الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميم التوحيد

إبراهيم جركس

2015 / 1 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


# ميم التوحيد

((الآلهة نفسها مولعة بالطرائف أيضاً)) [أرسطوطاليس384-322ق.م]
عندما أصبح يهوه إلهاً لجميع الأشياء والمهام، لم يعد من الضروري عبادة آلهة أخرى _كان بإمكان يهوه تدبّر جميع الحاجات والصلوات للإسرائيليين. لكن ليس هذا هو أصل التوحيد اليهودي، فبالرغم من أنهم عبدوا يهوه وحده، كان الكثير من الإسرائيليين بل أغلبهم حتى وثنيون طوال القرون التي سبقت عهد موسى. إنّ فكرة أنّ يهوه كان هو الإله الوحيد تبدو سخيفة لأغلب الإسرائيليين، بالرغم من أنّهم كانوا يعبدونه بشكل حصري.
في زمن إبراهيم، كان الإسرائيليون _وجميع شعوب العالم_ وثنيين ومشركين، وكانوا يعبدون بنشاط واضح عدّة آلهة. فحسب التاريخ الإبراهيمي المعروف بالتاناخ [اليهود] أو العهد القديم [المسيحيين]، فإنّ الإله قد أظهر نفسه لإبراهيم. مع أنّ بذرة التوحيد كانت قد زُرِعَت، إلا أنّها لم تنمو حتى عهد موسى، وحتى حينئذٍ، لم يكن اليهود قد تحوّلوا بعد إلى التوحيد بشكلٍ كامل حتى زمن يسوع. كانت العادات والتقاليد القديمة تكافح وتناضل من أجل البقاء. كان أغلب الإسرائيليين يعرفون أنّ يهوه كان إلههم الخاص والمميز، لكنهم كانوا يؤمنون أيضاً بالآلهة التقليدية القديمة.
ويمكننا ملاحظة ذلك في العديد من الآيات والمقاطع التوراتية، على سبيل المثال: ((الآن علمتُ أنّ الرب أعظم من جميع الآلهة، لأنّه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم)) [خروج 18: 11]
((والبيت الذي أنا بانيه عظيمٌ لأنّ إلهنا أعظم من جميع الآلهة))[أخبار الأيام الثاني 2: 5]
لقد تأسّس الفكر التوحيدي الحقيقي عند اليهود مع موسى، وهي القصة التي ذكرناها باختصار سابقاً، ميم "إله المهام الشاملة". فخلال زمن موسى، جدّد اليهود ميثاقهم مع يهوه، لكنّ الأهم من ذلك، وخلال الألفية التالية، باتوا مقتنعين تدريجياً بأنّ يهوه كان الإله الواحد والأوحد، وأنّ الآلهة الأخرى كانت حيالية. كان شعب موسى على وجه التحديد من الموحّدين، أي أنّهم كرّسوا عباداتهم للإله الواحد، يهوه، لكنهم كانوا يعتقدون بوجود عدّة آلهة غيره.
خلال الفترة التي رأى فيها إشعياء النبي رؤياه (حوالي 746ق.م) مان التوحيد يثبّت أقدامه على أرض اللاهوت اليهودي.
((أنا هو الأول والآخر ولا أحد غيري)) [إشعياء44: 6]
وبعد إشعياء بفترة قصيرة، نلاحظ أنّ سفر التثنية له أثر عميق على التوحيد عند اليهود. مع أنّ تاريخ متابه سفر التثنية غير دقيق، يبدو أنّه كتب حوالي عام 700ق.م. يتضمّن سفر التثنية على الأقل على عددٍ من التحذيرات ضدّ الوثنية وعبادة الأصنام. ومن الواضح أنّ ذلك بدا كثورة ضدّ يهوه. في سفر التثنية، لا مجال للشرك وتعدّد الآلهة.
لكنّ الفكر الشركي التعددي لم يكن قد اختفى بعد بين اليهود _الكثيرون كانوا مايزالون يعبدون آلهة أخرى. النبي إرميا، تاذي عاش في الفترة التي دُمّرَ فيها معبد سليمان (حوالي عامي 587-586ق.م) كان يستمع إلى شكاوي نساء مصر من اليهوديات:
((إِنَّنَا لاَ نَسْمَعُ لَكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي كَلَّمْتَنَا بِهَا بِاسْمِ الرَّبِّ، 17بَلْ سَنَعْمَلُ كُلَّ أَمْرٍ خَرَجَ مِنْ فَمِنَا، فَنُبَخِّرُ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ، وَنَسْكُبُ لَهَا سَكَائِبَ. كَمَا فَعَلْنَا نَحْPëc’5 وَآبَاؤُنَا وَمُلُوكُنَا وَرُؤَسَاؤُنَا فِي أَرْضِ يَهُوذَا وَفِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ، فَشَبِعْنَا خُبْزًا وَكُنَّا بِخَيْرٍ وَلَمْ نَرَ شَرًّا. 18وَلكِنْ مِنْ حِينَ كَفَفْنَا عَنِ التَّبْخِيرِ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَسَكْبِ سَكَائِبَ لَهَا، احْتَجْنَا إِلَى كُلّ، وَفَنِينَا بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ)) [إرميا44: 16-18]
بالرغم من وقوع حوادث كهذه، كان الشعب اليهودي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى التوحيد. ىجادل الفلاسفة والحكماء اليهود بأنّ يهوه لم يكن فقط إلههم المتخصّص، إنّما كان الإله الواحد والوحيد. لقد تحوّل يهوه من إله محارب تناول العشاء مع إبراهيم وكأنّه جاره المقرّب، إلى إلهٍ جبار تراءى لموسى شخصياً حتى خاف الأخير منه، إلى الرب العظيم، مطلق العلم، والفريد والمجهول.
كان لميمات التوحيد أثراً عظيماً على الؤمنين الموحّدين، لدرجة أنّه لم يقنعهم فقط أنّ يهوه هو الإله الواحد والأوحد، بل ماحياً كل تاريخهم السابق ومعيداً صياغته من جديد، مقنعاً المؤمنين بأنّ الإسرائيليون كانوا دوماً موحّدين. ومع ذلك هناك بعض السمات الشركية-التعددية التي تبدو واضحة وجلية في العهد القديم حيث يناقش موضوع الآلهة الأخرى: ((الله يترأس ساحة قضاءه، وعلى القضاء يصدر حكماً... أنا قلت: "إنّكم آلهة، وجميعكم بنو العَلي. لكنكم ستموتون كالبشر، وتنتهي حياتكم مثل كل الرؤساء"))[المزامير: 82]
((فمن مثلك يارب بين كل الآلهة؟)) [خروج 15: 11]
((ويصنع الملك مايطيب له. ويتعظّم على كلّ إله، ويجدّف بالعظائم على إله الآلهة)) [دانيال 12: 36]
((لأنّك أنت العليّ فوق كل الأرض، والمتسامي جداً فوق كل الآلهة)) [مزامير: 97]
إنّ ميم التوحيد كان فعّالاً وقوياً لدرجة بات اليوم فيها أغلب اليهود والمسيحيين والمسلمين لايدركون حتى حقيقة أنّ الإسرائيليين القدماء منذ عهد إبراهيم وحتى عهد موسى كانوا مشركين/ اي يؤمنون بعدّة آلهة. لقد أقصى ميم التوحيد التاريخ الشركي-التعددي الصحيح وألغاه، ووضع مكانه تاريخاً يقول أنّ اليهود كانوا موحّدين منذ البداية.
ماذا يمكن لنظرية داروين أن تخبرنا إياه عن التوحيد؟ إحدى أهم نواتج الانتقاء الطبيعي و"البقاء للأصلح" هو أنّه إذا كان هناك نوعين يشغلان نفس الحيّز البيئي، أي إذا كان كلا النوعين يعيشان نفس الأسلوب بالضبط، فإنّ أحدهما سيسود بسرعة، والآخر سينقرض ويندثر. نوعان يعيشان في حالة توازن مثالية في نفس النظام البيئي تشبه حالة توازن مسمار واقف على رأسه: إنّه في حالة عدم استقرار أصلاً، وسيسقط المسمار في النهاية بالرغم من محاولاتك المثالية لموازنته.
في حالة الأنواع المتنافسة، إذا كان أحدها يمتلك أقل قدر من الأفضلية عن الأنواع الأخرى، (في الحياة الفعلية، هناك دائماً اختلافات) فإنّ القوى والعوامل القاسية لعملية الانتقاء الطبيعي تقوم بعملها بسرعة على الأنواع الأقل تكيّفاً.
في حالة الأرواحية البدائية، كل روح لها نظام بيئي محدد وخاص بها _روح الدب مسؤولة عن الدببة، روح الغيوم مسؤولة عن الطقس، والروحان لاتتنافسان فيما بينهما، إذ أنّ لكلّ واحدةٍ منهما مجال عملها وتخصّصها الخاص بها. كل واحدةٍ منهما تعيش ضمن مجال بيئي خاص بها ومنفصل عن المجال البيئي للأخرى. لكنّنا تعلّمنا مسبقاً كيف أنّ _مع مرور الوقت_ تعددية الأرواح قد تمّ اختصارها إلى عدّة آلهة، ثمّ إلى بضعةٍ منها. في نفس الوقت، هذه الآلهة أصبحت أكثر عمومية وشمولية، وهناك تكمن المشكلة بالتحديد: عند نقطةٍ ما، بدأت مجالاتها وعوالمها البيئية بالتداخل والاندماج، وبدأت بالتنافس فيما بينها على البقاء والاستمرار. وكما يحدث في الطبيعة، إذا كان هناك إلهين يخدمان نفس الغاية، فعلى الأرجح أنّ أحدهما سيسود، والآخر سينقرض ويندثر.
هناك تماثل كبير بين تطوّر يهوه وتطوّر الجنس البشري. لقد أصبح البشر عموميين، أي متعدّدي المهام والوظائف، وابتعدوا عن التخصّص: فنحن بإمكاننا العيش في أي مكانٍ على الأرض، وبإمكاننا تناول أي شيء تقريباً. لقد أصبحنا منافسين لأكبر حيوان على وجه الأرض، حتى أنّ بعض الأنواع قد وصلت إلى حافّة الانقراض، أو انقرضت فعلاً، لأنّنا نحن البشر قد تغذّينا على مصادرها واستولينا على مواردها الغذائية، كما أنّنا احتللنا بيئاتها الطبيعية أو قمنا بتدميرها.
وبنفس الشكل أصبح يهوه عموميا ومتعدّد المهام والوظائف: فقد اغتصب أدوار جميع الآلهة ووظائفها ونسبها لنفسه، ممّا أدّى إلى انقراضها جميعاً تقريباً في العالم الغربي. تتنبأ نظرية التطوّر الميميائية بنوع الأديان التي نجدها اليوم: لقد تمّ استبدال الآلهة العديدة قديماً بإلهٍ واحدٍ وعمومي، متعدّد الاختصاصات والمهام، وهو الوحيد الذي شغل واحتلّ كامل النظام الئبيب الديني.

كتاب فيروس الدين [6]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2015 / 1 / 23 - 01:53 )
الرجاء متابعة :
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ حقيقه ام خيال (مصدر الاديان) :
http://antishobhat.blogspot.com/2013/03/blog-post_14.html
+
و إن من امة الا و قد خلا فيها نذير حقيقه ام خيال :
http://antishobhat.blogspot.com/2012/09/blog-post_22.html

اخر الافلام

.. 180-Al-Baqarah


.. 183-Al-Baqarah




.. 184-Al-Baqarah


.. 186-Al-Baqarah




.. 190-Al-Baqarah