الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راهن الفلسفة ورهان الفكر النقدي

تفروت لحسن

2015 / 2 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعرفنا الفلسفة بنفسها، منذ أول لقاء أول وأولي بها، على أنها " محبة الحكمة ". وهذا معناه أن الفلسفة ليست هي امتلاك للحكمة ولكن سعي ومجاهدة لحبها. فخلافا للمعارف المطلقة التي تدعي اليقين والحقيقة، تدعونا " محبة الحكمة " إلى الاقتراب منها والاقتران بها. وهذا لا يحصل إلا بشروط، منها :
- التحرر من الوثوقيات،" الدوغمائية " و " الدوكسا. فالباحث عن الحكمة عليه أن يكون عقلا حرا.
- الاعتقاد في الاختلاف وعدم الجمود على رأي أو فكرة. فالاختلاف في الرأي فضيلة الفلسفة.
- عدم التحيز، كالتشيع للآراء والمذاهب والتقرب لأصحاب التجلة بالثناء والمدح.
- التحلي بالصبر والأناة، صبر المحب والعاشق. فالمحبة تتطلب التروي، أي امتلاك الدربة الجينالوجية والتقنية الأركيولوجية في تعقب المحبوبة – الفلسفة -.
- التوفر على خصال المحارب الذي تحس الفلسفة بالأمان وهي تحتضنه. فالفلسفة امرأة، وهي لا تحب إلا رجلا محاربا، يدافع عنها ويستريح عند تحصيلها.
- اعتبار الفلسفة تجربة حياة وليس فقط تكرار لأفكار محنطة، وملخصات لانساق، أي جعل الفلسفة فنا للعيش ومنهجا للحياة.
إذا كانت شروط التفلسف تتناسل، فإن تحصيلها لا يكون بغرفها واستهلاكها، فهي تكتسب بالمراس، بالتعلم، بالمعاشرة، بالمحاولة الفلسفية. هذه التربية الفلسفية هي التي تعلمنا النظر والفكر، القراءة والكتابة، الحياة والموت...هنا تتضح رهانات الفلسفة باعتبارها "محبة الحكمة ".
ما يجعل الفلسفة متميزة عن المعارف الأخرى هو أنها تسعى لتربية الفكر النقدي، عند الطفل كما عند الشيخ. لذلك لا يجوز للشاب أن يقول بأن وقت الفلسفة لم يحن بعد، كما لا يجوز الشيخ أن يدعي أن وقت التفلسف قد فات. فالفلسفة ملك مشاع حتى بالنسبة للأطفال. لهذا نجد اليوم، في بعض الدول، صيحات تدعو إلى الفلسفة للأطفال وللمراهقين وللجميع. وإذا كان الجميع في حاجة للفلسفة وللفكر النقدي، فإن ذلك راجع إلى أن " محبة الحكمة " تستند، في سعيها لطلب الحقيقة، إلى درجات متفاوتة من العقلانية النظرية والعملية. هذه العقلانية التي تؤمن بشرعية الاختلاف وبما يتضمنه من أساليب الإقناع والاعتراض. فالحديث عن عقلانية الفلسفة هو حديث عن الفكر النقدي وانفتاح عليه. كما أن القول بملازمة الفكر النقدي للفلسفة، معناه الدعوة إلى محاربة الوثوقية بكل أشكالها والعنف بكل ألوانه، الرمزية والمادية... يظهر أن الفلسفة هي التي تؤصل للعقلانية الاجتماعية، التي هي مطلوب التربية، من خلال التربية على الفكر النقدي، ومن ذلك مثلا التربية على الاستدلال. ف " الاستدلال هو سبيل عقلي استرضائي يخالف القوة المادية الاستعلائية، بحيث يستمد قوته من إعمال الفكر. وبذلك فهو يناقض الإكراه والسلطة التي تستمد قوتها من الموقع المادي الذي تنزله.
ويتحدد الاستدلال، باعتباره أحد وجوه الفكر النقدي، أو ما ينوب عنه في الاصطلاح من ألفاظ، مثل النظر، الاعتبار، مدارك العقول...بأنه عملية فكرية تعتمد الانتظام والتنسيق، وتنطلق في اتجاهات انتقالية اعتمادا على قواعد متأصلة في علم المنطق، بأقسامه وأصنافه. وتختلف أشكال الفكر النقدي الاستدلالي بناء على تنوع المعايير. فنجد استدلالات طبيعية أو صناعية بحسب علاقة الصورة بالمضمون، أو استدلالات يقينية أو ظنية بحسب طبيعة المقدمات، أو استدلالات برهانية أو جدلية – حجاجية – وفق اتجاه الاستنتاج، او اظهارية او اضمارية تبعا لحضور المقدمات، كلها أو بعضها. أو صحيحة أو فاسدة بحسب القويم الماصدقي أي التأويل الدلالي.
الحديث عن الفكر النقدي، أو على الأقل عن الاستدلال كأحد أعمدته، راجع إلى كونه اصل المناهج الفلسفية. وذا صح أن كل مضمون معرفي عامة وفلسفي خاصة لا يقوم ألا على مناهج ووسائل تمكن من بناء مضامينه بناء محكما، بحيث لا يتأتى استيعاب تلك المضامين دون الإحاطة بتلك الآليات، صح معه أن الاستدلال داخل في المناهج، إن لم يكن اصل من مناهج الأدلة. وتشهد النصوص الفلسفية على أن الفلاسفة يسلكون في بنائها أصنافا استدلالية متنوعة. فهم يعتمدون في نصوصهم على عرض دعاوى والاعتراض على أخرى. فالفيلسوف الذي يؤمن بشرعية الاختلاف، بالعقل والتعقل، ينطلق من مقدمات وملزومات ليصل إلى نتيجة أو نتائج، مع العلم أن تلك الأدلة قد تكون إثباتا لدعوى أو أطروحة، فيكون الاستدلال تدرجيا، آو تقدا ونقضا لمقدمات سابقة، فيكون الدليل تقهقريا. وأحيانا يلجا الفيلسوف إلى الاعتماد على أقصى درجات التجريد، فنكون أمام البرهان الصوري، وقد يوظف آليات اللغة الطبيعية فيكون استدلالا تداوليا حجاجيا...
وكيفما كانت الآليات المعتمدة في بناء الدعاوى والاطروحات الفلسفية، فإنها تصنف كفكر نقدي، فكراصله هو الاستدلال. هذا الدليل الذي ليس من الضروري أن يكون مغلقا، أي برهانا، كما ليس من الضروري أن يكون دائما صحيحا. لذلك، فالنقض والنقد والاعتراض، أو الإبطال والتهافت أو إثبات الدعاوى الفلسفية ليس إلا آليات تؤكد الاختلاف والاستقلال في الرأي والاختيار في بناء المواقف. ومن تم فالفلسفة تدعو إلى الفكر النقدي وإعماله، بل تؤسس للاستلال والتدليل وتدعو إليه.
وهكذا، فان مطلوب الفلسفة هو تأسيس خطاب تتداخل فيه الذوات وتتفاعل هادفة إلى معرفة مشتركة لا يضبطها إلا مبدأ الإقناع والحجة والدليل، ولا تتأصل إلا بين العرض والاعتراض، والنصوص الفلسفية تشهد على ذلك.
ولما كان غرض التربية الفلسفية هو تكوين إنسان حر قادر على الاختيار واتخاذ القرار دون تسلط ولا إكراه، بل استنادا إلى العقل الفكر النقدي، فان الفلسفة هي التي تؤصل لهذا الفكر النقدي، وتقاوم لأجل بقائه. وهذه فضيلة الفلسفة باعتبارها " محبة الحكمة ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل