الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (75)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2015 / 2 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إلى الصديق نور الدين الناجي

ولادة ماركس في كياني

أعلم جيدا متى ولد ماركس في كياني، أذكر ذلك اليوم كأنه هذه اللحظة بالضبط، كان طفلا صغيرا في عينيه الرفض، وفي عقله الوعي، وفي فكره الجدل، وفي واقعه الحركة . حصل هذا في خريف 2007 ضمن درس الفلسفة، أعترف اعترافا صريحا بأنني كنت جدارا صلبا في وجه المد الفلسفي، ولكنني أقر بأن رفضي يشبه رفض امرأة لإغراءات رجل، تدعي الرفض لكن في دواخلها القبول. في أول احتكاكي بالفلسفة كنت معارضا مشاكسا لأستاذ الفلسفة، ففي درس الطبيعة والثقافة أبرز الأستاذ أن اللغة تخص الإنسان وحده دون الحيوان، وهذا ما أثار غضبي، فاعترضت عليه بالقول : (أن النبي سليمان كان يحاور النمل، وهذا دليل على أن النمل يتكلم، فيكفي أن القرآن تحدث عن هذا، إذن الحيوان يملك اللغة شأنه في ذلك شأن الإنسان)، لكن هل الحيوان يكتب و يرمز يشفر ويتواصل ؟؟؟ هل يضفي على الأشياء معنى ؟؟ يا لتفاهتي !! إنها تفاهة تلميذ مغربي، ديني التنشئة، قطعي الأحكام، نصوصي المعرفة، سلفي الفهم. لقد علمونا أن كل شيء في القرآن، فيكفي النظر فيه يمكن أن تعرف كل شيء، لكن لم أكن أعرف شيئا، لقد كنت منقطعا عن الواقع، قارئا للقرآن باعتباره الكتاب الوحيد في منزلنا، راحلا صوب السماء أبحث عن الفردوس، مترددا على المساجد متمنيا الموت، راغبا في الالتحاق بالحياة الباقية، وفي الآن نفسه طالبا للغفران كأنني ارتكبت ما لا يحصى من الذنوب. إن رجال الدين في المساجد يعلمون المصلين طلب الغفران كأنهم مجرمون، مع العلم أن هؤلاء المصلين محرومون من كل شيء في الحياة، إنه تكتيك التأثيم لجعلهم في السماء عوض الأرض، وفي هذا الإطار يعتبر كتاب (حوار الماضي والمستقبل) لعبد السلام ياسين، ثاني كتاب قرأته في حياتي، مثالا ساطعا لعقلية التأثيم المستشرية في مجتمعنا، فهو يزعم أن مشكلتنا الحضارية راجعة لبعدنا عن السماء، أي أننا تنكرنا لحق الله وحق السلف الصالح، ومن ثمة فنحن منغمسون في مجتمع جاهلي نتيجة تأثرنا بالحضارة المادية الغربية، وبالتالي فنهضتنا الحضارية تقوم على تكريس حق الله وفق السلف الصالح الذي كان يطبق الشرع، لذا فنحن آثمون حسب صاحب الكتاب، لكن كيف يمكن أن نتقدم مع تكريسنا لحق الله على حساب حق الإنسان ؟؟ أليس تطبيق الشرع وما يتضمن من تكريس حق الله تجميد لعقل الإنسان ؟؟ فكيف يمكن أن ننهض وعقل الإنسان معطل ؟؟؟ ألا نفهم من تكريس حق الله هجرة نحو السماء ؟؟ فكيف يمكن أن نستوعب الواقع مع إلغائنا لهذا الواقع وهجرتنا صوب السماء ؟؟ أليس تطبيقنا للحاكمية الإلهية شرعنة لتعسف رجال الدين والحكام على المحكومين ؟؟؟ هنا يظهر بؤس الفكر الديني الذي يستعدي الفكر الفلسفي المنطلق من الإنسان، والمتجه صوب واقعه لاستنطاقه وفهمه، وفي هذا الصدد لم يتوان صاحب الكتاب المذكور أن يشن هجوما قدحيا على الفلاسفة كتعبير عن العهر المعشش في عقول رجال الدين، فهذا الفيلسوف نيتشه الذي أعلن موت الإله إيذانا بميلاد الإنسان لم يسلم من الاتهام بالجنون، والسب والقذف والويل الثبور، ليس عيبا أن ينتقد رجل الدين الفيلسوف، لكن النقد يجب أن يكون متوجها نحو المعرفة، لا أن يكون سبا وقذفا وإساءة شخصية، فمن حق رجل الدين أن يوضح موقفه، وأن ينحو المنحى الذي يريد، ولكن السب مرفوض. إن الإله الذي أعلن نيتشه موته هو إله الديانات الإبراهيمية المجبول بالدم والقتل، فلكي تصبح للحياة معنى، وللواقع قيمة، وللأرض اعتبار ينبغي أن يولد الإنسان، ويتفتق الإبداع، وتسقط الأوثان وينزل الإله من السماء، ويرحل مع الإنسان نشدانا للكمال، غير أن صاحب الكتاب ليس في عقله إلا الشر، والتغني بالبكاء، والبحث عن السراب. إن الله لم ينصب أحدا لكي يدافع عنه، لكن الفكر الديني يعتبر نفسه وصيا على البشر، وعلى الله نفسه، وهذا ليس إلا السطح، فالهدف المبيت هو الهيمنة على الناس باسم الله، لكن الأمر يقتضي استلابهم، من هنا يفهم عداء الفكر الديني للفلسفة كونها تساؤلا واندهاشا وتشكيكا واستنطاقا للواقع، فالفيلسوف دائم السؤال، لا يقنع بالفكرة حتى يقلبها على وجوهها المختلفة ويتحرى من تمام صدقها، وهذا ما يقض مضجع كل من هو ديني في تفكيره، لعلني أتحدث عن نفسي قبل 2007، قبل أن تداهمني الرعشة الفلسفية، فرغم أنني قضيت سنة سيئة في مادة الفلسفة، ولم أحصل إلا على نقطة متواضعة، فإن هذا لم يمنعني من استغوار هذا العالم الملغز، قبل أن أقبل على دراسة الفلسفة سنة 2006 سألت عمي عن معنى الفلسفة، فقال لي : (الفلسفة زندقة وثرثرة وكلام فارغ)، وهذا دفعني إلى مواجهة الأستاذ بها، لكن ها هو يصدمني بالقول :(الفلسفة حب المعرفة)، فكيف للمعرفة أن تكون زندقة وثرثرة وأنا التلميذ القروي الذي قطع العشرات من الكيلومترات من أجل المعرفة ؟؟ لم يتوقف الأستاذ عند هذا، بل أضاف :(الفلسفة هي السلاح النظري للجماهير المقهورة)، (الفلسفة توقظ من السبات الديني والعقلي)، هنا بدأ فكر عمي يتهافت كأوراق الخريف، فهو من منحني كتاب (حوار الماضي والمستقبل)، يبدو لي أنه كان سلوانا له بعد طرده من إحدى الشركات، لكن الذي لم أفهمه هو لماذا ذم الفلسفة رغم أنها السلاح النظري للجماهير المقهورة (العمال نموذجا) ؟؟ وعلى الرغم من الحب الذي بدأت أكنه للفلسفة، فقد ظلت رواسب التنشئة تفعل فعلها : ألست أنا الطفل الذي كان يحث أطفال المدرسة على عدم الدخول إلى المسجد لشرب الماء وهم غير متوضئين رغم عطشهم الشديد وبعدهم عن منازلهم وافتقاد المدرسة للماء ؟؟ ألست أنا الذي كان يؤذن لصلاة الفجر ويقرأ القرآن جهرا إلى جانب الفقيه وينهي رفاقه المراهقين على عدم قتل النمل والخنفس ؟؟ ألست أنا الذي كان يوقظ التلاميذ الداخليين لأداء صلاة الفجر والتوضؤ بالماء البارد في عز الشتاء ؟؟ ألست أنا الذي يؤم الناس في الأعراس والأتراح ؟؟ كل تلك الأنوات هي أنا قبل 2007، كانت تنشد طريق إبراهيم المملوءة بالشعائر والطقوس، لكن طريق الله ليست واحدة، كل الطرق تؤدي إلى الله، أنا اخترت طريق الفلسفة والإنسان والتسامح والاختلاف والنقد والسؤال، لا حاجة لكي أستأذن موسى أو محمد أو عيسى. رفيقي هو ماركس، لكنه لن يسلم من النقد والسؤال، كلنا ننطلق من الواقع، لكننا نختلف في استنطاقه في عالم حواري ملؤه التسامح، في جو رحب ملؤه الفلسفة ناكرا كل قطعية، كل عنف، إن من يملك الحجة هو الذي ينتصر، لكن انتصاره لا يعني ممارسة للسلطة، بل هي دعوة للتفكير والتأمل لمحاججة الرأي المنتصر على ضوء الواقع المتغير، وهذا ما كرسه نص بول ريكور (باعتباره أول نص قرأته وفهمته) حول الايديولوجيا الذي ظل ماثلا أمامي وهو يتحدث عن وظائف الايديولوجيا في تشويه الواقع من طرف الطبقة المهيمنة على الدين والإعلام والسياسة والدولة، في هذه اللحظة ولد ماركس معلنا أفول الفكر الديني. يعتبر ماركس أقرب إلى ذاتي من أي فيلسوف آخر، لكن لم أستوعب الأمر إلا في سنة 2009، وذلك حين أصبحت أقوم بعملية الإسقاط، فكل أطروحة كنت أسقطها على واقعي، فلم أجد إلا ماركس حينما قال : (إن الفلسفة تسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره)، (يقوم المجتمع على الصراع الطبقي)، (الدين هو زفرة الإنسان المقهور)، (ليس التاريخ سوى تناحر بين الغني والفقير)، (الدين وعي موهوم صادر عن وعي مقلوب لعالم مقلوب)، (ينبغي للجماهير الكادحة أن تتسلح بوعي طبقي للثورة على البورجوازيين)، حقا إنها كلمات مزلزلة أيقظت في داخلي تصالحا مع واقعي، وأنا القروي المهمش المحروم من التنمية، المعزول عن الخدمات الأساسية، الذي تعرض والده للطرد من شركة التنمية الفلاحية سنة 1998 حيث عمل فيها زهاء ثلاثين عاما. حينما شرح أستاذ الفلسفة الماركسية أخذتني ذاكرتي إلى ذلك اليوم الذي رأيت الوالد عائدا من العمل مطرودا، تراءى أمامي شبح الجفاف والجوع والفقر والظلم، كنت على وشك مغادرة المدرسة، لكن إصرار أمي على بقائي هو ما حثني على البقاء. هذا الوعي لم يعطيني إياه الفكر الديني، ما أعطاني إياه هو الصبر والظلم والسلوان، الشيء الذي زادني حنقا عليه .

عبد الله عنتار / 21 فبراير 2015/ بني ملال – المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفلسفة ليست كل شيء
فيلسوف ( 2015 / 2 / 24 - 00:28 )
العلم يقول : (اننا إذا رمزنا للموجات الكهرو مغناطىسية بخط تبلغ طوله 150 مليون كيلومتر؛ فإن العين البشرية تبصر منه مترا ونصف المتر؛ فقط! ما أشد عجز البصر عن إدراك ما حوله!. هل يعلم الكاتب ان المخ البشري يتعرض لـ (400 مليار) معلومة في الثانية لكنه يدرك منها (2000) معلومة؛ فقط! ما أشد عجزه الإنسان عن الإدراك!).


2 - رد
عبد الله عنتار ( 2015 / 2 / 24 - 13:45 )
لكن هذه المعلومات التي تفضلت بها توصل إليها عقل الإنسان، فهو الذي اخترع أدوات وتقنيات لكي يصل إلى المعلومات المذكورة . المقالة التي كتبت تقف في صف العلم ضد الفكر الديني . لأن هذا الفكر يعطل العقل وبالتالي يعطل الاختراع والإبداع . الفلسفة هي أم العلوم جاءت لنصرة الإبداع الإنساني ضد التزمت الديني . ولهذا السبب هناك منهج اسمه الابستولوجيا تعمل من خلاله الفلسفة على نقد وتقويم نتائج العلم . صديقي الفاضل لا يمكن للعلم أن يشتغل دون تفكير فلسفي . العلم يشتغل السؤال . وهذه الأداة اقتبسها العلم من الفلسفة .لذا تكون هذه مغامرة استكشافية للمناطق المجهولة التي لا يستطيع العلم أن يقدم بصددها أية إجابات . الكلام للفيلسوف راسل .

اخر الافلام

.. التركمان والمسيحيون يقررون خوض الانتخابات المرتقبة في إقليم


.. د. حامد عبد الصمد: الإلحاد جزء من منظومة التنوير والشكّ محرك




.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة