الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنهم يقتلون الشارلي !

نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)

2015 / 2 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ترى هل يستحق ما حصل في مكاتب شارلي إبدو الباريسية كل هذا الضجيج والنواح والنحيب؟ لقد سالت أنهارٌ من الحبر على صفحات جرائد العالم بأسره، تصف وتوضح وتناقش هذا الحدث الذي ذهب البعض فشبهه بإسقاط برجي التجارة في نيويورك - أمريكا ... فهل هو جدير ٌ بذلك حقاً؟ وماذا عن الراديوهات ومحطات التلفزة التي خصصت له عشرات... بل مئات... بل آلاف ساعات البث للفحص والتحليل والاستقصاء؟ حقاً... هل يستحق الأمر كل هذا ؟
حفنة ٌ من الصحفيين الفرنسيين الرسامين الساخرين "الوقحين" و"المستهترين" و"الملحدين" ماتت رميا ً بالرصاص على يد مُتطرفـَين أخرقين في باريس... في الوقت الذي يموت فيه كل يوم عشرات بل مئات الناس الأبرياء حتى نقيِّ عظامهم وأكثر تحت قصف الطائرات والمدافع والسيارات المفخخة في شوارع سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وفلسطين. فهل يستحق الأمر كل هذا الضجيج؟ هل دماء هؤلاء زرقاء ملكية ودماء أولئك خضراء عفنة؟
للجواب على هذا السؤال أعتقد أنه لا بد من توضيح من هم هؤلاء الناس الذين سقطوا تحت طلقات الأخوين كواشي، وما هي أهميتهم بالنسبة للمجتمع الفرنسي والعالم الغربي عموماً؟ وربما كان من الأفضل أن أطرح السؤال على النحو التالي: من هو هذا الشارلي الذي تم اغتياله في باريس؟ من هذا الشارلي العجيب الذي أدى اغتياله لأن تخرج فرنسا كلها إلى الشوارع تتظاهر وتندد وتشجب في حالة إجماع ٍ وطني ٍ مهيب ٍ لم تشهده البلاد ربما منذ المظاهرات التي تلت الاستقلال؟
شارلي الذي قـُـتل هو هذا... هو إبن فرنسا الأثير الذي حملت به ووضعته صغيرا ً ضعيفا ً في يوم ما من عام 1789 في القرن الثامن عشر... ثم عملت على تربيته وتعليمه وتهذيبه وتقويمه عبر عشرات بل مئات السنين. إنه عصارة فكر وتعب وخبرة وإرادة العديد من الأجيال الفرنسية التي قررت جماعيا ً أن تطرد الملكَ والمـَلـَكية َ وأن ترفع شعار الحرية والمساواة والإخاء... وأن تضعه فوق كل شعار آخر. شـارلي هذا هو إبن القرار التاريخي الذي قررت فرنسا بأسرها من خلاله ترك الحالة الطبيعية "البدائية" القائمة على الملكية الفردية المتوحشة وتطبيق مفهوم الدولة المدنية المحايدة القائمة على العقد الاجتماعي الذي يحدد ما للحاكم وما للمحكوم من حقوق وواجبات بناء على مبدأ المساواة والمواطنة والعدالة الاجتماعية ... وذلك تفاديا ً لحرب الجميع ضد الجميع وقتل الجميع للجميع وكراهية الجميع للجميع. شارلي هذا هو تجسيدٌ بشري فيزيائي لقرار المجتمع الفرنسي في العام 1905 المتعلق بطرد رجال الكهنوت المسيحي الكاثوليكي المتزمتين والمتسلطين، مـُلاك الحقيقة المطلقة ومطلقي الفتاوى القاتلة، من الحياة العامة السياسية وحصر نشاطهم في الكنائس. شارلي هو تلخيص لتصميم وإصرار المواطن الفرنسي على حريته في أن يقول ما يريد ويفعل ما يريد تحت سقف اللاعنف والالتزام بالقانون العام وخيارات المجتمع المتخذة بالإجماع عبر الهيئات التمثيلية الدستورية. لقد سمح المجتمع الفرنسي لشارلي ... لا بل لقد طالب المجتمع ُ الفرنسيُ شارلي أن يعبر عن نفسه في السينما والصحافة والرواية والرسم والنحت والفن الساخر والمسرح وكل أنواع الفنون والأدب الأخرى دون أي قيد أو شرط ... سوى شرط احترام القانون وعدم التحريض على الكراهية والعنف. شارلي هذا عمل في أروقة شارلي إبدو الباريسية ... وسخر من ممثلي السلطات السياسية والدينية والقانونية الفرنسية دون أن يتهمه أحد بالمساس بهيبة الدولة أو الرغبة بتقويض أسس الدين المسيحي الكاثوليكي. شارلي هذا تعامل مع المواطن الفرنسي المسلم كما يتعامل مع المواطن الفرنسي المسيحي أو اليهودي لأنه يرفض أن يكون المواطن الفرنسي المسلم مختلفا ً عن غيره من المواطنين الفرنسيين أمام نفسه وأمام المجتمع. يرفض أن يعامـِل المواطن الفرنسي المسلم كمواطن ناقص الأهلية والعقل ميالٍ للعنف بطبعه، سريع الحنق والغضب والانفعال. شارلي لم يوفر أحدا ً إلا وطاله بسهامه ونقده اللاذع الهادف لإيصال الفكرة بطريقة مباشرة فعالة، قد تكون أقوى من الكلمة بعشرات المرات. شارلي هذا الذي قـُـتل... يعيش في صميم كل مواطن فرنسي سالما ً منعما ً وغانما ً مكرماً! لكل ماورد أعلاه... قامت فرنسا بما قامت به وانتفضت عن بكرة أبيها احتجاجا ً على قتل شارلي.
لا أحد يدعي، في فرنسا وغير فرنسا، أن شارلي هذا كامل الأوصاف أو أنه خالً من العيوب. فهو محروم، مثلاً، من حقه في انتقاد كل ما يتعلق بالمحرقة النازية وأعداد ضحاياها من خلال قانونٍ ظالم ٍ خاص ٍ بذلك يمنعه من التعبير عن نفسه في هذا الشأن. كما أنه... وبصفته ناقداً لاذعاً... يتعرض للعديد من الضغوط السياسية، والدعاوى القانونية التي تطالب بإسكاته والنيل منه. وربما كان من المفيد أن أقول هنا إن عدد الاحتجاجات والدعاوى القانونية المرفوعة الأكبر والأهم، المطالبة برأس شارلي، كان وما زال يأتي من قبل الكنيسة وممثليها في المجتمع الفرنسي. لكن، وللحق والحقيقة، لم يتجرأ أحد على قتل شارلي الفرنسي رميا ً بالرصاص إلا الأخوين كواشي و الفكر الذي يمثلانه.
لقد نجح المجتمع الفرنسي بتقديس وحماية هذا الشارلي المعارض المشاغب الوقح الداعي لتنبيه الرأي العام لما يراه خطرا ً وخطأً... من خلال الرسم الساخر والكلمة الحرة التي لا تعرف لنفسها حدوداً. وقد عرفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية نماذج عديدة من هذا الشارلي... الذي كان وما زال يحاول من خلال الكلمة المكتوبة أو المقروءة أو المرسومة أن يسلط الضوء وبجرأة وشجاعة على قضايا عصره بهدف التنبيه والتغيير والتطوير. ألم يكن نموذجاً أوّل، أو نوعاً من أنواع الشارلي، كل من الحطيئة وأبي نُواس وابن المقفع الذي ترجم حكمة الحياة وغائيتها ووضعها على ألسنة الحيوانات وسخر من ظلم وفساد وزندقة حكام عصره؟ أليس شارلي هذا المعنى من سلالة المعرّيّ العظيم في كل ما كتبه، وخاصة في "رسالة الغفران"، من سلالة كثيرين بعده وصولاً إلى طه حسين صاحب كتاب "في الأدب الجاهلي" الذي حوكم عليه سنة 1927 حين حاول إنصاف المجتمع العربي قبل الإسلام ورفع صفة الجاهلية عنه خلافا ً للتيار الرائج؟ ألم يكن فرج فودة شارلي؟ ألم يكن الشيخ الأزهري علي عبد الرازق... شارلي عندما كتب كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وحوكم عليه عام 1925؟ ألم يكن نصر حامد أبو زيد شارلي؟ ألم يكن نجيب محفوظ شارلي؟ ألم يكن ناجي العلي شارلي؟ أو ليس علي فرزات شارلي؟ أو ليس أدونيس شارلي؟ أو ليس رائف بدوي شارلي؟ أو ليس زياد الرحباني شارلي؟ أو ليس سيد محمود القمني شارلي؟ أو ليس أحمد مطر شارلي؟
الفارق الجوهري بيننا وبين المجتمع الفرنسي والغربي عموماً... هو أنهم يحمون الشارلي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ً... ونحن نقتله معنويا ً وجسديا ً ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً! نجح المجتمع الفرنسي في أن يجعل من كل فرنسي شارلي ... لا يتوانى عن النقد "المهذب" و"غير المهذب" لكل ما يراه منافيا ً لقيمه وحريته وحقوقه وكرامته. بينما نجحنا نحن بجعل كل عرب ... قاتلا ً لشارلي بشكل أو بآخر! وهل لي أن أذكر هنا مثلا ً نهاية ابن المقفع الذي قطعت أعضاؤه وشويت على النار أمام عينيه قبل أن يموت من شدة العذاب والألم. ثم هل لنا أن ننسى مصرع فرج فودة المأساوي جراء تجرؤه على البحث عن "الحقيقة الغائبة"؟ أو طعنة الغدر التي أصابت الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ جراء تجرؤه على مناقشة حياة ومعتقدات سلالة " أولاد حارتنا"؟ كم من المئات أو الألاف من الشارلي قتلت الأنظمةُ السياسية العربية الفاسدة؟ كم من المئات أو الألاف من الشارلي قتلت تفاسيرُنا الفاسدة والمتخلفة لمعتقداتنا الدينية؟ لقد استطاع الغول العربي السياسي والديني، على حد سواء، أن يقتل كل الشارلي وكل محاولات "التشرلن" في مجتمعاتنا، ما أدى بنا إلى المستنقع الآسـن المسموم الذي فيه نعيش اليوم.
هل نستغرب بعد كل ذلك ظهور داعش والنصرة بين ظهرانينا؟ هل نستغرب ظهور التطرف الفكري السياسي والديني في بلداننا ؟ وهل أبالغ إن قلت إننا بحاجة شديدة اليوم ... وأكثر من أي وقت مضى للسماح لشارلي أن يعيش بيننا... سالما ً منعما ً وغانما ً مكرما ً... مهما كان رأيه مزعجا ً ومخالفا ً لمعتقداتنا وما ألفنا العيش عليه ومعه. هل من الغريب أن أقول إن الآلاف التي تموت اليوم تحت قصف الطائرات والمدافع والسيارات المفخخة في شوارع سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وفلسطين إنما تموت أولا ً وقبل كل شيء نظرا ً لانعدام الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية... حرية المواطن وكرامته! هل من الصعب أن نفهم أن المجتمعات القوية إنما تستمد قوتها من قوة أفرادها وضمان حرياتهم وكراماتهم وتقوية انتمائهم.
ختاماً... إنهم يقتلون الشارلي... فهل مات شارلي؟ شارلي هذا لم يمت... بل شُبِّه لهم ... شارلي هذا لن يموت أبداً ... لا بل سيظهر عشرات الآلاف من شارلي في كل مكان... يحركون الراكد ويبشرون بمستقبل بـ "مدينة فاضلة للناس... كل الناس: هنا والآن على هذه الأرض، بغضِّ النظر عن الدين أو العرق أو اللون. المقدس الوحيد هو حرية الإنسان وكرامته. وليس في هذا الكلام أي شيء من الإلحاد... فالله، عز وجلَ عمّا يصفون ويفعلون من همجية وعدوان، هو أكبر وأنقى تجسيد لفكرة حرية وكرامة الإنسان... أليس: عاش الإنسان، وليحجبِ النور الهمجية َ والظلام!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال
محمد البدري ( 2015 / 2 / 5 - 02:06 )
وإذا كان الله صحيحا بهذا الوصف الذي سردته في نهاية مقالك فلماذا يصمت علي من قال فيهم يوما خير امة اخرجت للناس بينما كان لديه حالة اسهال في الرسائل والكتب فقط للبرابرة العرب في يثرب ولم تؤدي الا لقتل شارلي الشرق كالحلاج وابن المقفع والسهروردي وفرج فودة؟ الم يكن من الفضل له ولنا ان يرسل شارلي واحد وكفي بدلا من جوقة الافاقين والكذابون والدجالين ليقتلوا يشرائعه شارلي الحقيقي؟ انا لا افهم كيف يمكن الاعتقاد في وجود الله ونقدسه ثم ندين ما نعتقد انه فعله يوما.


2 - سؤال
محمد البدري ( 2015 / 2 / 5 - 02:06 )
وإذا كان الله صحيحا بهذا الوصف الذي سردته في نهاية مقالك فلماذا يصمت علي من قال فيهم يوما خير امة اخرجت للناس بينما كان لديه حالة اسهال في الرسائل والكتب فقط للبرابرة العرب في يثرب ولم تؤدي الا لقتل شارلي الشرق كالحلاج وابن المقفع والسهروردي وفرج فودة؟ الم يكن من الفضل له ولنا ان يرسل شارلي واحد وكفي بدلا من جوقة الافاقين والكذابون والدجالين ليقتلوا يشرائعه شارلي الحقيقي؟ انا لا افهم كيف يمكن الاعتقاد في وجود الله ونقدسه ثم ندين ما نعتقد انه فعله يوما.

اخر الافلام

.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ


.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح




.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا