الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكذب بوصفه أداةً للصدق

نورس كرزم
باحث وموسيقي متخصص في علم الدماغ والأعصاب

(Dr. Nawras Kurzom)

2015 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الكذب بوصفه أداةً للصدق
2-1-2015
لعلّ العديد منا يعتقد بأن الصدق مفتاح النجاح، وأن تبسيط الأمور وكشف النوايا يقودان بالضرورة إلى نتائج فيزيقية ونفسية محمودة. سأحاول هنا أن أُعاين هذا الزعم، في ضوء استعراضي لبعض النماذج والحالات التي أثارت فيّ الفضول والتساؤل.
بدايةً، وانطلاقاً من المبدأ الديالاكتيكي في تفسير الظواهر الاجتماعية والمادية، نُذكّر بأن الشيء يحمل نقيضه، وأنهما يشكلان معاً وحدةً واحدة تؤدي إلى محصلة إيجابية بالمعنى التطوري، أي التقدّم والتحوّل من الحالة القديمة إلى الحالة الجديدة. وفي الواقع، أعانني هذا المبدأ على فهم عدة مسائل اجتماعية من حولي على اختلاف تجلّياتها وتمظهُراتها. ولاحظتُ من خلال مراقبتي واطلاعي على بعض الحالات، أن عديداً ممن أضحوا نماذجاً في الفكر، السياسة والعلم، اتبعوا درب المواربة والتضليل، وقد أثمرت هذه الطريقة إلى أن وصلوا إلى مُرادهم وإلى شغف الجمهور بهم. وحتى وإن عاينّا حالات تحظى بشهرة أقل، نرى أن ذات الأمر ينطبق عليهم بطريقة تدعو فعلاً إلى الدهشة.
تنتشر نظرية النسبية بشقيها العام والخاص بين أوساط الناس على أنها من عمل الألماني آينشتاين، وتُنسب على أنها من ابتكاره بنسبة تامة. لكن التاريخ يخالف هذا الزعم، إذ أنّ عدداً من المعادلات المركزية التي وظفها آينشتاين هي من ابتكار علماءٍ سابقين، دون أن يشير (أي آينشتاين) إلى المصادر التي استقى منها أفكاره ومعادلاته، وهو صاحب القول الشهير: "تكمن مهارة الإبداع في كيفية إخفاء مصادرك".
يُعد قانون الجاذبية من أشهر القوانين الدارجة في مضمار الفيزياء الكلاسيكية، ويُنسب بشكل تام إلى الفيزيائي نيوتن. لكن قلة منا تعلم بأن الفيزيائي روبيرت هوك قد رفع دعوى قضائية ضد نيوتن، حيث أوضح أنه نشر كتاباً سابقاً على وضع نيوتن لنظريته، وأنه (أي هوك) قد أوجد قانوناً يكاد يتطابق مع قانون الجاذبية العام الذي ينسبه نيوتن لنفسه.
أثناء إعدادي لبحث التخرج في علم النفس، وقع بين يدي كتاب (الموسيقى الكبير) للفارابي. وأثناء قراءتي للكتاب (الضخم) شعرتُ بأنني أقرأ عباراتٍ مرت على أنظاري سابقاً. نبّشتُ في مكتبتي، وفي مواقع الانترنت، فوجدتُ تطابقاً يكاد يكون تاماً بين نظرية الفارابي حول الموسيقى وتوصيفه الدقيق لها، وبين نظرية الاستطيقا الفلسفية حول الموسيقى لدى كل من نيتشه، شوبنهاور وهيغل، دون أية إشارة منهم إلى الفارابي الذي سبقهم بكثير، فأصابني الذهول.
وأستطيع أن أتابع في سرد مثل هذه الشواهد إلى ما لانهاية، ولكني سأقتصر بما ذكرتُ إلى الآن، كي أَخرُج بالخلاصة التي استنتجتها. ففي الأمثلة التي عرضتُها، نرى أن الأمر نفسه يتكرر باستمرار. فالشخص يلقى شُهرةً ورواجاً بفضل براعته في الكذب على العامة، إضافة إلى تحايله بمهارة في إخفاء المصادر التي ارتكز عليه لدى بناء نتاجه الفكري أو العلمي. والغريب في الأمر، أن أغلبية النتاجات الفكرية والعلمية المذكورة آنفاً، تُعدّ –وإلى وقتنا الراهن- نظرياتٍ (صادقة) بين الأوساط العلمية والفلسفية، وإن طالها النقد. فهل الكذب يؤدي حتماً إلى نتيجة صادقة (إذا ما اعتبرنا أن الصدق هو كسب إجماع الأغلبية في وسطٍ ما؟).
إجابتي على التساؤل السابق هي: كلا، ليس دائماً. فآلية الكذب والتحايل تحتاج إلى موهبة وبراعة في الترويج وتهميش المصادر الأصلية. فالكذب لوحده لا يُثمر بالنتيجة المبتغاة، وإنما يحتاج إلى توافر عناصر معينة (صادقة) بدرجة معينة. فكما ذكرنا سابقاً، لا بد للشيء أن يجتمع مع نقيضه كي يحصل تطور أو تقدم ما. وهنا أخرج بنتيجة مفادها أن الكذب الذي يحتوي لبناتٍ جوهرية صادقة، يعدّ أداة فعالة للوصول إلى الصدق.
ولكن تبقى هذه النتيجة نسبية وقابلة للنقاش، فتعريفنا لمفهومي الصدق والكذب قد يختلف باختلاف الخلفيات والغايات وطُرق التفكير. فما يُعدّ صادقاً بنظرِ جماعة ما، قد يكون كاذباً تماماً بنظر جماعة أخرى. فقد يكون الصدق لدى شخص مُعيّن هو كل ما يُنسب إلى الإله، بوصفه طاقةَ ميتافيزيقية عصيّة على الخطأ. فمن وجهة النظر هذه، حتى وإن أجمع الأغلبية على أن أمراً ما هو خاطىء، فإنه يبقى صحيحاً طالما أنه منوطٌ بالإله. وبالنسبة لفرد آخر، فقد يكون الصدق هو ما يجتمع الأغلبية في سياق ما على أنه صائب، ثم يتم تهميش آراء الأقليات رغم فرادة طرحها. وبالنسبة لشخص آخر، فالصادق هو ما يتوافق مع "الضمير" الفردي الداخلي، رغم مخالفته لإجماع الأغلبية. أما بالنسبة لفريق آخر، فلا وجود لما هو صادق أو كاذب، فكلاهما أمران نسبيان لا يخضعان بالضرورة لأحكام المنطق البشرية والتي يصفونها بالعوجاء والمتحيزة. وبأية حال، تبقى هذه المُعضلة مفتوحة للتأمل، ومن ثم للنقاش، وذلك نظراً للخلاصات الفريدة التي قد تلوحُ بُعيد هكذا تأمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن في الرياض.. إلى أين وصل مسار التطبيع بين إسرائيل والس


.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين يرفضون إخلاء خيمهم في جامعة كولومبيا




.. واشنطن تحذر من -مذبحة- وشيكة في مدينة الفاشر السودانية


.. مصر: -خليها تعفن-.. حملة لمقاطعة شراء الأسماك في بور سعيد




.. مصر متفائلة وتنتظر الرد على النسخة المعدلة لاقتراح الهدنة في