - 06:38 )
تحية و اعتزاز
في بداية المقالة قلتم مشكورين التالي
الآن وقد بات الحلم الكردي بقيام دولة قومية مستقلة لأول مرة في التاريخ قريب المنال ............
بعد ان ختمت المقالة هل لازال القول بنفس روح (قريب المنال) لطفاً؟
...................
في قرب تهاية المقالة تفضلتم بالقول
لن تندلع براكجي جديدة بالتأكيد لو استقل الاقليم
السؤال من اين كان لك ذلك التأكيد...و انت الذي اوضحت الحال بأحسن توضيح؟
اكرر التحية و الشكر


2 - إستقلال كوردستان 1/3
آكو كركوكي ( 2015 / 1 / 21 - 09:30 )


الأستاذ عصام المحترم
شكراً لهذه المقالات القيمة .
أستطيع أن أقول إن أغلب النقاط التي ذكرتموها كعقبات أمام إستقلال كوردستان هي صائبة وأكثرها للأسف مرتبطة بعوامل داخلية منها خارجية.
لكن أساس إختلافي لربما معكم تتلخص بنقطتين. أولاً تصوير تلك العقبات كإنها أزلية ولاتوجد لها حلول ، وثانيها هو عدم ذكركم لعوامل أخرى أيجابية هي في صالح الإستقلال ومع وجود حلول أخرى وسطية يمكن أن تنجح.

فمثلاً مشكلة الإقتصاد الريعي ومشكلة الديمقراطية ليستا حالة مميزة لوضع كوردستان وحسب . بل العراق والكثير من دول المنطقة لها نفس المشكلة ومازالت هي دول . بقاء كوردستان مع العراق لن تحل هذه القضية بل حينها سيكون على الكوردستانيين النظال من أجل الديمقراطية في أربيل وبغداد معاً. كذلك فهناك إمكانية للنهوض بالواقع الزراعي لتخطي مشكلة الريعية مستقبلاً وجغرافية كوردستان ملائمة لذلك.


3 - إستقلال كوردستان 2/3
آكو كركوكي ( 2015 / 1 / 21 - 09:32 )
أما هبوط أسعار النفط فهو أمر ثانوي ومؤقت بالنظر لحجم الأحتياطي الهائل من الغاز والنفط .

مُشكلة كركوك قد حلتها أحداث داعش. ونهاية الحرب مع داعش سترسم حدود أقليم كوردستان مع أقليم السنة ، بعد أن فشل الدستور بحلهِ .

ولو بقينا في إطار الديمقراطية فإنكم بالتأكيد تعرفون إن الخارطة السياسية لكوردستان اليوم هي غير 1996 فهناك قوى جديدة في الساحة وهناك توجه جيد -جماهيرياً - نحو إجراء إصلاحات ولربما أهمها هو محاولات توحيد قوات البيشمركة.

عملية الإختلاط بين المدن الكوردستانية مشكلة أخرى ولكن هناك حلول لها أيضاً كبناء شبكة طرق ومواصلات ، ومحاولة أيجاد لغة ستاندرد تجمع اللهجات أو أتخاذ لهجة معينة كلغة رسمية للدولة. هي أمور لن تحل بين ليلة وضحاها ولكنها ليست مُستحيلة . كما إن حجم الإختلاف ليست بالدرجة تلك بحيث البهديني لايفهم ولايتقبل السوراني أو العكس بل الموضوع أهون.

ماذكرتموه من تأريخ الإنقسامات صحيح . لكن اليوم فإن أسباب الإنقسام أخُتزلت في الأستقطابات الأقليمية القادمة من خارج الحدود أي تركيا وأيران تحديداً . ولربما الأيجابي في الأمر إن أحد الأقطاب بات أضعف بكثير من ذي قبل .


4 - إستقلال كوردستان 3/3
آكو كركوكي ( 2015 / 1 / 21 - 09:35 )

أعني الإتحاد الذي أختصر فيه التبعية لأيران على تيار عائلة السيد طالباني فقط وهي في طريقها للمزيد من الضعف.

نعم تعيش في كوردستان أقوام وديانات أخرى ولها كل الحق أن تطالب بما تجده حقاً . لكن هذه الأطراف تنقصها الوحدة الجغرافية . ثم إن كوردستان قدمت نموذجاً لابأس به للتعايش السلمي وتقبل الآخر . لو قارناه بالعراق وسوريا وغيرها من الدول.

طبعاً كل هذا لايعني إن على كوردستان أن تعلن الإستقلال غداً لكي تصبح فوراً جنة للديمقراطية والإزدهار. لكن كل هذا أيضا لايعني البقاء مع العراق وإعادة تجربة فاشلة أستمرت لقرن من الزمن .

الحل الوسط هو إعلان كوردستان كدولة مستقلة بالتفاهم مع بغداد ومن ثم إتحادها مع العراق في نظام كونفدرالي .

فهكذا نتجنب حساسيات دول المنطقة من جهة . ونضع العلاقة الحالية في إطارها الشرعي والواقعي . وسيكون الحكم بين بغداد وأربيل هو القانون الدولي بإعتبارهما دولتين عضوتين في الأمم المُتحدة ، ولن يكون الحَكم مجرد دستور محلي ينقلب عليه كل طرف حسب المزاجات الأطراف . وهكذا تعود الثقة بالإتفاقيات بينهما بسبب الضمان الدولي .

اخر الافلام

.. السلطات التونسية تنقل المهاجرين إلى خارج العاصمة.. وأزمة متو


.. ضجة في المغرب بعد اختطاف وتعذيب 150 مغربيا في تايلاند | #منص




.. آثار تعذيب الاحتلال على جسد أسير محرر في غزة


.. تراجع الاحتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية.. واعتقال أكثر




.. كم بلغ عدد الموقوفين في شبكة الإتجار بالبشر وهل من امتداداتٍ