الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذبح 21 برئ في القرن 21

محمد زكريا توفيق

2015 / 2 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات




ظننت أن حكاية الغزو والقتل باسم الرب المعبود هي حكاية سخيفة من حكايات العصور المظلمة، حالكة السواد. حسبتها قصة عفنة عفا عليها الزمن. حدوته من حواديت الهبل بتاع زمان.

لكن للأسف، يا ولداه، لازلنا يقتل بعضنا البعض بدم بارد في وضح النهار وعلى قارعة الطريق، وما فتئنا نذبح الأبرياء بدم بارد على شواطئ البحار. ومنفككنا نقوم بذبح الأبرياء دون ذنب أو جريرة.

إن بحثنا على ظهر المعمورة عن أناس غلابة مسالمين، يسمعون الكلام و يمشون جنب الحيط، يكدحون بإخلاص علشان لقمة العيش، ويلتزمون بالحب والنبل، مثل هؤلاء البسطاء من الأقباط المسيحيين، الذين ذبحوا بمنتهى الخسة والنذالة والغدر، فلن نجد.

وإذا بحثنا عن نتانة وخسة ونذالة وإجرام بين البشر أسوأ مما فعله بتوع داعش بهؤلاء، فلن نجد أيضا. يا أخي، بعد مشاهدتي لهذا الفيديو القذر، شعرت بحقارة هذا الجنس البشري الذي أنتمي إليه. ولو استطعت أن أتبرأ من انتمائي لهذا الجنس، لفعلت بدون أدنى تردد.

فهل نحن أمام دين أو عقيدة فكت صواميلها ونعمت فراملها واختلت مواتيرها؟ يعتنقها مجموعة منحطين خلقيا، أو مرضى نفسيا، أومخلولين عقليا، أم ماذا؟

يا سيدي، عندما كنت طفلا، كان لدينا معزة، أي والله معزة، لزوم مجزرة العيد الكبير. كنت وأخواتي الصغار نعتبرها فردا من أفراد العائلة. نطعمها بأيدينا ونعتلي ظهرها، ونسحبها من أذنها من غرفة لغرفة. وكانت تأنس لنا ولا تجزع من هزارنا السخيف معها.

في يوم أسود رهيب، صباح يوم عيد الأضحى. وهو العيد الذي نحتفل بيه بذكرى فداء إسماعيل، أو إسحق عند اليهود، بكبش سمين.

هو نفس الكبش الذي قدمه هابيل قربانا للرب، وظل في الجنة يرعى ويمرح أربعون عاما، إلى أن سحبه ملاك الرب من قرنه، ونزل به لزوم الفداء.

في هذا اليوم، نظرت من نافذة البيت، فوجد الجزار يسير في الشارع، قادما إلى بيتنا، بهدومه الملطخة بالدماء، وكل أنواع السكاكين والخناجر والسواطير، تتدلى من حزام جلدي يلتف حول وسطه.

لم يكن من الصعب معرفة ما سيحدث. إذ بي أبكي بكاء لم أبكه في حياتي كلها. ظلت دموعي تنهمر مدرارا، بل تهطل كالمطر الغزير، وازدادت حدة واختلطت بصراخ وبكاء أخواتي، عندما سمعنا الصرخة النهائية لصديقتنا المسكينة، التي وثقت فينا، ولم تكن تدري بأي ذنب ذبحت.

ولا تعلم أن هذا سيكون مصيرها البائس وحظها العاثر في الحياة. فهي لم تقترف ذنبا سوى كونها معزة. ربنا خلقها كده. وليس هذا ذنبها.

في حادثة أخرى مشابهة لازلت أذكرها، كنت شابا أدرس بالجامعة. أحضر والدي لنا أرنبة من النوع الفرنساوي، فروها أبيض ناصع وعيناها حمراوتان. شكلها جميل تحفة. أخذ إخوتي الصغار يلعبون معها. أطلقوها بالشقة، فكانت تأتي لتناول النباتات الخضراء من أيدينا وهي تغمز بأنفها وتهز شواربها.

كان إخوتي يفردون سجادة الصلاة على الأرض، فتأتـي لتركب على السجادة، وهي تعرف أنهم سيقومون بجرها على بلاط الصالة، ومن غرفة لغرفة. كانت تحب هذه اللعبة جدا، وكنا سعداء بهذه المخلوقة البريئة الجميلة، وسعداء بوجودها بيننا سعادة لا توصف.

في يوم أسود رهيب آخر، كنت عائدا من الجامعة. اقتربت من باب الشقة بالدور الرابع. فشممت رائحة ملوخية وطشة الكسبرة بالثوم والسمن، التي لا تخفى على أحد. ضغطت على جرس الباب.

فتح لي أخي الأصغر وهو يبكي. ووجدت باقي إخوتي يجلسون صامتين كأن على رؤوسهم الطير، منكسينها إلى أسفل. كأنهم في صوان عزاء. نظرت أبحث بعيني عن الأرنبة، على أمل أن أجدها كالعادة.

فتحت باقي الغرف أبحث عنها. عندما لم أجد لها أثر، ارتفع ضغط دمي وزادت نبضات قلبي، وتجرأت لأسل إخوتي: "فين الأرنبة؟". لكن الجواب جاء بالبكاء والعويل والنهنهة: "ماما دبحتها، إهئ إهئ إهئ".

بالطبع كان يوما لا ينسى من عمر البشر. يوم يشيب له الولدان. لمت والدتي وغضبت غضبة مضرية، وأقسمت، أنا وباقي إخوتي، أن لا نذوق الأرانب بعد اليوم. فكيف نأكل أصدقاءنا ومن كنا نعرفهم ونلعب معهم. ومن كانوا يثقون فينا ويضعون مصائرهم بين أيدينا؟

الحكاية الثالثة، حدث لي هنا في مدينة نيويورك. كنت عائدا إلى البيت، فوجدت مجموعة أطفال أمريكان يتجمعون حول طائر صغير سقط من العش على الرصيف. كانت معي جريدة النيويورك تايمز، فعملت منها شبه قرطاس، ووضعت فيها الطائر.

عندما وصلت البيت، وجدت الطائر الصغير مكسور، لا يقوى على الوقوف. وضعته في صندوق ورق يناسب حجمه، ثم تركت الصندوق في الشرفة الخلفية للبيت. ووضعت أمامه بعض الحبوب والماء. لكنه رفض تناول أي شئ.

إلى هنا والأمور تجري عادية. إلى أن رأته ابنتي الصغيرة. فقالت لا يا دادي، لازلم توديه للدكتور. "دكتور إيه يا بنتي؟ ده جدي عاش ومات ولم ير دكتور في حياته." أجبت بتعجب.

لكنها استمرت في البكاء، وانضمت لها أختها الأصغر منها. وعملوا مناحة على الطائر الجريح. ولازم أوديه للدكتور، وحالا قبل ما تحصل له مضاعفات.

بمناسبة حوادث السقوط والكسر، تذكرت قصة أخرى، عندما كنت أعمل في مصر في أحد المؤسسات الحكومية. كان معنا موضف صغير الدرجة متوسط السن. يسكن في الدور السادس بحي شبرا. جاء يوما وهو متربط ومتجبس، وذراعه اليسري مرفوعة ومربوطة بشاش حول رقبته.

استلم مرتفه، يوم القبض، وقرر أن يفاجئ زوجته وأولاده الخمسة. عطف على الفكهاني بجوار البيت أثناء عودته، وقام بشراء بطيخة كبيرة، تكفي الأفواه الجائعة التي تنتظره في شقته فوق في الدور السادس.

شال عبد المنعم أفندي البطيخة، وصعد بها سلم العمارة بصعوبة. العمارة لم يكن بها مصعد. عندما وصل إلى الدور الخامس، زلت قدمه وسقط هو والبطيخة على السلالم. يقول الأستاذ عبد المنعم والرواية له:

"رحت يا أفندم معبط على البطيخة. ونزلت أتدحرج أنا وهية السلالم، لغاية ما وصلت للبسطة العريضة. ده كله وأنا مجمد فيها بإيدي وأسناني. قمت أتحسست البطيخة، فوجدتها سليمة. قلت الحمد لله. وبعدين بدأت أتـحسس جسمي اللي تدشدش. موش مهم جسمي يا أفندم. المهم إن البطيخ سليمة".

تذكرت حكاية الأستاذ عبد المنعم والبطيخة، وأنا استمع لبناتي باستغراب لإصرارهما على إرسال الطائر الجريح للطبيب. وتحت الضغوط العائلية، ذهبت إلى دليل التليفون، أبحث عن طبيب للحيوانات بالمنطقة. فوجدت مستشفى مخصوص للحيوانات، على مسافة نصف ساعة بالسيارة.

أخذت المصاب في صندوقه، وأخذت أيضا البنتين أصحاب القلوب الرحيمة، وذهبت إلى المستشفي. استقبلتني غادة في منتى الرقة والجمال، عينان زرقاوتان وشعر أصفر. أخذت مني الطائر الجريح، وسألتني هل هو طائرك أم من الطيور البرية.

قلت لها ما الفرق؟ أجابت أنه لو كان الطائر ملكي، سأقوم بتسديد فاتورة العلاج. أما إذا كان من الطيور البرية، فسوف يعالج على حساب الحكومة، ثم يطلق سراحة إلى الفضاء الفسيح. وعلمت منها أنه يمامة صغيرة مكسورة الساق والجناح.

هذا يا سادة ما يسمى بالرفق بالحيوان، فما بالك بالإنسان؟ وهل يوجد شئ مماثل في عالم البني آدمين؟ هذه بعض أقوال بعض الحكماء عن قسوة القلب والرفق بالحيوان:

"القسوة تأتـي من الضعف" - سينيكا

"من يقسو على الحيوان، يقسو أيضا على الإنسان" - عمانويل كانط

"الإنسان هو أقسى الحيوانات" - فريدريك نيتشة

"افتراض أن الحيوانات ليست لها حقوق، والوهم بأن معاملتنا لها لا يخضع للقيم الخلقية، هو دليل إثبات على قسوة حضارتنا
الغربية". - شوبنهور

"معاقبة من يقترف جرما ضد الإنسانية، رحمة. والعفو عنه جريمة لا تغتفر" - روبسبير

"الخوف هو السبب الرئيس للخرافات، وأحد أسباب القسوة." - بيرتلاند راسل.

"العالم مكان مرعب، قاسي، لا يرحم، قاتم كحلم ردئ. لا يصلح للسكن. المكان الوحيد الذي يمكن أن تجد فيه الشفقة والراحة والسعادة والحب، هي الكتب." - كورنيليا فنكي

ليست المأساة الكبرى في قهر وقسوة الأشرار، ولكن في صمت وتجاهل الأخيار." - مارتن لوثر كنج

سيجموند فرويد، يجد صعوبة فى تفسير مذابح الحرب العالمية الأولى. لذلك، هو يفترض وجود غريزة الرغبة فى الموت داخل عقولنا.

بسبب قيام الحرب العالمية الثانية، وضرب اليابان بالقنابل الذرية، يعتقد كلا من "كونارد كورنز" و"روبرت آردرى"، أن الإنسان ينحدر من سلالة قاتلة من القرود، تعشق العنف.

أما شيكسبير، فنجده يتساءل: "هل هناك شيء في الطبيعة، يجعل هذه القلوب مثل الصخر؟"

لكن ما فعلته داعش بالغلابة المصريين يفوق الوصف. جعلني أتساءل أيضا، ما الذي يجعلهم يذبحون بدم بارد عمال غلابة لم يؤذوا أحدا.

بؤساء، يعيشون بالجملة في غرف ضيقة، ينامون على الأرض، ويحرمون أنفسهم من الأكل والشرب وكل شئ، حتى يستطيعون ادخار بعض النقود، لإرسالها لزوجاتهم وأطفالهم وأهاليهم. يعملون بإخلاص، ويعاملون كالعبيد في الغربة.

هل هذا الإجرام المتناهي، سببه الإيمان العميق والإخلاص للرب المعبود؟ وكيف تعبد إلها يأمرك بالقتل؟ وأي نوع من الآلهة هذا الإله؟

ما الثمن، في الدنيا والآخرة؟ ارواء شبقك الجنسي من الأبكار والحور العين؟ يا أخي الله الغني عن هذه الجنة، التي تنزع آدميتي وتحولني إلى أدنى منزلة من الحيوان. يا أخي الله الغني عن هذا الرب الذي يأمرني بقتل الأبرياء، أو بالقتل بصفة عامة.

أي نوع من الأرباب هذا الذي تعبده يا أخ؟ وعامل في نفسك كده ليه، ومبهدل شكلك ومطول دقنك وحاطط مراتك في كيس ليه؟ كل ده علشان الحور العين؟ هل فكرت ولو لبرهة، أن الرب الحقيقي لا يأمر بالقتل والذبح وسفك الدماء بدم بارد هكذا؟

هل تستطيع أن تنام قرير العين يا أخ، وأنت تعلم أنك قد قتلت أبرياء، لا يطلبون من الدنيا سوى أن يتركوا لحالهم؟ نعم تفعلها. فأنت فاقد الإحساس والشعور والضمير والرجولة. وشكرا لشيخك وأميرك وفهمك لدينك، الذي حولك إلى مسخ وآلة قتل ومخلوق فرانكشتاين بدون عقل.

والله لو استطعت التبرؤ من الانتماء للجنس البشري كله، والتنازل عن شخصيتي كإنسان، لفعلت. احتجاجا على هذا الفعل الدنئ المنحط، الذي لا يقوم به إلا مثل هؤلاء الأوباش والحثالة البشرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أين إنسانيتك من الضحايا في افريقيا الوسطى؟
سني ديول ( 2015 / 2 / 19 - 21:09 )
ما فعلته داعش جريمة, وهي مخالفة لصريح الإسلام, قال تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما و(أسيرا) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).

لكن هناك الكثير من البشر يُقتلون في افريقيا الوسطى بإسم يسوع والصليب؛ فأين أنت منهم؟ ام أن الدم المسيحي اغلى من الدم الإسلامي؟ .
انها العنصرية المقيته!.


2 - إلى سني ديول
محمد زكريا توفيق ( 2015 / 2 / 19 - 22:56 )
أخي العزيز سنى ديول، والله يا أخي أنا ضد الظلم في كل مكان. وأنت تظلمني بتعليقك هذا. أيام غزو العراق، كتبت مقالا هنا عن جورج دبلو بوش يودي السجن. المقال هنا منشور في هذا الموقع. أنا هنا ضد الظلم في كل مكان وزمان، وضد من يستخدمون الدين لنزع الرحمة والشفقة من قلوب البشر. الأديان كلها رحمة وشفقة وعطف يا أخ سني. والا إيه؟ شكرا لمرورك الكريم.

اخر الافلام

.. رئيس الوزراء أتال يقدم استقالته للرئيس ماكرون الذي يطلب منه


.. مدير الشاباك الإسرائيلي يتوجه لمصر لمواصلة المحادثات بشأن وق




.. قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على جنوبي غزة وسط توغل بري وإطلاق ل


.. قراءة عسكرية.. فصائل المقاومة تكثف قصفها لمحور نتساريم.. ما




.. هآرتس: الجيش الإسرائيلي أمر بتفعيل بروتوكول -هانيبال- خلال ه