الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنفي والشيخ زفت

الشربيني عاشور

2005 / 9 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في بلدتي النائية بدلتا مصر نشأت على أسطورة ترددها جدتي وبعض النسوة من رفيقاتها عن الشيخ حسن ... فماذا عنه .. يقلن أنه من أولياء الله الصالحين وأنه إذا مس أحدا وكان هذا الأحد مريضا فانه يشفى !!

وقلن في حكاياتهن عنه أنه ضرب زلعة ( إناء من الفخار ) تحملها امرأة على رأسها فأوقعها على الأرض فخرجت من الزلعة حية تسعى وعددن هذه الحكاية من كراماته التي لا تنتهي .

ورأيت الشيخ حسن فإذا به معتوه أبله، ثيابه متسخة إلى حد القذارة ، يسير حافي القدمين ، يسيل لعابه من بين فكيه ويتبول على نفسه في الطريق العام .. أما صوته فهو كالرعد يسمعه العابرون في الطرق الموازي !! كما أنه يتحدث بصعوبة فإذا نطق كلمة بطيخة نطقها ( طيخة )

كنت في الصف الخامس الابتدائي وكان ذلك عام 1970 وكنت متأثرا بما أسمعه من كلام جدتي ورفيقاتها عن الشيخ حسن ولذلك أهملت مظهره القذر وعشت في اعتقاداتي عنه حسب ما سمعته من مرويات .

وذات يوم وكنت عائدا من الدرس رأيت الشيخ حسن يقف على يمين الطريق يريد أن ينزل من الطوار الأيمن وهو مرتفع قليلا إلى الإسفلت .. براءتي كطفل دفعتني إلى التوجه إليه لأخذ يده ومساعدته في النزول ، وكيف لا وهو الشيخ المبروك أو المبارك .. وما أن اقتربت منه ( وعينك ما تشوف إلا النور ) حتى وجدت ظاهر يده الأيمن يصفع أنفي صفعة أفقدتني الإحساس بالعالم ولم أدر بنفسي إلا وأنا أصرخ وأهرول إلى بيتنا مصروعا والدم يتدفق من أنفي شلالا !!

استقبلتني جدتي وأمي مفزوعتين ظنا منهما أن طفلا آخر ضربني وأسال دمي .. فلما عرفتا أنه الشيخ حسن ابتسمتا عن فرح وسعادة !! وقلن لي أن هذه الصفعة ما هي إلا بركة من الشيخ وقد حلت بي .. وعشت أياما أتألم من أنفي وما أصابه من تورم واحمرار . لكنني حذرت أن أقترب منه كلما صادفته في الطريق فقد قام بين حكايات جدتي وفرح أمي وبيني جدار من الألم الذي أشعره بأنفي !

ومرت الأيام والسنون وإذا بالبلدة يضج فيها الخبر بوفاة الشيخ زفت .. وسمعت الناس وهم يهرولون يتحدثون عن أنه يطير بنعشه ( الخشبة التي يوضع فيها الميت ) وأنه يأبى أن يذهب إلى المقابر رغم الحشود التي تحمله إلى مثواه الأخير !! فطرت أنا الآخر من مجلسي أمام بيتنا وعدوت وراءهم لأرى كيف يطير النعش بالميت .

كانت جموع غفيرة تهتف الله أكبر .. الله أكبر .. بينما النعش محمولا على أكتاف البعض يجرون به وسط هذه الجموع ويطوفون بشوارع البلدة .. وكلما اقتربوا به من مزلقان السكة الحديد ( بوابة تغلق عندما يمر القطار ) تمسمر النعش في مكانه أو تجمدت أرجل من يحملونه لأنه ( أي الشيخ حسن الميت !! ) لا يريد أن يعبر إلى المقابر الواقعة خلف المزلقان !! وهنا يرتفع صياح الجموع الله أكبر .. الله أكبر . ويعودون إلى الطواف به في شوارع البلدة .. كل ذلك وأنا أركض وراء الجموع طفلا مذهولا ممزقا بين كراهيتي للشيخ زفت وبين الأساطير التي تشبعت بها من حديث الجدة والأم وكثير من الناس .

وكانت هناك قطعة من الأرض الخلاء أمام منزل هذا الشيخ المعتوه .. كان النعش يلف شوارع البلدة ثم يعود إليها أو يجبر حامليه على العودة إليها .. وهنا تصايح الناس بأن الشيخ حسن أو الشيخ زفت اختار مرقده الأخير .. أي أن يدفن أمام بيته في هذه القطعة من الأرض الخلاء . وفعل الجهل فعلته .. أوفعل الخوف من المجهول فعلته .. فإذا بتصريح يُستصدر من البلدية بدفنه في هذه القطعة من الأرض وإذا البلدية تنزع ملكية الأرض وتجعلها حديقة ، وإذا مقبرة الشيخ حسن تتحول إلى قبة خضراء ومقام يأتيه الجهلاء والبسطاء من الناس من المدن المجاورة لزيارة الشيخ وإذا أخوه ( أخو الشيخ ) وكان موظفا محترما يترك الوظيفة ويطلق لحيته ويجلس أمام المقام أو بيتهم المقابل للمقام ليتلقى النذور وما تجود به أيادي البسطاء والجهلاء للشيخ عله في مقامه هذا يشفي مرضاهم أو يحبل نساءهم العاقرات أو يوسع عليهم في أرزاقهم إلى آخره من الأمنيات التي عزت عليهم بفعل الطبيعة أو السياسة أو الاقتصاد ..

ولما تقدم بي السن واتخذت طريقي نحو القراءة والتأمل والتساؤل كان الشيخ حسن أحد علامات استفهامي الكبيرة وتصادف أن جلست إلى رجل من الذين حملوه في نعشه فقال لي إن أخاه هو الذي جند حملة نعشه ليفعلوا بالنعش ما كان .. من طواف في شوارع البلدة وتوقفٍ عند المزلقان والعودة إلى الأرض الخلاء كي يدفن أمام البيت .. وفهمت القصة ولعلكم تفهمون الآن هذا السيناريو الذي أعده الأخ الذي ترك وظيفته وجلس يسترزق على حساب الأسطورة التي صنعها وصدقها الجهلاء والبسطاء ومازال كثير منهم يصدقونها .. حيث علمت أن الشيخ حسن يقام له مولد كبير كل عام يجتمع فيه الناس من مختلف القرى والبلدان فيقيمون الموائد وينشدون الأناشيد الدينية ويتذاكرون مناقب الشيخ وكراماته !!

وقد دفعني الفضول إلى حضور مولد من هذه الموالد بعد أن غادرت بلدتي ونقلت إقامتي إلى القاهرة وكم هالني ما رأيت من احتفال الناس واحتفائهم بالمقام وصاحبه ‘ وفي وسط هذه المعمعة وجدتني أتحسس أنفي وكتبي وقراءاتي .. وأتساءل عما يصنع الأسطورة الدينية وما يدفع الناس إلى تصديقها والانخراط في تمثلها قولا وفعلا .. ثم وجدتني أتساءل عن التنوير وجهود أصحابه والقائمين عليه وهل تنفع مقولاتهم وتنظيراتهم مع أناس من مثل هؤلاء الذين اخترعوا أسطورة الشيخ حسن وصدقوها وعملوا بها ؟ وماذا عن الأجيال التي لم تر الشيخ بثيابه القذرة ولعابه السائل من بين فكيه وتبوله على نفسه في الطريق ولكنها ستسمع فقط عن معجزاته وكراماته وأنه من أولياء الله الصالحين ..

لا أكتمكم السر .. إنني أشعر بالحزن وثقل المسئولية وعظم التضحيات التي يجب أن يقدمها المستنيرون ، والزمن الذي يجب أن يستغرقوه لانتشال هكذا قرى ومجتمعات من براثن الجهل والخرافة والتخلف لبناء مجتمعات تختار طريقها على هدى من العلم وبصيرة من نور العقل والإيمان بالتقدم والتحضر .. هل قلت شيئا غريبا ؟ إنني مازلت أتحسس أنفي !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah