الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة و سياسة التكرار

محمد بقوح

2015 / 2 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لماذا الجمع أعلاه بين الفلسفة، و السياسة، و التكرار ؟ ( كلمات ) معروفة، و تبدو بديهية، على مستوى التداول المعجمي، إلا أنها بالوضعية التركيبية التي اخترناها لها، تحتاج منا إلى تفسير أبعاد مفهومها الدلالي . فسطح ( كلمات ) عنوان هذه المقالة، يكاد لا يقول شيئا يذكر، بالنسبة للقارئ المتسرع العادي، لأن الفلسفة كفكر نقدي، و كإجراء مفهومي، للنظر و القراءة و التحليل، تنتمي إلى حقل العلوم العقلية الخالصة، بصيغة الجمع، حسب تصنيف عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته . و السياسة علم خاص، يقصد به تدبير الشأن العام أو المحلي، و ينتمي إلى العلوم الإنسانية . أما " التكرار "، فظاهرة في الطبيعة و في المجتمع، و في سلوك الكائنات الحية المتعددة و المتنوعة، و منها الإنسان . و " التكرار " ظاهرة يمكننا ملاحظتها، و دراستها دراسة مخبرية، و هي المهمة التي تنهض بها خاصة العلوم الحقة، كالفيزياء و الكيمياء، و علوم الحياة و الأرض . غير أننا لا بد من إبداء ملاحظة هامة، تخص الفرق بين ما سميناه ب" التكرار "، كسلوك طبيعي و ضروري، في مسار حياة الكائنات الطبيعية، مفروض من قبل الطبيعة ذاته .، و " التكرار "، كفعل سلوكي، يفرضه على الإنسان، كائن طبيعي من نوعه ذاته . و بالتالي، ف" التكرار " الأول آلي بالضرورة، لا تحس به الحيوانات مثلا أو الحشرات. فالنحلة تتصرف بشكل آلي و مكرور، لا تشعر بسلوكها المتكرر، و هي تعمل على إنتاج و إعادة إنتاج مادة العسل . لأنها حشرة تملك الوعي ( الإحساس ) في الذات، و لا تملكه كذات واعية بذاتها، كما فكر هيغل في حينه. و بالتالي، فهذا هو الفرق الأساس بين " التكرار " الطبيعي، إذا صح التعبير، و الذي هو إحدى المظاهر الأساسية للطبيعة، و " التكرار " الاجتماعي في المجال البشري، الناتج عن قوة مهيمنة فاعلة، تفرض ذلك " التكرار " الممنهج و المقصود، لغاية في نفس يعقوب كما يقال . إلا أن الإنسان كذات تفكر، تعي بذاتها، و هي تكرّر السلوك المفروض عليها، باسم بعض القواعد القانونية و الدينية و الثقافية و الاجتماعية و العرفية ..

إذن، هذا بالنسبة للقراءة البسيطة، لمنطوق سطح عنوان مقالتنا: هي ( كلمات )، كما لو كانت جزرا، اتخذت لها مواقع، لا توجد بينها أية علاقات جسور، من النوع التركيبي المعتاد، الذي يتوقعه القارئ ( الفلسفة، السياسة، التكرار ) . و بالتالي، فكيف بإمكاننا تحقيق المبتغى الفكري، الذي هو إنتاج معنى ( الكلمات )، الذي نطمح إلى استجلاء ملامحه و أسئلته ؟ كيف يمكننا الانطلاق من ما يبدو مفكّكا و بسيطا و تائها، و أحيانا تافها و رتيبا للغاية، أو مهمّشا في التداول اليومي، من أجل تأسيس رؤية فكرية عميقة، تحمل رسالة إنسانية، لها معنى متميز، و قوي، و بديع و مكتشف ؟ بل كيف يمكن مباشرة المعنى الجديد، انطلاقا من أساس الواقع البئيس للطبيعة و الإنسان، في زمن راهني مكبّل بقيود الحداثة المزيّفة، يعجّ باللانهائي الملتبس، لمظاهر أصباغ الأقنعة المثيرة و الفتاكة في نفس الوقت ؟ لعلنا نطرح هنا هذه الأسئلة المحرقة، حتى نقترب أكثر من قولنا المباشر، بأن الجواب عنها ممكن عندنا بالإيجاب طبعا .. إنّ الأداة الفكرية و المنهجية الصارمة، التي نراهن عليها لتحقيق و تأسيس فعل المعنى المبحوث عنه، و المرغوب فيه، ارتباطا بالأسئلة السابقة أعلاه، تكمن في نظرنا :
في الاستعمال التأسيسي، و ليس الوظيفي و المهني، للنظر الفلسفي، باعتبار الفلسفة هنا مفهوم إجرائي، و طريقة تفكير، و نمط حياة، و ليست مضمون معرفي، أو مجرد معارف خاصة، تصلح للدرس و التلقين و التدريس .
بهذا المعنى، فالفلسفة، في رأينا على الأقل، مؤهلة أكثر من أي علم آخر، لمساعدة الإنسان و التعاون معه جدّيا، لإخراجه من محنته الحضارية، التي تورط فيها، خاصة محنة بؤس أنظمته التربوية و التعليمية، و أزمة ثقافته القيمية المزمنة، و انتشار التعصّب المختار، و التخلف المراد ..، و ليس معاقبته، و ذلك بإبقاء قوته العقلية يقظة بتحصينها، و الوعي بخطورة فعل " التكرار "، الذي يعتبر عندنا كمنتوج أساسي، لفعل التفكير السياسي المركزي، المستبد بتعصبه لتنفيذ أجندته، و التغييب الفعلي و الرمزي، للتشارك و التشاور مع باقي الفرقاء الفاعلين في الحقل المجتمعي للبلد.
من هنا، جاء استخدامنا و اختيارنا، في عنوان مقالنا، كمدخل لتركيبه اللغوي و الدلالي، لفظة الفلسفة، كحاملة مشعل قيادة المعنى ( بالتعريف )، و التأسيس المفهومي، لفكر ما بعد السطح، في سياق تعرية و اكتشاف تجليات العنف، الذي يمارسه ما هو سياسي، و حليفه الاقتصادي، على الإنسان و الطبيعة و المجتمع، خاصة في بلدان العالم العربي و الأمازيغي و الاسلامي، بمختلف مظاهر هذه المكونات الحيّة على واقع أرضنا . و من طبيعة الحال، يراهن السياسي، كفكر و كنسق سلطة، لتحقيق أرباحه المادية و الرمزية، بتعبير بورديو، اعتمادا على ما سميناه بفعل " التكرار "، كسلوك عملي، يتمّ به صناعة نمط الإنسان، الذي يخدم وظيفة أنظمة النسق السياسي المهيمِن .

لعلّ " التكرار " هنا بمثابة آلية "جهنمية" للفرض الاعتباطي للمبتغى المراد، و تدجين الكائن، و إخضاع ظلال الممكن، تمهيدا له و لإعداده، لفرض واقع الاحتكار، و شل حركته، و إعادة إنتاج واقع العبيد، المشمول بإرادة الأسياد. " التكرار " يعني هنا وصفة سحرية عنيفة، لتكريس سياسة التعتيم و التخدير، و الإتعاب و الإضعاف القسري، خدمة لحاجيات و رغبة سلطان قوة القوى المهيمنة و "المنتِجة" حسب واقع الحال. هنا لا بد أن يكون تدخل الفلسفة، حاسما و حتميا و ضروريا، كفكر مقاوِم و مدافِع، عن الحق في الحياة و الوجود و اقتسام القوة . و ليس الخضوع الأعمى لقهر السلطة، و التآمر الذاتي ضد الذات الأصلية .
هكذا تتحول الفلسفة، من دورها الأصيلي و الأساسي، الذي ننظر إليه كأداة للحوار المنتج، بين كل أطياف القوى المفكرة الفاعلة، في عين دائرة المجتمع المحلي أو الإنساني، إلى دورها النضالي التغييري و التنويري، كأداة للصراع التاريخي و الاجتماعي، ضدّ أنساق السلطة السياسة، و الفكرية الموجهة، و المتواطئة، و التكرارية الفجّة، من أجل مقاومة الظلم و الفساد، و الطبقية و العنصرية، و الميز الثقافي و الديني و اللغوي و العرقي ... إلخ . محاولة منها طبعا، و التزاما بخاصيتها الصراعية الجوهرية، على مدى تاريخها الفكري و الفلسفي الطويل، ردّ أمور الشأن الوجودي و الحياتي، إلى بدء أصلها، و تفسير حقائق الحياة الحرة للإنسان و كرامته، كما هي في الواقع المعيشي، و ليس كما يمكن أن تبدو، في السطح البسيط، من خلال ثنايا خطب الأوثان .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت