الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كفوا عن داعش.. فإنهم متّبعون

سمير الحمادي

2015 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الفيديو الذي أصدرته مؤسسة الفرقان الإعلامية التابعة لداعش أمس الثلاثاء (3 / 2 / 2015)، عن واقعة إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الأسير عندها منذ 24 ديسمبر الماضي، بعنوان دال ومعبّر (من حيث إحالاته الرمزية / القرآنية): "شفاء الصدور".. هذا الفيديو الفظيع (فظاعته غير مسبوقة في تاريخ الإعلام الجهادي، حتى الزرقاوي الذباح: وهو سلف صالح للدواعش، وملهمهم في الأكشن، وأول من ابتدع فرية القتل / الذبح أمام الكاميرا، لم يفعلها.. تحرجاً ربما أو رهبة من حرّ الموقف)، هو أقوى فلم رعب أصدره (حتى الآن) هذا التنظيم / الدولة / الظاهرة الذي ما انفك يثبت، بلا حذر أو مواربة، يوماً بعد يوم، وفاجعة بعد فاجعة، ودماً بعد دم، أنه ليس فقط سيفاً مسلطاً على رقاب العباد في العراق وسورية، الذين يتعرضون للموت المجاني على يده وبسببه في كل لحظة دون أن يهتم بموتهم أحد (لا أتحدث عن الزعماء والنخب من أصحاب الياقات البيضاء، فهؤلاء من رقتهم لا يرْثُون إلا قتلى الأبراج، ولا يمشون إلا في الجنازات الباريسية)، وإنما هو خنجر منقوع في السم، من أول المقبض إلى أقصى النصل، جُهّز خصيصاً (ولا يهم في أي مختبر سياسي / ديني / طائفي) لينغرز عميقاً.. عميقاً جداً في خاصرة الإسلام وأهله الطيبين جميعاً.

بصرف النظر عن المستوى الفني المتطور للفيديو (من حيث تقنيات المونتاج والصورة والمؤثرات الصوتية)، الذي استوقف كثيرين، متسائلين عن طبيعة الموارد / الكفاءات البشرية التي يتوفر عليها التنظيم، والتي يمكنها إعداد مقطع هوليودي من هذا النوع، يضاهي في براعة / احترافية إخراجه أقوى أفلام الرعب الأمريكية (مع فارق أن عنف الصورة هنا واقعي)، وبعيداً عن صرخات الغضب والاحتجاج والإدانة والتنديد وشرارات الدموع والحزن والأسى والألم التي تنسكب على مواقع التواصل الاجتماعي منذ إعلان الخبر، تعالوا نتأمل المسألة بهدوء العقلاء، ليس من زاوية الفعل نفسه (على قبحه الديني والإنساني.. وحتى العسكري، على اعتبار أن الحرب أيضاً أخلاق وأدب)، وإنما من زاوية المبررات / الإحالات الشرعية التي حرص الدواعش على إثباتها فوراً ونشرها على نطاق واسع دفعاً للاتهامات (المحتملة) التي (قد) يسوقها الطاعنون والمشككون في حجية الفعل / الحرق من منظور الإسلام والتراث / الفقهي الإسلامي.

بَل لَكُم فِي الحَرْقِ سَلَف

هذا هو الشعار الذي يرفعه الدواعش منذ نشر الفيديو في وجه كل من يثرثر احتجاجاً واعتراضاً على جريمتهم النكراء (هو في الأصل عنوان مقال وزعه أمس على الانترنت واحد من شرعيي التيار السلفي الجهادي.. دفاعاً عنهم.. من باب الولاء للذين آمنوا). والحق أنهم أثبتوا مرة أخرى أنهم ما يزالون كما عهدناهم دائماً: صادقين في قولهم، واضحين في فعلهم، متصالحين مع ذواتهم، لا يضحكون على أحد، لا يحتالون، لا يراوغون، لا يضعون أقنعة أولياء الله الصالحين ليخفوا وجوههم الحقيقية (كما يفعل خلق كثير من أقرانهم المعتدلين، واسألوا القائمين على موقع "إسلام ويب" المعتدل جداً: لماذا حذفوا ليلة أمس: على الساعة 8 و 20 دقيقة الفتوى رقم 71480 الخاصة بتحريق أبي بكر الصديق لإياس بن عبد ياليل، وهي التي ظلت منشورة في الموقع منذ 7 فبراير 2006، لماذا حذفوها في هذا التوقيت بالذات: بعد ساعات من إعلان حرق معاذ؟).

نعم، الدواعش صادقون مع أنفسهم ومعنا، لن تجد إذا تتبعت سيرتهم فرقاً بين معتقداتهم وممارساتهم، فهم لا يكتمون العلم، لا يكفيهم أن يظل قابعاً في صدورهم: مجرد علم لا أثر له في الواقع، بل علمهم يصاحبه عمل، فتراهم يبادرون إلى النزال والطعن، بهمة عالية، أحب من أحب وكره من كره، والدليل أنهم أشعلوا النار في معاذ، نعم أحرقوه حياً، لأن هذا هو منتهى علمهم، يطبقون بالحرف ما تعلموه في مؤلفات الفقه والحديث والجهاد والمغازي والسير التي تركها لنا علماء السلف لنقرأها ونتعلم منها أمور ديننا. إنهم متّبعون، لم يُفتنوا في دينهم، ولم يأتوا بشيء جديد، فلا هم نظروا (من النظر: أي البصيرة)، ولا هم فكروا (أي استخدموا العقل لقياس الفارق)، ولا هم أبدعوا (من البدعة)، ولا هم أفتوا على هواهم، بل وجدوا كل شيء مرتباً وجاهزاً في بطون الكتب، فأخذوه على محمل السيف، ولا تثريب عليهم. مأجورون إن شاء الله.

لذلك إذا كان هناك من شبهة أو دَخَن في سلوكهم، فإن من يُسأل عنه ليس هم (المتّبعون)، بل من أفتاهم وعلّمهم وأقنعهم بأن تلك هي إرادة الله، وذاك هو الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

هذا هو العدل
يُسأل المتبوع أولاً
هو أحق الناس ضرباً بالنعال.

يقول الدواعش والتابعون والموالون والمؤلفة قلوبهم من الأنصار والمهاجرين (في الفايس بوك وتويتر) في معرض التدليل على مشروعية إعدام الطيار الأسير حرقاً (من باب المعاملة بالمثل):

قال الشوكاني: "وقد اختلف السلف في التحريق، فكَرِهَ ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواء كان في سبب كفر أو في حالة مقاتلة أو قصاص، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما".

وأما ما جاء في الحديث "وإن النار لا يعذب بها إلا الله"، قال الحافظ ابن حجر: قال المهلب: "ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرّق أبو بكر البغاة بالنار في حضرة الصحابة، وحرّق خالد بن الوليد بالنار ناساً من أهل الردة، وأكثر أهل المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري والأوزاعي".

وقال ابن حجر: "ولأحمد من هذا الوجه أن علياً أتى بقوم من هؤلاء الزنادقة ومعهم كتب، فأمر بنار فأُججت ثم أحرقهم وكُتبهم، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه قال: كان ناس يعبدون الأصنام في السر ويأخذون العطاء، فأتى بهم علي فوضعهم في السجن واستشار الناس، فقالوا: اقتلهم، فقال: لا، بل أصنع بهم كما صُنع بأبينا إبراهيم فحرّقهم بالنار".

قال ابن كثير: "كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب".

قال ابن تيمية: "وهكذا قال كثير من الفقهاء، إذا قتله بتحريق أو تغريق أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يُفعل به كما فعل ما لم يكن الفعل محرماً في نفسه كتجريع الخمر واللواط به، ومنهم من قال: لا قود عليه إلا بالسيف، والأول (أي التحريق بالنار) أشبه بالكتاب والسنة والعدل".

إذاً، هو ما قلنا: الدواعش لم يأتوا ببدعة، ليس لهم بنات أفكار في الموضوع، فبأي حق نشهّر بهم ونرميهم بالجهل والغلو والتطرف والإجرام ما داموا لم يخترعوا هذا الحكم (وأحكام أخرى مثلها كالنحر وجز الرأس وقطع الأطراف والتمثيل بجثث الكفار والمرتدين، أو كجلد الكُتّاب على رؤوس الأشهاد كل جمعة بتهمة الردة عن الدين، التي تعني في لغة هذا الزمان معارضة الكهنوت السلفي، وابحثوا في جوجل عن اسم: رائف بدوي).

بأي حق نشنّع عليهم ونخوض في سيرتهم طالما أن الحرق والتحريق من الدين، وهو سنة مؤكدة، ورثناها عن سلفنا الصالح كما تقرر المرويات والمتون الفقهية الصحيحة المعتبرة، التي ما تزال تدرَّس حتى اليوم في المعاهد الدينية في العالم العربي، ويعتمد عليها جمهور العلماء في الإفتاء في كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين والدنيا (راجعوا المواد التعليمية في الأزهر وكليات الشريعة في نجد، ستجدون أن الحرق هو أهْوَن ما فيها)؟

بأي حق نلومهم ونصرخ في وجوههم غاضبين إذا كنا جميعاً نقتات على الفتات نفسه، وننكب صيفاً وشتاءً على الكراريس ذاتها، نضعها فوق كل اعتبار، مؤمنين بأنها النموذج الديني الأعلى الذي لا يجوز الخروج عليه أو حتى نقده ومساءلته.. ولو بشق كلمة؟

بأي حق نتهمهم ونظن بهم السوء؟
ألأنهم واضحون بما فيه الكفاية ونحن لا؟
ألأنهم يفعلون ما يرونه حقاً.. بعكسنا؟
ألأنهم قادرون على المواجهة ونحن عاجزون؟

إن الفرق بيننا وبين الدواعش ليس فرقاً نوعياً، إنهم فقط أكثر وضوحاً في التعبير عن عقائدهم، حتى لو كلفهم ذلك ثمناً، بينما نحن (أو أغلبنا) مقنَّعون، نعاني من الفصام، نداري ونهادن، وما في القلب في القلب، نكتم مشاعرنا وأصواتنا، ونلبس لكل حالة لبوسها.

الفرق بيننا أن الوساوس لا تساورهم في ما يتعبّدون، لديهم إستراتيجية إيمانية واحدة ثابتة، لذلك نجدهم في كل وقت متحمسين مندفعين جامحين، يفخخون ويفجرون ويقتلون في كل الاتجاهات بلا مشاكل، واثقين من براءة ذمتهم، ومن أنهم في كل ما يفعلون إنما ينفذون ما أُمروا به، في حين أننا (أو أغلبنا) منقسمون على أنفسنا من الداخل: لا نعرف كيف نوفق بين الباطل (التراثي) الذي نراه يسكننا، والحق (الإلهي) الذي ندعيه.

لذلك لا داعي لكل هذه المبالغات في إظهار الغضب
لا داعي لكل هذا الإنكار والادعاءات الباردة الجوفاء
لأن كل ما نقوله الآن.. الموقف كله
عبث.. مجرد عبث.

إن من يريد أن يصحح الحاضر عليه أن يمتلك شجاعة العودة إلى الوراء: إلى الأصل، أن يغوص في التاريخ بلا تردد أو مواربة، ويضع يده على الجرح. من يريد أن يقرأ عليه أن يبدأ من الصفحة الأولى، فالحفر الصحيح يعني النزول إلى العمق، وليس الطواف حول السطح. الجرأة ليست في نقد داعش، بل هي في نقد من يقف وراء داعش، من يحرضهم ويحفزهم ويدعمهم ويشد على أيديهم ويحلل لهم ما يفعلون: إنهم المتقدمون من الأئمة والعلماء والفقهاء والمشايخ الذين عاشوا في أزمنة غابرة، وماتوا وشبعوا موتاً، لكنهم ما زالوا بيننا أحياء يُرزقون من خلال تراثهم الفكري / الفقهي الذي بدل أن نضعه في المتحف، كأي تراث قديم، محترمين ما فيه من غث وسمين، على اعتبار أنه جزء منا، من ماضينا، رحنا ننفض عنه الغبار ونعبده مع رب العالمين.

هؤلاء أولى بالنقد ومراجعة ما كتبوه في زمنهم.. لأهل ذاك الزمان. أولى بأصابع الاتهام، تشير إليهم بلا أناقة وإتيكيت. أولى بأن يقدَّموا إلى المحاكمة، فور وضع اليد عليهم، فمن ينظّر للجريمة هو شريك فيها، حتى لو لم يكن حاضراً وقت ارتكابها. فلماذا نخاف الاقتراب منهم، وفحص بصماتهم، بينما لا نجد غضاضة في اقتحام مضارب داعش في الموصل والرقة، والنيل منهم، وما هم إلا سلفيون.. متّبعون.. منفذون.. مقتدون.. مقلدون.. خلَفٌ يقتفي آثار سلف، لا يحيد عن الصراط، حذو النعل بالنعل.

إن الأيديولوجيم السلفي قد يكون مصدر إزعاج وضيق لدى البعض، عندما يتدخل في خصوصيات حياتية لا مجال فيها للإفتاء (كل ما يتعلق بفتاوى المرأة والجسد: جسد الرجل أيضاً، من هذا النوع)، لكن الأهم والأخطر أنه يشكل مصدر تهديد حين يُقحم في معاملات الحرب والسياسة. إن التكلفة تكون باهظة جداً، لذلك علينا أن نقلق بجدية، وليس كما نفعل الآن، قلق مؤقت، غضب مرحلي، حزن عابر، علينا أن نعرف أن داعش ليست جوهر المشكلة، ليست رأس الأزمة، هي مجرد عصابة من الطغاة، وجدوا أمامهم فراغاً، فتمددوا على اتساعه بما يملكون من دعم مالي وعسكري ما تزال مساربه غامضة وغير محددة (لنتهم من نريد، فالأكيد أن من يحاربون داعش في النهار هم من يمدونها بأسباب النجاة عندما تتقطع بها السبل.. ليلاً). المشكلة / الأزمة هي في الشذرات التراثية المذكورة أعلاه، ومثلها ما جاء في ختام الفيديو من نقل حرفي عن ابن تيمية:

"فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع".

إن هذا ما يجب أن يتركز عليه غضبنا ورفضنا وثورتنا: إخراج ابن تيمية وغيره من علماء السلف من قبورهم وإقحامهم قسراً في سياقات إجرامية، وتصدير أقوالهم وترجيحاتهم الفقهية على أنها أصل ومرجع وحجة لا تجدي معها محاولات العصيان.

لقد عاش ابن تيمية (وهو شخصية خلافية في التاريخ الإسلامي) في القرن الثامن الهجري، في عصر عاصف مشحون بالمخاوف والأزمات (والخيانات)، وقد تحكمت تجربته القاسية مع المغول في وعيه الديني وشكلت أفكاره واجتهاداته بشكل كامل، حتى إن بعض الدارسين (هنري لاووست مثلاً) يرون أن إسهامه الرئيسي والأهم في الفكر السلفي الإسلامي يتمثل في التوضيحات التي قدمها لمفهوم الجهاد وما يتعلق به من مفردات وسياسات، فلا غرابة أن يكون الملاذ المفضل عند الجهاديين، الذي يستهويهم ويغريهم، ويرجعون إليه باستمرار طالبين العون (والإجابات)، فما لديه من فحولة كلامية يكفي تماماً لتبرير كل مشاريعهم القتالية مهما كانت جنسية العدو: عدو قريب / عدو بعيد (بعد اغتيال السادات في أكتوبر 1981 كتب أحدهم أن ابن تيمية هو من قتله وليس تنظيم الجهاد، في إشارة إلى كتيّب "الفريضة الغائبة" الذي حرره منظر التنظيم محمد عبد السلام فرج شهوراً قبل العملية، وتضمن اقتباسات مطولة من فتاواه).

من هنا تبرز الحاجة، بل الضرورة إلى إعادة قراءة تراث ابن تيمية بالذات قراءة علمية تفكيكية، وذلك بوضعه في إطاره التاريخي الواقعي، وربطه بمحيطه الاجتماعي والسياسي، إذ لا يمكن لهذا الرجل أن يظل مطلق السراح هكذا، يمثل بمفرده سلطة مرجعية عابرة للتاريخ، وتمثل كلماته أساساً لأزمنة الإسلام في كل تنقلاتها التاريخية، دون أن تعارضه أو تزاحمه أو تنافسه أو حتى تجاوره كلمات أخرى.

إن الصراع يدور داخل الإسلام وليس خارجه أو على أطرافه: صراع يتقاطع فيه الديني مع الفكري مع الفكرولوجي مع السلطوي (ولكلٍّ مقالاته وحساباته). إن المشهد أشبه بحرب حضارية داخلية تدور رحاها بين تيار أصولي سلفي في عقيدته ومنهجه، يرفع شعار العودة إلى الإسلام: إسلام غير مدنس ثقافياً، من خلال طرح نموذج سابق التجهيز (مجتمع النبوة والخلافة الراشدة)، ويجد في توترات / صدمات الزمن العربي الراهن ما يسند طموحه للاستحواذ على الحاضر، والتحكم في مساراته، ولو عنفاً وقهراً، مدعياً الحق والعصمة، مستنداً إلى فقهيات تراثية عفا عليها الزمن، ومع ذلك هي حاضرة / مؤثرة في الوعي الجمعي الإسلامي المعاصر، لم تستطع عوامل التعرية أن تفعل فيها فعلها، وتيار تنويري حداثي ثوري على طريقته، يحاول أن يخترق / يفكك "السياج الدوغمائي" الفعال الذي يسَوِّر الوعي الجمعي للمسلمين، ويقنعهم بحقهم (الذي هو واجب عليهم أيضاً) في بناء نسق فقهي خاص بهم، تحكمه تجارب الحياة المعاصرة: تجاربهم هم، وليس الأسلاف الذين عاشوا في ظل شروط سياسية واجتماعية وثقافية محلية جداً ومختلفة كلياً، والمخيف أن ما بين هذين التيارين المتصارعين يقف المسلمون في حيرة من أمرهم، عاجزين عن الحسم، وتحديد أي الفريقين أحق أن يُتبع.

إن النص، باعتباره نظاماً للمعنى، هو مصدر الحقيقة في كل الأديان، حتى الأديان المدنية أو الأيديولوجيات، محافظة كانت أو ثورية / راديكالية، لا بد من أن تتأسس على نص ما، هذا مفهوم، بل إنه عندنا من المعلوم بالضرورة، فلا ننكره أو ننفيه ولا نجادل في صحته، لكن النص لا ينطق وحده، بل ينطق به الرجال، وإذا كان ابن حنبل (ت 241 هـ)، وابن تيمية (ت 728 هـ)، وابن القيم (ت 751 هـ)، ومحمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، قد نطقوا به، كل واحد في زمنه، بما تهيأ له من معارف، وما توفر له من فهم، فإن العدل: عدل خالق السماوات والأرض، يقتضي أن نأخذ نحن أيضاً فرصتنا في قراءته / تمثله واستنطاق ما خفي أو التبس من دلالاته، من حقنا أن نتحرى ونبحث ونسأل ونفكر ونجتهد ونجدد بمعزل عن أي ضغوط أو وصاية، أن نضع بدورنا جرة قلم تعبر عنا، تحمل توقيعنا، أن نجترح النموذج الفقهي الذي يشبهنا ويعكس بواقعية وضعنا الراهن، المغاير لكل ما سبق، أن نجرب متعة الفهم: فهمنا نحن لكلام الله وسنة رسوله، بلا حواجز أو وساطات أو تدخلات ماضوية / تراثوية، وفي النهاية إما أن نوافق السلف في ما ذهبوا إليه، فيكون لهم فضل السابقة، أو نخالفهم، جزئياً أو كلياً، فيكون لنا أجر الاجتهاد.

إن القران (وهو طاقة تحريرية هائلة) هو كتابنا المقدس جميعاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو نبينا جميعاً، ولا يوجد منطق أو مبرر واحد، عقلي أو شرعي، يمكن أن يقنعنا بصواب أن يحكمنا أموات لا يعرفون شيئاً مما نحن فيه من طوارئ تاريخية.. أن يفكروا عنا، ويختاروا عنا، ويقرروا عنا، ويكتبوا عنا، ويغضبوا عنا، ويحاربوا ويسالموا عنا، أن يفرضوا وصايتهم علينا في كل شأن عام أو خاص، وما علينا ــ نحن أصحاب الشأن ــ إلا الامتثال للأمر الواقع وقول نعم.. وآمين، دفعاً لشر الكفر والمكفِّرين.

لقد كان الصحابة شهداء على الوحي، ونحن نحترم سابقتهم ودورهم في نصرة الإسلام، لكن هذا لا يعني أن كل كلمة، وكل حركة، وكل إجراء اتخذه صحابي أو تابعي، في سياق تاريخي محدد، يجب أن يتحول إلى سلطة مطلقة، أن يتدفق / يتواصل مع التاريخ بلا نهاية، فتُبنى عليه أفكار ومواقف وممارسات كاملة يتعين تقليدها تقليداً تاماً ولا يمكن أن تكون موضع تساؤل (هم أنفسهم لم يطلبوا هذا). إن الأفق الإدراكي للسلف مرتبط بالمناخ الثقافي والعقلي الذي كان سائداً في عصرهم، ومهما كان فهمهم الديني مكتملاً ومثالياً، فإن وعياً انْوَجَد قبل أربعة عشر قرناً لا يستطيع أن يمتص نوازل ومعارف كل العصور والأزمنة دفعة واحدة.

حتى الفهم الديني يخضع لقانون التطور، فيتغير ويختلف، تقدماً وتراجعاً، توهجاً وانطفاءً، قوة وضعفاً، عنفاً وسلماً، بحسب اتجاه ريح الثقافات، وتحولات خرائط الزمان والمكان.

إن أهل القرن الواحد والعشرين أدرى بأوجاع هذا الزمن المزدحم بالاحتقانات والأزمات، كما كان أهل القرون الأولى أدرى بأوجاع زمنهم التي نعلم عنها (بحكم التقدم في التاريخ) وهم لا يعلمون. نحن نحترم جداً هذا المبدأ / الحكمة، وكم نتمنى أن نعامَل بالمثل.

لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت داعش ستحقق غرضها الرئيسي من بث الفيديو / الرسالة، ذلك أن هدف الإرهاب، كما يقول بروس هوفمان، هو إحداث آثار نفسية بعيدة المدى بشكل يتجاوز الضحية / الضحايا المباشرين الذين استهدفهم العنف. إنه يرمي إلى غرس الخوف في داخل النفوس على نطاق واسع، وبالتالي إرهاب المجموعة التي يستهدفها الفعل الإرهابي والتأثير في سلوكها، لكن الأكيد أن ما حدث مع الطيار الأردني سيتكرر كثيراً في المستقبل طالما أن محرضاته ما تزال موجودة، يتقاسمها بالتساوي واقع موبوء بالهزائم من كل نوع، وتراثيات ما تزال نيرانها قادرة على إشعال أدمغة لا تملك ما يحصّنها من الحرائق.

رحم الله معاذ
وكل داعش ونحن.. ما تعلمون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نعم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2015 / 2 / 7 - 09:43 )
التحري و البحث مستمر لكنه مُحارب من قوى دولية سياسية و عسكرية و مالية ينفعها ما تركه ابن تيمية و ابن عبد الوهاب


2 - هل الحرق إسلامي أم يهودي؟
الصريح ( 2015 / 2 / 7 - 12:39 )
لا توجد آية و لا يوجد حديث يأمر بالحرق , بل القرآن ذكر أن الحرق من فعل الطغاة (قوم إبراهيم) و (أصحاب الأخدود) .
أما فعل الصحابة , يقول ابن عباس : (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر).

الحرق بالنار جاء الأمر فيه عند اليهود , مثل :
و إذا تدنست ابنة كاهن بالزنى فقد دنست اباها , بالنار تحرق [اللاويين : 9-21].
ويكون الماخوذ بالحرام يحرق بالنار هو وكل ما له لانه تعدى عهد الرب ولانه عمل قباحة في اسرائيل [يشوع : 7 :15] .


3 - ادعو جميع اهل الفكر والنضال التقدمي قراءة المقال ه
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2015 / 2 / 8 - 04:21 )
تحية واحترام للكاتب الأستاذ سمير الحمادي على هذا المقال الغني والمسؤل
ونحن باشد الحاجة في نضالنا ضد التوحش الهمجي الى المنهجية المدعومة بالمعرفة
مع الاخذ بنظر الاعتبار التاءثير الإيجابي بالجمهور على اختلافه مستهدفين احداث
التغيير الضروري وليس اشباع حاجات بعض المرضى بالعدمية لاشخاص بيننا
وشكرا جزيلا أستاذ سمير وبهذا الغنى والنفس العقلاني والأسلوب الرشيق الجميل

اخر الافلام

.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ


.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح




.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا