الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وطن أم سفينة ؟! ( عن الشهيدة شيماء الصباغ )

أيمن إبراهيم العشماوى

2015 / 1 / 30
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


فى قصيدته الرائعة " أحبك .. حتى ترتفع السماء قليلا " يقول الشاعر الكبير نزار قبانى :
أريد أن تكونى حبيبتى
حتى تنتصر القصيدة...
على المسدس الكاتم للصوت..
وينتصر التلاميذ
على الغازات المسيلة للدموع
وتنتصر الوردة..
على هراوة رجل البوليس
وتنتصر المكتبات..
على مصانع الأسلحة...
ويقول أيضا فى قصيدته " متى يعلنون وفاة العرب " :
أحاول رسم بلاد
لها برلمان من الياسمين
وشعب رقيق من الياسمين
تنام حمائمها فوق رأسى
وتبكى مآذنها فى عيونى
....
أحاول رسم بلاد
تكافئنى إن كتبت قصيدة شعر
وتصفح عنى إذا فاض نهر جنونى
....
سريرى بها ثابت
ورأسى بها ثابت
لكى أعرف الفرق بين البلاد وبين السفن
ولكنهم أخذوا علبة الرسم منى
ولم يسمحوا لى بتصوير وجه الوطن

كانت شيماء الصباغ تعتقد - وهى تحمل الورود فى ذكرى ثورة يناير وقبل أن تستقر الرصاصات الغادرة فى جسدها – أنها تعيش فى وطن يمكن أن يكافئها لو كتبت قصيدة شعر ، ويسامحها لو أحبته بجنون ، كانت تحلم باليوم الذى ترى فيه الوطن فى عيون كل المواطنين : الطفل ، والكهل ، والشاب ، والعامل ، والفلاح ، والصنايعى ، والأجير .. كانت تعتقد أنها شريكة فى هذا الوطن الذى يجرى فى شرايينها وفى ماء عيونها ، كانت تؤمن بأنه الحضن الذى يضمها ويحتويها ، واليد التى تطعمها وتمسح رأسها ، والأمل الذى يراودها ، والضمير الذى يحاسبها ، والإيمان الذى يحميها ، والأم التى تحنو عليها ، والطريق الذى تمشيه ، والتراب الذى تعود إليه .
كانت تريد أن تنتصر الوردة على هراوة رجل البوليس . كانت تطير فى السماء وتحلق بخيالها عاليا لترسم عالما أفضل بالأغانى والكلمات والورود ، فإذا بها تصحو فجأة على صوت الرصاصات الغادرة التى استقرت فى جسدها الطاهر عقابا لها وإنذارا لكل من تسول له نفسه بعد ذلك أن يحلم بالحرية من أجل هذا الوطن . كانت هذه البريئة تظن أنها تعيش فى وطن فإذا بها تكتشف - وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة - أنها كانت على ظهر سفينة .
إن من سرقوا أوطانهم وقدموا لشعوبهم السموم والمسرطنات ودمروا الاقتصاد وأفسدوا الحياة الثقافية والسياسية كان مصيرهم فى النهاية هو البراءة ، أما من قدموا لأوطانهم الزهور والأغانى فكان مصيرهم القتل دون شفقة أو رحمة .

صدقت يا نزار .. هناك فرق كبير بين الأوطان وبين السفن . فالوطن يعيش فيه الإنسان على أرض ثابتة لا تتحرك ، أما السفينة فتسير على سطح الماء حيث تدفعها الأمواج يمينا ويسارا . والوطن يرتبط أبناؤه بروابط عديدة وتجمعهم وحدة الهدف والمصير ، لأنهم يشتركون جميعا فى ملكية هذا الوطن وتحمل مسئولياته . أما ركاب السفينة فلا تجمعهم أية صلة ، بل إن لكل منهم غايته الخاصة ، ولهذا فإنه بمجرد انتهاء الرحلة يذهب كل منهم إلى طريقه ، وتنقطع صلته تماما بالسفينة ، فالسفينة ليست ملكا للراكب وبالتالى فهو غير مسئول عنها .
وعندما تغرق السفينة سيفكر كل راكب فى النجاة بنفسه ، أما عندما يغرق الوطن فلن ينجو أحد ، وسيسقط الجميع فى نفس اللحظة التى سقط فيها الوطن فى أسوأ مشهد وأبشع نهاية يمكن أن تراها العين . وإذا غرقت السفينة ونجا بعض ركابها فإنه يمكن لمن نجا أن يجد له سفينة أخرى يكمل بها رحلته . أما إذا غرق الوطن فإنك لن تستطيع أن تجد لك وطنا آخر يحل محله ، ذلك أن الوطن ليس له بديل . فالأوطان لا تباع ولا تستبدل ولا تعرض فى الأسواق .
وباختصار فإن الوطن غاية فى حد ذاته ، أما السفينة فهى مجرد وسيلة ، ولهذا السبب فإن المواطن من حقه أن يعرف مصير وطنه . أما راكب السفينة فإنه لا يعرف مصير سفينته ، ولا يعرف إلى أين سينتهى به المطاف ، فالسفينة قد تصل إلى غايتها وقد تغرق فى قاع المحيط . السفن قد تغرق إذن ، أما الأوطان فلا ينبغى أن تغرق أبدا . الأوطان يجب أن تعيش وترتفع قاماتها إلى السماء .
ولأن الوطن يجب ألا يغرق أبدا .. ولأنه ليس سلعة تباع وتشترى .. فإنه يجب ألا نتعامل معه على أنه سفينة تسبح فوق الماء لعدة ساعات حتى تنتهى رحلتها ، كما لا ينبغى التعامل مع المواطنين على أنهم مسافرين أو ركاب ، وإنما ينبغى التعامل معهم بحرص وحب وشفافية لأنهم شركاء فى هذا الوطن . الوطن ملك لجميع أبنائه ، فهو ليس ميراثا لأحد بعينه ، ولكنه ميراثنا جميعا ، قدرنا الجميل الذى ارتضيناه ، وطريقنا الوحيد الذى عشقناه . يجب أن يشعر كل مواطن بأنه صاحب ملك وشريك فى كل ذرة من تراب هذا الوطن ، وليس مجرد مسافر أو عابر سبيل .
الوطن يجب أن يحتضن أبناءه ، والمواطن لا يجب أن يخاف من وطنه . فالوطن هو المرآه التى نرى أنفسنا فيها والتى يرانا فيها الآخرون . ولهذا فإن الوطن يجب أن يبصر ليرى أبناءه . الوطن يجب أن يسمع ليستمع إلى أبنائه . الوطن يجب أن يتكلم .. نعم .. ولماذا يصمت .. وطنى .. تكلم ياوطنى .. تكلم .. أتذكرنى ؟ أنظر إلىَ جيدا .. ودقق فى ملامحى .. لست عابر سبيل .. لست لاجئا .. ولا غريبا .. ولا عميلا لأحد .. ولكننى إبنك .. ومسئول عنك .. أمام نفسى .. وأمام الآخرين .. وأمام الله .. فنصرك نصرى .. وعارك عارى .. ألا تذكرنى ؟ أنظر إلى لون الطمى وأنت تعرفنى ! أنا ابن الفلاحين .. حفيد عرابى .. ولى فى هذا التراب كما للآخرين .
تكلم يا وطنى .. تكلم .. حتى يصمت الجميع .. لم يعد أمامى إلا أنت فتكلم .. أنظر فى عيوننا جميعا وقل .. من هم أبناءك ومن هم أعداءك .. من هم أصحاب الدار ومن هم الغرباء .. من يريد البناء ومن يريد الفناء .. من هم الصادقون ومن هم المنافقون .. من هو المواطن ومن هو المسافر فيك يا وطنى ؟ .. لم يعد أمامى إلا أنت فتكلم .. تكلم .. تكلم .. تكلمى يا مصر فإنى خائف ومذعور مما أرى .. أتمنى أن تضمينى إلى صدرك الحنون .. ضمينى يا بلادى .. ضمى هواىَ وجنونى وأحلامى ولو مرة واحدة .. فلن أشعر بعدها بالخوف أبدا .. واروينى من نهر حبك ولو مرة واحدة .. فلن أشعر بعدها بالظمأ أبدا .. ضمينى يا بلادى واروينى .. لا تتركينى وحيدا ضعيفا مستباحا مسلوب الفكر والإرادة .. ها أنا أنادى عليكى بأعلى صوتى .. أصرخ .. وأستغيث .. لا أريد أن أرى دموعك فإنها تقتلنى .. حتى ولو كانت هذه الدموع من أجلى .. لا أريد أن أرى إلا ابتسامتك الحرة .. وأنا أرقص تحت سمائك وشمسك وعلى ضفاف نهرك وفوق ترابك رقصة الحرية ولو مرة واحدة وأموت بعدها فإنها تكفينى .. وعندئذ فقط سيعرف نزار العظيم – وسنعرف معه جميعا – الفرق بين البلاد وبين السفن .
وداعا شيماء الصباغ .. ربما يكون التراب الذى عدتى إليه أحن عليكى من هذا الوطن ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi


.. لماذا طالب حزب العمال البريطاني الحكومة بوقف بيع الأسلحة لإس




.. ما خيارات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة عمليات الفصائل الف


.. رقعة | كالينينغراد.. تخضع للسيادة الروسية لكنها لا ترتبط جغر




.. Algerian Liberation - To Your Left: Palestine | تحرر الجزائر