الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب الأزمة وخطاب النهضة

ميثم محمد الحلو

2015 / 2 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في القاعِ الذي سقطت فيها مجتمعاتنا يتمايز نوعان من الخطاب.. خطاب الأزمة وخطاب النهضة.
يتطلّع خطاب المأزوم من زاويته الضيّقة التي يحاصره العالم فيها الى الهروب من الأزمة.. يتأمّل لوهلة فلا يجد الكثير من الخيارات فهو يفتقد الوعي اللازم لفهم مرحلته وكذلك لوضع الأهداف لتصحيح المسار.. لا يجد خطاب الأزمة إِلَّا أن يرتد الى الوراء أكثر فأكثر ولا يدرك أنّه في النهاية لن يجد خلفهُ إِلَّا الجدار.. وليس كذلك خطاب النهضة.. فالسائر الفاعل في هذا الخطاب يرى الأزمة ويدرك المشكلة ولديه الآليات وأمامه الأهداف.
تعترض خطاب النهضة تحديّات لا تقف عند حدود.. فمن عمق الأزمة ينبثق خطاب الارتداد الى الهويّات السابقة كقدرٍ لا مفرّ منه.. هنا تأخذ الهوّية شكلاً متطرفاً وإقصائيّاً إلى أبعد حدٍّ ممكن.. تتفرّع الهويّات وتنشطر بوتيرة ثابتة وتضيق على نفسها.. ويصطبغ كلُّ ذلك بصبغةٍ أسطوريّةٍ تارةً تأخذُ شكل الرجولة المتخيّلة في أفقها القديم..وتارةً بصبغةِ الزهدِ بمكتسبات الآخرين الحضاريّة.. كيف لا وقد توهّمَت الهويّة السابقة بامتلاك الحقيقة؟.. هكذا تختار الشعوب المأزومة أن تكسرَ طوقَ خذلانها بحلولٍ متوّهمة.. فما نرى في المحصّلة لا أكثر من خطابٍ طائفيٍّ وعنصريٍّ يحاول أن يفرّق ويجمع كما تقتضيه محدّدات الهويّة المتزايدة.
ولكن لماذا يختار خطاب الأزمة الإنقسام على نفسه كلّ مرّة؟ بل وينتج من هذا الانقسام أعداء جدد وحروب جديدة؟ يمكننا تحديد عدة عوامل لفهم هذا الانقسام الذي يبدو وكأنّه قدرٌ ملازم لهذا الخطاب.
أوّلاً: توجّه الخطاب الى الذات لا بمعنى نقدها وتحليل مسبقاتها ومحاكمة مسلّماتها بل جلدها ومحاولة فرز بعض أشلائها لتحميلها المسؤولية. نقرأُ في هذا السياق مثلاً التقسيمات الطائفيّة التي تدّعي كلّاً على حدة تمثيلها للتراث والمقدَّس وقذف الآخرين بالانحراف والخيانة والكفر ووضع المعايير الانتقائيّة المفصّلة على قدرها وحسب.
ثانياً: الهروب من المعارك التي لا يستطيع كسبها أمام الآخر المتفوّق فكراً وعقلاً وتقانةً وأخلاقاً والبحث عن هدفٍ ممكن ومعركةٍ يسيرة ضد خصمٍ في المتناول. نقرأ في هذا النسق التنكيل بالأقلّيات الدينيّة والطائفيّة والقوميّة.
ثالثاً: الربط الغير منطقي بين مكوّنات بعينها في الداخل والعدوّ الخارجي بلحاظ اشتراكها معه بالدين أو بالطائفة.. فيكون توجيه السلاح الى المصداق المفترض للمفهوم ( العدو). وهذا واضح في استهداف الأقلّيات الدينية من مسيحيين ويهود والأقلّيات الطائفيّة مثل الشيعة والعلويين والدروز.
رابعاً: تنزيه الهوّية الأصليّة المفترضة من أيّ نقص وربطها بالمقدّس وتبرير فشلها بمؤامرة كونيّة تتوسّل أدواتٍ من الداخل وهذا ظاهر في الإيمان الجمعيّ بنظرية المؤامرة.
خامساً: توهّم عدوٍّ داخلي خفيِ أشدّ وطأةً من عدوّ الخارج المجاهر كون الأوّل يهدم من الداخل مستفيداً من مزايا الهويّة واختلاطه بالمجموع ومن هذا التهم الجاهزة بالعمالة والجاسوسيّة والخيانة التي تطال كل فكر إصلاحي أو عقل نقدي أو أدب حرّ.
وفي المقابل نجدُ خطاب النهضة ناظراً الى عمق المشكلة ولا يمارس آليَّة دفن الرأس بالرمال ولا يبتكر العداوات الجديدة أو يبثّ الروح في عداوات الأمس.
في هذا السياق.
يبدو اصطدام خطاب النهضة بركامِ المقدَّس أمراً لا مفرّ منه.. وإن كان في بعض الأحيانِ ينسى الغايةَ ويقع في فخّ السجالات اللامتناهية التي لا تجدي.. ويتحوَّل فجأةً إلى أصوليّةٍ جديدة في قبالة الأصوليّات الأخرى المنهمكة في صراعٍ لا ينتهي.
عندما يجتاز خطاب النهضة المناطق المحرَّمة في النصوص المقدّسة الأوّلية والثانوية.. يتوجّب أن يخطو بحذرٍ.. بل ويتجنَّب الاصطدام بها إِلَّا بقدر الضرورة.. فليس الانغماس في الصراعات الهامشية إِلَّا فخّاً يتطلّع له المأزومون الهاربون من الواقع الى الوهم.. يستدرجون الخطاب المضاد الى معارك هامشيّة غير مكلّفة للإسلاميين كونهم في معارك أبدية.. هكذا تستهلك السجالات الجانبية جدوى التنوير وتستعدي عليه المجموع الغارق بالتبعيّة.
تُمارس التيّارات الإسلاميّة عموماً نوعاً من التكيّف تطرّفاً واعتدالاً ودوغمائيّةً وبراغماتيةً مستغلّةً امتلاكها للنصّ المقدَّس تأويلاً وتفسيراً وذرائعيةً.. الأمر الذي تخفق فيه مراراً حركات التنوير الخجولة.
ينكشف الغبار في هذه المواجهة المتكررة عن فشل مزمنٍ لمحاولات التنوير التي لم توظّف أدواتها بالشكل المطلوب وتستهلك طاقتها خارج المغزى وتنخذل أمام ترسانة النصوص الملوّحة بالتكفير والتفسيق وثنائيّة المقدَّس والمسدّس.
ومن العوامل التي تعيق مشروع النهضة أنّ خطاب هذا المشروع توفيقيّ تلفيقيّ في الغالب.. فهو يمشي على استحياء تسكنه مخاوف الاتهامات ويحاذر من الخطو على ألغام المقدَّس محاولاً تأويلها ووضع المكياج عليها دون تطبيق النظم المنهجيّة الصارمة على النصوص ودون وضوح الروح النقديّة المعاصرة.
وإذا كانت التيارات الدينيّة تقول أنّ الحل هناك في الخلف حيث يقبع النص التاريخي بفهمه الأوّل.. تُمارس حركات التنوير نفاقاً غير مجدٍ لإثبات حسن النيّة وسلامة الطويّة لتبعد عنها تهمة الإلحاد الذي ينتج لا محالة تفرق الجمهور عنها.
تتفاوت أدوات التلفيق والتوفيق التي يتوسّلها التنويريون بين المجاملة واللجوء الى المعاجم اللغويّة لاستدراج معنىً أخفّ وطأً من المألوف وفي أقصى مواقفها المواجهة تلجأ الى إمكانية الاجتهاد للمصلحة العامة.. وهذه الأخيرة لا تجدي في الغالب لأنّ العامَّة لا يأخذون دينهم إِلَّا من المتلبّسين بالتراث وكهنة المقدَّس خصوصاً إذا كانت الاجتهادات والتأويلاتُ كيفيّةً بلا ضابطة.. و لا معيار ولا منهجيّة ثابتة.
في النهاية يبقى السير في درب التنوير والعقلانية كالخطو في حقل ألغام.. لكن هناك من الشجعان وفدائيي الفكر ممن طرحوا مشاريع واضحة المعالم وفق منهجيّات حديثة ومعتبرة مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.
ومن الاتهامات الشائعة لحركات التنوير انعزالها عن الجمهور وإفراطها في النخبويّة. ورغم صدق هذا الاتهام أحياناً لكن الملاحظ أنّ فحوى هذا الاتهام ناجم من العقليّة الكسولة في مجتمعاتنا لذلك يكاد يُتهم كل نشاط عقلي مهما كان يسيراً بأنّه نخبوي على عكس ما نراه في المجتمعات المتحضرة فتجد الندوات الفكرية والعلمية محطّ اهتمام العامَّة.. وهذه الحال كانت منذ أكثر من قرنين من الزمن في أوربا حيث كان العلماء والمفكرون هم النجوم الذين تتابعهم العامّة وترصد نتاجاتهم أولاً بأول.
وفي النهاية نقول .. ما زال أمام خطاب النهضة طريق طويلة ليقطعها.. مع كل العوائق المصطنعة والمعارك الجانبيّة قبل أن يصل الى هدفه الذي لا يتم الا بفتح العقول وتحريرها من سلطة المأزومين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكوين- بمواجهة اتهام -الإلحاد والفوضى- في مصر.. فما هو مركز


.. الباحثة في الحضارة الإسلامية سعاد التميمي: بعض النصوص الفقهي




.. الرجال هم من صنع الحروب


.. مختلف عليه| النسويّة الإسلامية والمسيحية




.. كلمة أخيرة - أسامة الجندي وكيل وزارة الأوقاف: نعيش عصرا ذهبي