الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملفٌّ أُغلقَ ويُعاد فتحُه

علا شيب الدين

2015 / 1 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1
في السادس عشر من أيلول الماضي، وضمن حملة لقاحٍ ضد مرض الحصبة تتمّ بالتعاون فيما بين منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" والحكومة السورية المؤقتة التابعة للـ"ائتلاف" التي مقرّها في مدينة غازي عنتاب التركيّة، و"فريق عمل مكافحة الحصبة" الذي ينشط في ريف محافظة إدلب شمال سوريا؛ لقيَ عشرات الأطفال في الريف الإدلبي، حتفَهم، وأُصيبَ أطفال آخرون، جرّاء تسمّمٍ ناجم، وفق منظمة الصحة العالمية، عن مزجِ مادة تُستخدم عادة كمُرخٍ عضلي في العمليات الجراحية، مع مسحوق اللقاح. إذ أشار المتحدث باسم المنظمة كريستيان ليندماير، في مؤتمر صحافي انعقد في جنيف يوم19أيلول2014، إلى احتمال وقوع خطأ بشري، معبِّراً عن ذلك: "في المنشأة (أي المركز الذي يقع ضمن مسؤولية مجموعة اسمها "فريق عمل مكافحة الحصبة") - ومن خلال ما نعرفه حتى الآن - تمّ فيما يبدو حفظ سائل تحليل مع عقار يُستخدم كباسط للعضلات في العمليات الجراحية في مبرِّد واحد. وباسط العضلات هو أتراكيوريوم. حيث تم مزجه في بعض الحالات مع مسحوق اللقاح بدلاً من مادة التحليل".
بتاريخ 20 تشرين الأول2014 نُشر في صفحة "فريق عمل مكافحة الحصبة" على "فايس بوك"، البيان الآتي: "بعد اجتماع أهالي الأطفال اللذين استشهدوا نتيجة الخطأ الذي حصل أثناء إعطاء لقاح الحصبة، مع أهالي المدانين في القضيّة، وبحضور محكّمين علماء أجلّاء ارتضاهم النّاس لحل مشكلتهم، تم إصدار قرار جماعي وبموافقة شخصيّة من ولي أمر كل طفل استُشهد، وصدر عنهم القرار التّالي:
إنّ ما حدث يعتبر من قبيل القتل الخطأ، خطأ بشري غير مقصود، لذلك يتوجّب تعويض الأهالي بمبلغ تمّ الاتفاق عليه بين الطرفين، وقرّر الأهالي إسقاط الدّعوى المقامة على الطّاقم المدان في المحكمتين اللتين أدّيتا دوراً يشكران عليه في حل مرضي لجميع الأطراف، واعتماد شهر كمهلة لتسديد الدّيات مترافقاً مع إسقاط الدّعوى. أهم ما في الأمر أنّ الطّرفين خرجا بود من هذه الجلسة الختامية. بدورنا فريق عمل مكافحة الحصبة نشكر كل من ساهم بدور كبير أو صغير وبصدق في الوصول إلى هذه النّتيجة الَّتي أرضت الجميع.
ونحن كفريق عمل مكافحة الحصبة نؤكد أن اللقاح آمن وسليم ويوفر الحماية ﻷ-;-طفالنا، وأن ما حصل حادث مؤلم كان خطأ بشري غير مقصود".

2
استناداً إلى ما جاء في البيان آنف الذكر، أُعلنَ عن غلق الملف بشكل نهائي. لكن، وانطلاقاً من الاعتقاد بصواب إعادة فتح كل ما يُغلق، خصوصاً ذاك الذي يغلق بشكل نهائي، متبنّياً أحكاماً قَطعيّة وثوقيّة وحتمية، أعني الصواب الذي يوازي صواب إعادة قراءة التاريخ والأحداث والوقائع باستمرار؛ أريدُ، في هذه السطور، إعادة فتح الملف نفسه، عبر مناقشته من منظور الأخلاق وفلسفتها. كون الواقعة المذكورة، وأي واقعة أخرى مشابِهة قد تحدث، من شأنها ربما أن تثير جدلاً يصعب معه القبول بغلق الملف، وبشكل نهائي، على نحو يهزأ بالعقل ربما ويستخفّ به. إذ غلق الملف على هذا النحو، يعني، في الآن عينه، غلقَ باب الأسئلة أيضاً، خصوصاً تلك التي من شأنها أن تقضّ يقين الـ"خطأ بشري غير مقصود" الذي ربما أُريدَ من خلاله تبرير ما قد لا يُبرَّر، وتبرئة مَن قد يكون قاصداً جانياً، "مسؤولاً" مباشراً أو غير مباشر، فرداً أو أفراداً في أي جهة من الجهات المذكورة، التي يتم التعاون أو التنسيق فيما بينها بخصوص حملة اللقاح ضد مرض الحصبة. ينبغي العلم هنا أن "التأكيد" الذي خُتِم به البيان المشار إليه، أي:" ونحن كفريق عمل مكافحة الحصبة نؤكد أن اللقاح آمن وسليم ويوفر الحماية ﻷ-;-طفالنا، وأن ما حصل حادث مؤلم كان خطأ بشري غير مقصود". ليس أكيداً بالضرورة، وأن العقل المشكّك الناقد لا يرتضي بغير الحُجة العقلية المنطقية، والدليل، والبرهان الذي يحترم حضوره في القضايا والإشكاليات كافة، خصوصاً أنه "تأكيد" يؤكد ويثبّت الاحتمال نفسه الذي تكلم عنه من قبلُ، المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، و"يتبنّاه" بحرْفيّته، وكأن هناك "تحالف" تكتيكي بين الأطراف المعنيّة في شأن الخروج بتصريحٍ موحَّد يردّ الواقعة إلى سبب واحد وتوصيف واحد من شأنه ربما "تبرئة" المعنيين بشكل مباشر أو غير مباشر، خصوصاً فيما يتعلق ربما بـ"سمعة" منظمات دولية حيال لقاح يُفترض أنه "آمن وسليم".
ليس غرضنا هنا إطلاق أحكام، ولا ندّعي عِلماً حيال واقعةٍ تتطلب تحقيقاً جدّياً ومحترماً، وتمحيصاً قانونياً وقضائياً، وتحتاج إلى تحرٍّ ليس في إمكاننا، في معمعة الحرب المستعرة، الوصول إلى "ميدانه"، خصوصاً نحن السوريون القابعون في جنوب البلاد، البعيدون - جغرافياً فحسب- عن مكان الواقعة وأهله. حسبنا إذاً أن نتساءل ونناقش ونفكّر. أن نمعن في التفكير في "المسؤولية"، باعتبار هذه ترتبط بالإلزام من جهة، وبالعقابيل المتصلة بالفعل المسؤول من جهة أخرى. باعتبارها أيضاً تمسّ ميدان الأخلاق بأسره، فالمسؤولية القانونية والقضائية أشبه بالوجه الخارجي من نشاط الشعور بالمسؤولية الأخلاقية. الأولى، مسؤولية خارجية. الثانية، مسؤولية داخلية. وهذه الأخيرة هي ما يعنينا هنا، فالمسؤولية الأخلاقية لا يحدّها حد، غرضها تقدُّم الفضيلة والإخلاص للقيمة، وفي حين توجِب المسؤولية القانونية على الفاعل أن يَمْثل أمام المحاكم التي تمثّل السلطة القضائية في الدولة، فإن المسؤولية الأخلاقية تحيل على "محكمة الوجدان" (التعبير للأستاذ الفيلسوف عادل العوّا).
ولمّا كانت المسؤولية هي أيضاً حصيلة مسعى ذاتيّ؛ فإن التسليم بـقتلٍ وقعَ من طريق الخطأ "خطأ بشري غير مقصود"؛ يصعب ويتعذّر عندئذ من دون التفكر في "الإهمال" مثلاً. الإهمال الطبّي هنا. إن الأطفال الذين توفّوا، كانوا سيبقون أحياء لو لم يكن ثمة إهمال. موت هؤلاء الأطفال حتماً ليس قضاء وقدراً، ولم ينجم عن كارثة طبيعية مثلاً (إن أحداً غير مسؤول أمام المُحال)، بل كان نتيجة تسمّم، وهذا نجم عن خلطِ مادة مخدِّرة بمسحوق اللقاح من طريق الخطأ "خطأ بشري غير مقصود" – هذا في حال القبول المبدئي والمؤقت، أو الموافقة المبدئية والمؤقتة على توصيف كهذا - لذا تفترض المسؤولية هنا أن ثمة فكراً إنسانياً سيطر على "الموضوع"، لا سبباً ينفي الأنا الفاعل. إن الإنسان الفرد مسؤول أخلاقياً عن أفكاره ونواياه وطويّة نفسه. المسؤولية الأخلاقية تجعل الإنسان الفرد ذاته بذاته مرغَماً على الفعل. ومَن يقوم بفعلٍ خيّر صالح ونبيل وهو على بيّنة ومعرفة بما يفعل؛ زادت قيمة فعله وصارت جديرة. الشعور بالإثم، إن انوجد لدى "المسؤولين" عن موت الأطفال، أو موقف الدفاع والمنافَحة، يتهافت ويسقط أمام مسؤولية "الحرص" على تحقيق هدف سامٍ مُحبّ وخيّر(تحصين الأطفال من مرض الحصبة باللقاح). مسؤولية الحرص التي كان ينبغي لها أن تصيب الهدف(حماية الأطفال من المرض ووقايتهم منه)، إذ ما من أحد يُقدِم على تحمّل مسؤولية معيّنة ابتغاء حمْلها، بل من أجل قيمةٍ تستهدفها. من أجل أن تقترن الأقوال بالأفعال.
3
نميل إلى الاعتقاد بأن الأخلاق، والمبادىء الأخلاقية، مطلقة، وكما أن كل اعتدال في شأن الجريمة يقوّض العدل في ذاته، كذلك فإن أي حديث عن نسْبيّة في شأن الأخلاق ومبادئها وقيمها يقوّض بنيانَها. الاعتقاد الذي نميل إليه، هو أصلاً اعتقاد تيّار "المثاليين" من الحدسيين والعقليين من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانط، إذ الماهية البشرية واحدة في كل زمان وكل مكان، والسلوك الأخلاقي تالياً، ليس ما هو كائن، بل ما ينبغي أن يكون، فهناك دوماً مثَل أعلى يميّز بين الخير والشر ينبغي التطلّع إليه.
إن تفسير واقعة موت الأطفال، "موضوع" المناقشة هنا، وتوصيف قتل هؤلاء بالقتل الخطأ "خطأ بشري غير مقصود"، يشير إلى خلوّ طويّة الفاعل أو الفاعلين من أيّ سوء، وإلى حُسن النوايا والأفكار، الأمر الذي قد يستدعي "النيّة الطيّبة" باعتبارها "الشيء" الوحيد الذي يمكن أن يُعَدّ خيراً على الإطلاق دون قيد أو شرط، في نظريّةٍ ذات قيمة أخلاقية وتشريعية كبيرة، يمكن الاستنارة بها هنا، من أحد الفلاسفة المُشار إليهم، أعني الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (1732-1804)، فعنده أنّ "النية الطيبة" أو "الإرادة الخيّرة" لا تستمدّ خيريّتها ممّا تصنعه أو تنتجه، بل من صميم نيّتها، وأن النيّة الطيبة أو الإرادة الخيّرة، لَتظلّ خيّرة، حتى لو عجزت "مادياً" بسلوك أو فعل خارجيّ ملموس، عن تحقيق مقاصدها، ما دامت قد بذلتْ قصارى جهدها. في العبارة الأخيرة هذه، التي تؤكد على "قصارى" الجهد الذي "يجب" أن تبذله الإرادة من أجل أن تتجلى النية الخيِّرة وتتجسّد في فعلٍ خيّر، والتي تعترض سبيل مَن يستسهل "النية الطيبة" ويستمرئها، مبرِّراً من خلالها "فعلاً" خارجياً شريراً وسيئاً، وأحياناً كارثياً؛ في العبارة تلك، ربما نلقى ردّاً مهمّاً على توصيفٍ من قبيل "خطأ بشري غير مقصود"، متسائلين مستفسرين وفي ذهننا مثلاً، جزئية "الإهمال الطبّي": هل بذلَ الفاعلون جميعاً، المدانون في قضيّة "قتلٍ بالخطأ"، طاولت عشرات الأطفال، قصارى جهدهم قبل التكلم عن "نوايا طيّبة" أشيرَ إليها مراراً في تعبيرِ"غير مقصود"؟. إن فعل "النيّة الطيّبة" أو "الإرادة الخيّرة" يتّسم بطابع إلزاميّ يحترم "القانون الأخلاقي" (الواجب)، وهذا ليس سوى أمر العقل، الذي يختلف عن "القانون الطبيعي" من حيث خضوع هذا الأخير لضرورة طبيعية تنفي الحرية. في القانون الأخلاقي، انتصار للإرادة على الطبيعة. هذا أيضاً مما يمكن الاستنارة به من كانط الذي أقام مذهبه في الأخلاق على مفهوم "الواجب غير المشروط"، ومما نعتقد أنه "يجب" أن يدخل في ضمير مَن يستسهل "النية الطيّبة" ويستمرئها.
4
جرت العادة أن يميز الباحثون بين نوعين من المسؤولية يقابلان نوعين من الجزاء. فهناك صنوف الجزاء الشرعي وصنوف الجزاء الأخلاقي. على سبيل المثال، ذهب عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم(1858-1917) ، إلى أن النوع الأول هو ما لا يُطبّق سوى بواسطة جهاز محدّد، في حين أن النوع الثاني، أي الجزاء الأخلاقي، يمكن أن ينهض به مَن شاءَ من الناس عامة. بل الفاعل الأخلاقي ذاته قد يُوقع الجزاء بنفسه على نفسه حين يحكم على أفعاله تبعاً لمسؤوليته، وهو ما يُسمّى بالجزاء الداخلي أو الذاتي. إنْ أمعنّا في الكلام الأخير هذا، محاولين مثلاً، قراءته في "ضوء" العبارة الآتية الواردة في البيان المذكور:"أهم ما في الأمر أنّ الطّرفين خرجا بود من هذه الجلسة الختامية"؛ لَربما استطعنا أن نستشفّ كم أن الشعور بالإثم في هذه العبارة باهت (كي لا نقول مؤسف وقاتل!)، وكم أن "الجزاء الداخلي أو الذاتي" حيال إهمال كارثي ربما وقعَ، يكاد يكون منعدِماً. الفاعلون هنا، يبدون كأنهم لا يقيمون لحيوات البشر وزناً، سعداء بانتهاء القضية على نحوٍ لم يطلهم بالسجن مثلاً، أو بأي عقوبة أخرى شاقة وصعبة ليست كـ"ترف" "التعويض" بالأموال عن "ذواتٍ" تلقّفتْها عتمة الموت، واكتفاء ذوي الأطفال بـ"تعويض" ماليّ(ديّة)، بالتزامن وإسقاط الدعاوى المقامة في حقّهم. لستُ أدري لماذا تحضرني الآن قصة "أوديب" الشهيرة، بما تحمله من دلالات وما تنطوي عليه من معانٍ أخلاقية، فعندما فهمَ أوديب أنه كان المسؤول عن المصائب التي نزلت بأبناء رعيّته، ونكّدت عيشهم بالأمراض، فضلاً عن مسؤوليته عمّا آل إليه مصيرا أمّه وأبيه؛ فقأ عينيه بالدبابيس، ثم غادر "الثيب" من غير رجعة.
ترى هل فعلاً أهمّ ما في الأمر كان تطييب الخواطر، والتربيت على الأكتاف، وانتهاء الجلسة الختامية بتوادّ؟! هل للشخص الإنسانيّ أو الفرد، ثمن أو سعر يمكن أن "يعوِّض" عنه وينوب؟! أوليست الذات الإنسانية قيمة عليا وغاية في ذاتها؟!. لا نزايد هنا على قلوبٍ مترعة بالأسى، على أهالي الضحايا من الأطفال، الذين رضوا بـ"الديّات" وأسقطوا دعاويهم. لا نزايد عليهم لا بالحُب ولا بالحزن ولا بجلّ المشاعر النبيلة الصادقة حيال فلذات أكبادهم(وأكبادنا). كل ما هنالك هو أننا نتساءل ونناقش ونفكر. نمعن في التفكير في "المسؤولية". تحديداً المسؤولية الأخلاقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض