الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يغالطونك إذ يقولون [1]: أنّ الانفجار الكبير خطأ، لأنّه لايمكن أن يوجد شيء من لاشيء

إبراهيم جركس

2015 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يغالطونك إذ يقولون [1]: أنّ الانفجار الكبير خطأ، لأنّه لايمكن أن يوجد شيء من لاشيء.
كثيراً من نسمع هذا القول من المؤمنين ومن المشكّكين بالنظريات العلمية كنظرية التطور أو الانفجار الكبير، فغالباً ما يقول المؤمنون وبخاصّةٍ الذين يؤمنون بنظرية الخلق والتكوين أنّ 1) نظزية الانفجار الكبير تقول أنّ الكون قد نشأ من لاشيء، و2) أنّ من المستحيل وجود شيء من لاشيء. وكلا هاتين المقدّمتين تتخلّلهما إشكلات بارزة.
# هل صحيح أنّ نظرية الانفجار الكبير تقول أنّ الكون جاء من لاشيء؟
تقوم نظرية الانفجار الكبير على أساس نظرية النسبية العامة لأينشتاين، وتعتمد عليها لترجع بتاريخ الكون إلى تلك اللحظة من الزمن حين كان الكون بأكمله متركّزاً داخل نقطة دقيقة جداً وكثيفة جداً تسمى "المتفرّد الأعظم Singularity". هذه الحكاية بالذات عن تاريخ الكون قد جرى تبسيطها، لأنّ الناس عادةً يجعلون ميكانيكا الكم وطرق عملها وآلياتها: في زمنٍ محدّد يسمّى زمن بلانك Planck time (يعتقد الآن أنّها كانت قبل 13.7مليار عام) كان الكون صغيراً جداً ويمرّ بمرحلة نشاط وتأثيرات ميكانيكية كمومية. ولكي نعرف بالضبط تأثير ذلك على الكون قبل زمن بلانك علينا أن نستخدم نظرية الثقالة الكمومية quantum gravity، والتي تتضمّن نظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم.
يمكننا هنا أن ننظر إلى مسألة ما إذا كان الكون قد جاء من عدم أو لاشيء من نقطتين: من وجهة نظر مبسّطة تتخذّ من نظرية النسبية العامة لوحدها نقطة انطلاق لها، ومن وجهة نظر أشمل وأكمل، لكن أعمق، تقوم على أساس نظرية الثقالة الكمومية.

1] من جهة النسبية العامة لوحدها: أحد نتائج الفيزياء النسبية هو أنّ الزمان والمكان (اللذان يجمعان في مصطلح واحد هو الزمكان Spacetime) سمتان غير منفصلتين للكون. لذلك، إذا نظرنا إلى المسألة من جهة نظرية النسبية العامة وحدها، فإنّ أصل الكون هو أصل الزمان والمكان نفسيهما، لذا لايمكن أن يكون هناك زمن قبل نقطّة التفرّد البدائية (أو مكان خارجها)، طبعاً فكرة "قبل" هذه بحدّ ذاتها (أو "خارج") التفرّد ليست منطقية أصلاً. وهذا بدوره يرينا أنّ وجهة النظر القائلة أنّ الكون جاء "بطريقة ما من" عَدَم بدائي، بعيداً عن كونه جاء من انفجار كبير (بدون آليات كمومية)، متناقض معها.
لكي يكون الكون قد "جاء من لاشيء"، لابد أنّه في لحظة من الماضي كان هناك لاشيء، ثم بعد ذلك، في لحظة لاحقة من الزمن، وُجِدَ الكون فجأة. بأية حال، كما رأينا سابقاً، نظرية الانفجار الكبير من دون ميكانيكا الكم توجب أنّ الكون وُجِدَ في كل لحظة زمنية سبق أن وُجِدَت. لا نستطيع الحديث عن أنّ الكون وُجِدَ باللحظة الأولى من الزمن، ثمّ نقول أنّه كان هناك زمن قبل اللحظة الزمنية الأولى حيث لم يكن يوجد شيء.
يختصر الفيزيائي ستيفن هوكينغ كل هذه المسألة بشكل لطيف عندما يشير إلى أنّ ((الحديث عن مسبّب أو لحظة خلق يتضمّن افتراض ضمني بأنّه كان هناك زمن قبل المتفرّد الذي انبثق عنه الانفجار الكبير. كنّا نعرف طوال خمسةٍ وعشرين عاماً أنّ نظرية آينشتاين في النسبية العامّة تتنبأ بأنّ الزمان يجب قد بدأ من نقطة تفرّد منذ خمسة عشر مليار عام)) [1]
2] نظرية الCZvالة العامة: ماذا يحدث إذا أخذنا في اعتبارنا نظرية ميكانيكا الكم؟ حالياً، من الصعب جداً القول، لأنّه ليس هناك إجماع علمي على نظرية الثقالة الكمومية. بأيّة حال، وحسب العالم الفيزيائي لي سمولين، ليس هناك سوى ثلاث نتائج محتملة لأي نظرية في الثقالة الكمومية:
1) ماتزال هناك لحظة أولى أو بدائية بدأ منها الزمان، حتى إذا أخذنا ميكانيكا الكم باعتبارنا.
2) تمّت إزالة نقطة التفرّد عن طريق تأثير معيّن لميكانيكا الكم. وكنتيجة لذلك، عندما نعود بالساعة إلى الوراء، لايصل الكون إلى حالة الكثافة المطلقة أو اللانهائية. شيء ما آخر يحدث عندما يصل الكون إلى نقطة كثافة عالية تسمح للزمن بالاستمرار إلى مالانهاية في الماضي.
3) يحدث شيء ما جديد وغريب وكمومي/كوانتي للزمان، لايتمثّل لا في الاحتمال الأول ولا في الثاني. على سبيل المثال، ربما نصل إلى مرحلة لايعود من المنطقي فيها التفكير بأنّ الواقع مكوّن من سلسلة من اللحظات المتتابعة بشكل تقدّمي، أي نحو الأمام، لحظة بعد أخرى. في هذه الحالة، قد لايكون هناك متفرّد بدائي، أو نقطة بدأ منها الزمان، لكن ذلك لايجعل السؤال عمّا كان موجوداً أو ماذا كان يحدث قبل بداية الكون أو قبل انحصاره في نقطة كثيفة سؤالاً منطقياً[2].
الاحتمال الأول يقدّم لنا نفس النموذج الذي تقدّمه لنا نظرية الانفجار الكبير القياسية [من دون ميكانيكا الكم]: كون موجود في كل لحظة من الزمن، وبذلك لا يكون قد "جاء أو وُجِدَ من لاشيء". الاحتمال الثاني يقدّم لنا نموذجاً عن كونٍ يمتدّ للوراء بشكل لانهائي في الزمان، وبذلك يلغي المشكلة الأساسية التي فرضها علينا سؤال "كون وُجِدَ من لاشيء". الافتراض الثالث (الذي يشكّل أحد أمثلته النموذج الكوزمولوجي الكمومي الذي قدّمه هوكينغ عام 1988) يقدّم لنا كوناً "لا يمكن أن يكون موجوداً من لاشيء"، إذ أنّ فكرة الترتيب أو التراتب/ التعاقب الزمني نفسها قد ألغيت وباتت بلامعنى خلال المرحلة المبكرة من الكون.
إذن من الواضح أنّه وفي ظلّ أي خيار محتمل لانفجار كبير مدعوم بنظرية الثقالة الكمومية، مازال من الخطأ وصف نظرية الانفجار الكبير بالقول أنّ الكون "موجود من لاشيء". ففي كل احتمال من هذه الاحتمالات، لاتوجد لحظة من الزمن لم يكن للكون وجود فيها.

# هل من الممكن وجود شيء من لاشيء؟
حتى وإن كنّا سنفترض، على عكس ماتقوله الفيزياء لنا، أنّه كان هناك زمان سابق لنشأة الكون حين لم يكن هنام شيء ماعدا الزمان، فمازالت المشكلة التي يثيرها هذا الافتراض غير واضحة. بالتأكيد ليس هناك تناقض منطقي في تصوّر عدم وجود شيء في لحظة ما ثمّ ظهر بعد ذلك شيء ما في اللحظة التالية، نحن لانتحدّث هنا عن "عدم أو لاشيء" يتحوّل بطريقةٍ ما إلى "شيء ما موجود". مع أنّ الفكرة القائلة بأنّ شيئاً ما لا يمكن أن يأتي من لاشيء يبدو "منطقية" بالنسبة لبعض الناس، إلا أنّها لاتعكس _مثلها مثل باقي الأمور "المنطقية"_ سوى انحيازاً شائعاً وتفتقر لأي دعم منطقي صارم ودقيق. لا أقول أنّنا نعرف حق المعرفة بأنّ شيئاً ما لايمكن أن يأتي من لاشيء، كل مافي الأمر أنّ العمس لا يمكننا التسليم به بكل بساطة.
1] هل سبق أن رصدنا شيئاً يوجد من لاشيء؟
إحدى الحجج الشائعة التي توجّه ضدّ فكرة "وجود شيء من لاشيء" هي أنّنا لا نلحظ مثل هذه الأحداث والوقائع أو نرصدها في عالمنا. بأيّة حال إذا كنا نشير إلى "الفراغ أو الفضاء" عندما نتحدّث عن "لاشيء، العدم"، عندئذٍ ليس صحيحٌ أنّنا لم نلحظ أو نرصد أشياء توجد من لاشيء: مبدأ اللايقين الكمومي يسمح للزوج جسيم-جسيم مضاد أن يظهرا في نفس الوقت من الفضاء أو الفراغ لفترات زمنية قصيرة جداً. هذه الجسيمات الافتراضية (أو تموّجات الفضاء الكمومي quantum vacuum fluctuations) موجودة في كل مكان، وتترك تأثيرات قابلة للقياس والرصد كحقل كاسيمير-بولدر Casimir-Polder وانزياح لامب Lamb Shift. علماء الفيزياء لا يروقهم حتى نفس النوع من الآليات لتفسير أصل الكون بكامله من خلفية زمكان فارغ تماماً [3]
يمكن لأي أحد الإجابة بأنّ الجسيمات الافتراضية لاتأتي من لاشيء أو تظهر من العدم، لأنّها تظهر في خلفية الزمكان حيث تنشط قوانين الميكانيكا الكمية. في حين يبدو أنّ هذا الجواب يقوّض الزعم القائل بأنّنا نعرف من خلال الأرصاد والملاحظات أن لاشيء يمكن أن يوجد من لاشيء/عدم، حيث أنّ أقرب شيء إلى اللاشيء يمكننا رصده هو الزمكان الفارغ.
يمكننا أيضاً القول أنّ كل مانعرفه هو أنّ الجسيمات الافتراضية قد خلقها إله اختار أن يخلقها _ولأسباب مجهولة_ بطريقة قانونية وخافية عن العلماء تماماً، وبذلك تظهر تموّجات أو اهتزازات الفراغ بأنّها تلقائية. هذا ممكن. ومن الممكن أيضاً أنّ الصدمات الخشنة أو الضربات القاسية قد لاتؤدي إلى موت الشخص _ربما ما يحدث في الحقيقة هو أنّه كلّما تلقّى الإنسان ضربة قوية قاتلة على رأسه وأصيب بضرر دماغي قاتل، يكون هناك عنكبوت من بُعد فضائي آخر _وهذا ممكن ومحتمل بنفس درجة احتمالية الإله_ يختار ولأسباب مجهولة أن يقتل ذلك الإنسان بطؤيقة خفية وغير معروفة للعلماء والأطباء، لهذا فإنّ الإصابة بالرأس بطلق ناري أو سقوط مطرقة على الرأس أو الوقوع عن علو تبدو كحوادث قاتلة، لكن السبب الأساسي للموت أو القتل هو هذا العنكبوت الماورائي الغريب, إنّ ثمن التمسّك الجدّي باحتمال وجود أسباب وعلل خفية وغريبة على مستوى الآلهة والغيبيات مسؤولة عن وجود الجسيمات الافتراضية، هو جهل وانعدام معرفة بجميع مقولات السبب-النتيجة، ومن السهل فهم عدم وجود هكذا افتراضات واحتمالات غيبية في العلم.
2] هل تتطلّب عملية خلق شيء من لاشيء "خلقاً ذاتياً"؟
حجة أخرى ضدّ فكرة وجود شيء من لاشيء هي أنّ الفكرة القائلة "بشيء من لاشيء" هي أنّ هذه الفكرة تتطلّب وجود قدرة على الخلق الذاتي أو التسبّب الذاتي، وهذا مستحيل إذا أنّ لاشيء يمكن أن تكون له قوة أو قدرة على الخلق الذاتي قبل أن يكون موجوداً. على سبيل المثال، كثيراً مايصرّ المؤمنون بنظرية الخلق والتكوين أنّ القول بأنّ الكون "جاء من لاشيء" يعني القول أنّ الكون قد خلق ذاته. لكن هذا غير صحيح، وهذه الحجّة مغلوطة: إنّ فكرة أنّ الكون "جاء من لاشيء" لاتلزمنا سوى بالافتراض القائل بأنّه في لحظة ما لم يكن هناك شيء، وفي اللحظة التالية وُجِدَ الكون. ولاحاجة لنا للحديث عن وجود مسبّب، أو مسبّب ذاتي أصلاً.
# جدير بالذكر أيضاً:
أنّ فيلنكين[4] قد افترض _بناءً على فرضية تريون_ أنّ نظرية الكم وحدها سمحت بالانتقال من حالة الكون بدون هندسة (أوبدون نقاط) إلى حالة الكون الهندسي. ومع أنني لم أفهم كيف يمكن افتراض فكرة وجود "انتقال" من دون زمن، لكنني ذكرت النقطة هنا فقط للتنويه.
=================
[1] ستيفن هوكينغ، الثقوب السوداء والأكوان الطفلة، 1993، صـ46
[2] لي سمولين، حياة الكون، 1997، صـ82
[3] إب تريون، هل الكون تدفّق فراغي؟، 1973، صـ222-225
Tryon EP. 1973. Is the universe a vacuum fluctuation? pp. 222-225 in Leslie 1998.
[4] أ، فيلنكين، خلق الكون من لاشيء، 1982، Physics Letters 117B:25-28








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا وجود للمادة قبل الإنفجار الكبير
فيزياء ( 2015 / 2 / 7 - 16:59 )
في اللحظة (10 أس -46 ثانية) من عمر الكون لم يكن هناك شيء له (وجود فيزيائي)، بل لم يكن هناك (مكان) ولا (زمان) .

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah