الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس: نصيب الجمعيات من حصة تخريب البلاد

محمد الحمّار

2015 / 2 / 1
المجتمع المدني


منذ اندلاع الثورة - أو ما شابهها- في تونس، ما فتئت العديد من الجهات تتحدث عن المال الفاسد. وسواء كان المعنيّ بضخّ مقادير مالية مشبوهة المصدر في ميزانيته حزبا سياسيا بعينه أو معظمَ الأحزاب، أم كانت جمعيةً غير حكومية دون أخرى أو جُلَّ الجمعيات، فإن مجرد حصول حزب أو جمعية على مال فاسد يخلق حالة من اللاتكافؤ بين الهيكل المتمتع به والهيكل غير المتمتع به، ناهيك تأثير ذلك على العلاقات، وعلى مفهوم النضال المدني والاجتماعي السلمي. فهي إذن ممارسة تستبطن الغش والتحيّل، لا فقط بين تنظيم وآخر، وإنما أيضا وعلى الأخص إزاء المجتمع بأسره.

إنّ لجوء جمعية غير حكومية أو حزب سياسي إلى المال الفاسد يتمثل في قبولهما إيداعات مالية مشبوهة. وتتمثل الشبهة في كون المال الوارد عادة ما يكون ممنوحا من طرف جهة أجنبية متنفذة وطامعة وذات مصالح هي بانتظار المساندة الفورية، أو من طرف جهةٍ محلية صاحبةِ نوايا سافلة تريد من مثل هذه التنظيمات أن تخدم مصالحها على حساب خصومها. وما من شكّ في أنّ الأذى الذي سيلحق بخصوم الجهة المانحة، الذين سيرُوحُون في الآن ذاته ضحية الجمعية/الحزب الموظف للمال الفاسد، لا يتجسّد حتما في خسارة مالية لكنه عادة ما يتجلى في غلبة معنوية - سياسية - للجهة المانحة. و يتجلى الأذى في تداعيات خفية ذات طابع غير مالي، كما سنرى.

هذا مما يعني أنه لن يكون من السهل على أيٍّ كان، في مرحلة متأخرة وموالية للتدفق المالي نحو خزينة الجمعية/الحزب، أن يتفطن لكون المال هو مصدر هذه التداعيات الخفية أو أن يتقصّى الأمر أو أن يبرهن على أنّ الإمداد المالي إنما هو من قبيل الغش والتحيّل أو أن يقيم الدليل عليه و على المتحيّل.

تلك هي إجمالا بعض الآثار - المعقّدة - الناجمة عن ظاهرة المال الفاسد. لكن ماذا إذا اقترن المال الفاسد بأفعال التفكير واتخاذ المواقف والاختيار؟ هل ينجرّ عن هذا الاقتران عقل فاسد ورأي واهن وممارسات فاسدة؟ قبل الإجابة يمكن أن نعرّف - افتراضا- العقل الفاسد. إنه العقل الذي أصبح قادرا على ضمان استدامة أثر المال الفاسد في الفكر والممارسة. وكنتيجة لذلك فإنّ المال القذر بما أنه سانح لشراء الذمم وإرشاء العباد فإنه يوَلّد مواقف - فكرية وسياسية- خاطئة لدى الطرف المشتَرَى والمرتشي. وهي مواقف عادة ما تتشكّل دون أن يكون أصحابها واعين بالشبهات المتعلقة بالأجندة الخفية للجمعية/الحزب.

ليست كل الجمعيات ولا كل الأحزاب فاسدة. لكن إن صادف أن كنتَ عضوا بجمعية فهنالك احتمال كبير بأن تكون هذه الأخيرة من الصنف الدنيئ. فأيّا كان تخصصك المهني أو صفتك أو توجّهك، سواء كنتَ هاويا في مجال السياسة أو مناضلا حقوقيا أو باحثا في سبل التقدم أو كاتبا أو محاميا أو مدرّسا أو طالبا، فأنت من سينفّذ الأجندة الخفية. ولن تنجو من الاحتواء إلا في حال أنك ستتفطن لوجودها. ولن تتفطن لها إلا بعد أن تمرّ بمراحل عديدة من بينها ما يلي:

قد تكون منضَمّا إلى جمعية بنيّة تدريب الناشئة على تربية الحس السياسي النبيل لديهم وذلك عبر طرائق تعليمية مثل تلك التي تعتمد الحوار و المناظرة ومقاربة المشروع وتكنولوجيات الاتصال، إلا أنك ستصطدم بعزيمة فولاذية متعاكسة مع عزيمتك، تريد منك أن تضع مهاراتك التربوية في خدمة الدعاية لماركة معيّنة من أجهزة الوسائط المتعددة، بل وربما أن تسخّر معرفتك وتملكاتك المهنية للتعريف بأيقونة من أيقونات تكنولوجيا الاتصال.

قد تكون منخرطا بجمعية ثقافية وتربوية وفكرية وسياسية من أجل الإسهام في إيجاد الآليات الفكرية والسياسية الكفيلة بإخراج البلاد من وضع قد طال عمره، لكن إرادتك سترتطم بإرادة مضروبة بسكة الدراهم القذرة، تنوي "تطهيرك" و"تخليتك"من استقلاليتك الفكرية والسياسية ومن ثمة تزويدك و "تحليتك" بكامل المكوّنات الضرورية التي من شأنها أن تتغلغل فيك حتى تستنسخ منك طبعة مثالية لما ينبغي أن يكون عليه الأتباع المتحمسون لحزب سياسي معيّن، ولمرشّحٍ معيّن للانتخابات الرئاسية (حاشى أن تكون الصوفية _ التي أقتبس عباراتها هنا- قد حثت على مثل هذه الممارسات المتسمة بالجهالة).

إياك ثم إياك أن ترفض القيام بمهام تتنزّل في خانة الاستنساخ تلك، وإلا فسوف تتم إقالتك -مثلا- من مهمة تدوين مداخلات الأعضاء "الفاعلين" أي المنجزين للأجندة الخفية والمحترمين لبنودها السامة والماضين قُدُما على طريق التقارب المسَطّر بين هذا الشقّ السياسي أو ذاك دون سواهما، أو تباعا من بين السائرين على طريق الابتعاد عن هذا الطيف أو ذاك دون سواهما. وإلا فسوف لن تُدعَى قطُّ للندوات التي تقيمها الجمعية ولو أنك مازلتَ عضوا بها ومستخلصا للمعلوم المالي بعنوان الانضام إليها. وإلا فسوف لن يتمّ إشعارك أبدا بالفعاليات الثقافية المزمع إقامتها مستقبلا. فالجمعية هي المستقبل. أمّا أنت فمن تبعات مستقبل حُكِمَ عليك أن لا تسهم في نحته. تلك هي، وا أسفاه، إيديولوجيا التقدم عند العديد من الجمعيات التونسية.

ثم إياك أن تبدي وقيّة واحدة من استقلالية الفكر والموقف والاختيار. اطمئنّ، سوف لن تُجمَّد عضويتُك... وإنما سوف تكون مُكرها على تجميدها بنفسك ولنفسك. هكذا سوف يكون تجميدا بلا عتاب ولا لوم ولا ذمّ ولا شتم، وبلا كلام ولا سلام ولا وداع، بلا عين ترى ولا أذن تصغي.

هكذا لن يصغي إليك أحدٌ من الجمعية كلما كنت بحاجة إلى تعليل احتجاجك على ممارساتٍ خِلناها قد انقرضت بانقراض نظام بن علي المستبدّ. لن تصغى إليك الجمعية لأنها ليست شخصا ماديا. ومن ليس شخصا ماديا فإنه لا يصغي. لن يُصغَى إليك طالما أنّ البراديغم الذي جعلك تقصي نفسك بنفسك فتلغي رغبتك في التفتيش عن مُصغٍ هو بذاته الذي أُوكِلت له مهمة إقصاء كل مبررات الإصغاء والرغبة في الإصغاء لدى الجهاز الجمعياتي الأصلف والمؤذي.

أخلص إلى القول إنّ من لم يعِ أنّ العمل الجمعياتي إنما هو حقّ مدني متعالٍ على الأحزاب والشخصيات والهياكل السياسية المختلفة، من لم يعلم أنّ تنظير جمعية معيّنة مع حزب سياسي دون سواه من حيث الأهداف والمواقف ، أو اصطفاف الجمعية إلى جانب مشروع تابع لشخصية سياسية دون سواها فهو غير مؤهّل لصياغة المستقبل. من يعيش بفضل حقده الدفين على روح مؤسس الدولة التونسية العصرية، فهو غير مستطيع للتحلي بالروح النقدية من بين صفات جميلة أخرى من المفترض أن تتوفر لدى نشطاء الجمعيات. إنه كتلميذ الابتدائية، يستوجب التأديب الأخلاقي والتقويم التربوي والتكوين المعرفي والتدريب المنهجي.

بالنهاية، إذا التقى المال الفاسد مع الولاء الحزبي الدوغمائي ومع المحسوبية ومع القلوب الغُلف تكون الحصيلة عقلا فاسدا، لا يسمع ولا يبصر ولا يميّز ولا يدرك ولا يعي، ناهيك أن يصون العلاقات الإنسانية في صلب المجتمع الواحد أو أن يقرر أو يرشد أو يدلّ بشأن متطلبات تونس المستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إخلاء مركز للمهاجرين في تونس ومظاهرة لترحيلهم ورفض توطينهم


.. الأمم المتحدة: دارفور معرضة لخطر المجاعة والموت




.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بإبرام صفقة تبادل فورية


.. طلاب نيويورك يواصلون تحدي السلطات ويتظاهرون رفضا لحرب غزة




.. نقاش | اليمن يصعد عملياته للمرحلة الرابعة إسناداً لغزة ... و