الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.

نضال الربضي

2015 / 2 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.

----------------------------------
"هستيا" يا من تقومين بالعناية ببيت ِ الإله "أبولو – الرامي بعيدا ً"
و الذي موقعه ُ على سُرَّةِ (مركز) الأرض،
أنتِ التي يقطرُ الزيتُ العذب ُ من جدائلك ِ،
احضُري إلى هذا البيت،
بذهنِكِ المُتَّحد مع زيوس كُلِّي ِ الحكمة،
اقتربي،
و باركِي بنعمتك ِ أغنيتي"
----------------------------------
(الترنيمة الرابعة و العشرون لهوميرس، ابتهال ٌ للإلهة ِ "هستيا"، الترجمة: لكاتب المقال)


قرأنا في الأجزاء الثلاث ِ السابقة مع ملحقها الإغنائي كيف عـَـبـَـر َ الإنسان ُ من خلال ِ بيئتِه و مُعطياتها نحو الألوهة ِ في شكلها الذكري الحالي من الشكل الأنثوي الأول، و الذي وجده منسجما ً مع مبدأ ظهور ِ الحياة ثم خبوِها بالموت، بصورته الروحانية الغامضة من القمرِ كأنثى ً متجسدة ٍ ، ملتصقة ٍ بالأرض ِ التي يخرج ُ منها النبات، و يعود إليها الأموات، تأكيدا ً على الوحدة ِ الوجودية لفعلي الانبثاقِ و الخبو و دورة ِ هذه الوحدةِ، المتجددة.

و فهمنا كيف أصبحت الأم ُّ الكبرى مرموزا ً لها بعشتار "عيش ُ الأرض" المعبودة َ الرئيسية َ التي تفرعت عنها سائر المعبودات، و جاءت لتشير إليها كلُّ صور الآلهة ِ الإناث ِ اللاحقة، التي كانت كلٌّ منها تجسيدا ً لخاصِّية ٍ من خصائصها.

و اليوم سنلقي الضوء َ على صفة ِ الألوهة الأولى و العُظمى وهي: القداسة، لنتبين َ معا ً كيف أخرج َ الإنسانُ من وسط ِ حاجاتِه البدائية تصوُّره ُ للمقدس و جعل من النار تجسيدا ً حيَّا ُ ملموسا ً - و في الذات الوقت ِ دون تعارض - رمزا ً لهذا التصور.

قبل أن يكون للإنسان ِ دين، كان أجدادُه الأوائل ما يزالون على مشارفِ "البشرية ِ الأولى" حيث الانفصالُ عن السلف الحيواني ِّ غيرُ مكتمل ٍ بعد، هناك كان القمرُ هو السيدة َ الحامية َ الأولى، و كانت النار وسيلته للحماية من الأعداء و لطهو الطعام. وسوف نجدُ اختلافا ً بين الداراسات ِ على تحديدِ الوقتِ الأوَّل ِ لاكتشاف ِ النار و استخدامها، لكننا سنجدُ اتفاقا ً على أهميتها و معناها و الفائدة ِ العملية ِ المُتحصِّلة ِ منها.

بالنار طهى الإنسانُ الأوَّل ُ طعامه، و استجودَ منها مزيدا ً من الطعمِ و النكهة ِ و الكمية ِ التي يستسغيها في ما قد يصحُّ أن نُطلق عليه "وجباتِه" على شحيحِ مُكوِّناتها التي يتحصَّلُ عليها بصعوبة ٍ و مشقة. و كذلك بهذه النار عرف أن يطردُ الحيوانات ِ المفترسة َ التي تخافُ لسعتها فتهابُ صاحبها و ترتدَّ عنه في اندحار، أو رُبَّما تستسلمُ له ليتأنَّسها و تأتلفَ في محيط ِ مُخيمه أو كهفه القديم.

يخبرنا الباحث الأنثروبولوجيُّ الفذ فراس السواح في كتابه "لغز عشتار – الألوهة المؤنثة و أصل الدين و الأسطورة"، في الفصل ِ المُعنون: عشتار الخضراء، تحت العنوان ِ الفرعي: سيدة ُ الشعلة، أن العبادات الأنثوية َ الأولى على مشارف ِ الحضارة مررت أساطيرا ً تشي بمصدر النار الأولى و معناها، فهذه الأساطير تحكي أن المرأة سرقت النار من القمر، و هي قصة ٌ إذا عدنا لدلالتها خلف الحروف ِ و الكلمات ِ و الغيبياتِ و المعتقدات فهمنا بأن النار الأولى جاءت من ظلام ِ الليل، ربما عبر شجرة ٍ مُحترقة ٍ ضربها البرق ُ النازل ُ من السماء التي تسيدها القمرُ المؤنَّث، و أن المرأة هي التي أتت بهذه الشعلة.

يفيدنا المصدرُ السابق أن بعض الأساطير أشارت إلى ولادة ِ النار نتيجة َ تمرير ِ القمر الأنثى يدها بين فخذيها، فإذا ما قرنَّا هذه الأسطورة مع أسطورة ٍ هندية ٍ مرسومة ِ نرى فها الإلهة الأنثى الأولى رافعة ً ساقيها إلى الأعلى و يخرجُ من رحمها شجرة ُ الحياة، فهمنا أن المبدأ الوجودي َّ بالنسبة ِ للإنسان ِ الأول كان أُنثويَّا ً في ألوهيته، و أن هذه الإلهة َ الأنثى هي مصدر الحياة (المرموز لها بالشجرة)، و أن هذه الحياة َ في طاقتها و حيويتها رديفٌ للمبدأ الذي تمثله: النار.

إذا ً نحنُ هنا أمام َ اعتقاد ٍ واضح ٍ بأن المبدأ الناري هو تجسيدٌ و رمز ٌ في ذات الوقت لمبدأ الألوهة الأول و ما يخرج ُ عنه من فعل، و سنتأكَّدُ من استنتاجنا هذا عندما نفحصُ ما وصل َ إلينا عن حضارات ِ الإغريق ِ على مشارف ِ التاريخ ِ المكتوب، فعند الإغريق كانت الإلهة ُ الأولى رحيا (الأرض) متزوجة ً من كرونوس الذي كان يبتلعُ أولادهما بعد الولادة ِ لكي لا يقتله و يأخذ مكانهُ أحدهم، و كان بكرُ أولادِه: الإلهة َ "هستيا"، و التي بلعها أوَّل من بلع، حتى بلعهم جميعا ً عدا زيوس، و الذي أجبرهُ على تقيُّــئِهم فيما بعد بعكسِ ترتيب ِ البلع، أي أن من ابتُلع َ آخرا ً تقيَّأه كرونوس أولا ً، و هكذا، حتى خرجت "هستيا" آخر الجميع.

و بهذا عُرفت "هستيا" بأنها أوَّل ُ الآلهة و آخرهم، أي أنها جمعت في نفسها التناقُض َ مُتصالحا ً مع ذاتِه، فهي المولودة ُ أولا ً من أمها الأرض، و المولودةُ آخرا ً من أبيها كرونوس، إنها الأولُ و الآخر، البداية و النهاية، الألفا و الأومغا، إنها المبدأ ُ الحياتي ُّ في ولادتها الأولى، و الفنائيُّ في ابتلاعها، و الحياتيُّ الوجوديُّ الأخير في ولادتها الثانية.

كانت "هستيا" الإلهة َ الأولمبية َ المسؤولة َ عن موقد ِ النار في جبل الأولمب، و عن الأجزاء الدُهنية ِ القابلة ِ للاشتعال من الذبائح ِ المقدمة لهذه الآلهة، و لقد رفضت عروض الزواج ِ من الآلهة ِ الذكور، في رمزية ٍ نقرأ ُ فيها أن النار لا تختلطُ بغيرها و لا تقبلُ أن يُغير نقاء شُعلتها أي شئ، و لنا إذا ما عرفنا أن تقدمات ِ اليونانين َ القدماء لأي إله ٍ، كانت تبتدئُ بخطابِ "هستيا" أو بتقدمة ٍ صغيرة ٍ لها بخصوصية ٍ فريدة، معلومة ٌ و دلالة ٌ أن رمزية َ نارِها إنما هي حقيقة ً رمزيةُ الألوهَة ِ في نقاءها الأول كمصدر ٍ لانبثاق ِ الحياة، و الذي لا أنفكُّ أُردِّدُ أنه كان أُنثويَّ المبدأ.

سنعبُرُ الآن َ من الإغريق ِ نحو الرومان، لنُنظرَ إلى "هستيا" و قد أصبحت بقوَّة ِ الحضارة ِ الجديدة "فيستا" و الذي يعني اسمُها "المُضيئة َ" أو "المُشعة". كانت فيستا أجمل آلهة ِ الرومان، و المُوكلة َ بالنار التي كانَ ضمانُ بقاءِ اشتعالِها تأكيدا ً على حماية ِ الإلهةِ لمدينة ِ "روما"، فكانت عذراواتُها مسؤولات ٍ عن شعلتِها تبقى مُلتهِبة ً ليل نهار، لا تنطفئُ مهما حدث، فإن انطفأت كان ذلك نذيرا ً لرفع الحماية ِ عن المدينة و إنذارا ً مباشرا ً بكارثة ٍ ستضرب.

أما كاهنات ُ النار الفستيات فكان اختيارُهنَّ يتم ُّ من أنبل ِ العائلات ِ الرومانية، في سن السادسة ِ إلى العاشرة ِ من العمر، و يتحتَّم ُ عليهنَّ البقاء في الخدمة ِ لثلاثين َ عاما ً بعدها يمكن ُ لهن َّ العودة ُ للمجتمع ِ و الزواج ُ إن أردن ذلك. لكن طالما كُنَّ في الخدمة ِ وجب عليهنَّ الحفاظ ُ على عذريتِهِن َّ و التي ترتبط ُ ارتباطا ً مباشرا ً – كما اعتقدوا – ببقاء النار ِ على اشتعالها و بالحماية ِ الإلهية ِ للمدينة، فإن حدثت كارثة ٌ ما لا تفسير لها، تُستنطقن لمعرفة ِ أيِّ دنس ٍ و نجاسة ٍ خاضت فيها إحداهُنَّ، ليكونَ مصيرُها أن تُنزل ِ إلى حجرة ٍ تحت الأرض مع كمِّية من الماء و الطعام تكفي لأيام َ معدودة ٍ بعدها تموتُ جوعا ً، خارج "روما". فقداسة ُ الكاهنة ِ الفيستية ِ لا تذهب و عليهِ فدمُها لا يمكن ُ أن يُخرجَ و يُسفك، و نقاؤها لا يُنتقصُ منه حتى في دنسها، لكنَّ عقابَها واجبٌ لتفريطها في هذه القداسة ِ و جلبـِها الشرَّ على المدينة، و هذا المبدأ ُ يذكرنا بعشتار "القيُّومة" الكاملة ِ "الكائنة" التي لا تتغيرُ و لا تتبدل مهما بذلت و مهما فعلت.

عرفت العبادات ُ الذكرية ُ النار َ أيضا ً كرمز ٍ للقداسة ِ و للحضور ِ الإلهي، فكان يهوه إله اليهود من أكثر الآلهة ِ طلبا ً للمحرقات ِ و الذبائح، حيث كانت نار ُ المحرقة ِ تشتعلُ يوميا ً على مذابحه، فريضة ً دهرية ً، رمزا ً لقداستِه و قداسة الشعب اليهودي نابعة ً من قداسته هو.

و حتما ً سنصطدمُ بالسؤال التالي: ما شأنُ قداسة ِ الشعبِ بذبح ِ ثور ٍ أو تيس ٍ أو حمل ٍ أو طائر ٍ ثم َّ حرقِه كاملا ً حتى يُصبِح َ رمادا ً؟

إن الجوابَ على هذا السؤال سيعيدنا إلى سلسلة ِ مقالاتي "قراءة في القداسة" بأجزائها الثلاث، و التي تتداخل اليوم َ مع سلسلة ِ عشتار، لأعودَ فأقول عطفا ً على كتاب "المُقدس و المُدنس" لمؤلفه "مرسيا ألياد" بأن َّ الإنسان َ الديني يرى بأنه لا "يوجدُ" أيُّ شئ ٍ خارج الوجود المقدس، و كلُّ ما هو "كائن" مادِّيا ً هو في الحقيقة "غير موجود" حتى يتمَّ تقديسُهُ، أي حتى يتمَّ "إنشاؤُه ُ" بواسطة "المقدَّس" الذي يجعل ُ منه "موجودا ً".

و عليه فيقتضي أن يتم "إنشاءُ" هذا الشعب اليهودي، أي "تقديسُه". لكنَّ هذا الإنشاء َ أو التقديس لا يمكنُ أن يتمُّ إلا بدخول ِ الشعب في لهب المقدَّس الأزلي أي النار الموقدة، و هو لهبٌ ناري أرضي يـُمثّـِل ُ متناهٍ مقدسٍ غيرَ أرضي و غير َ محدود، يتصفُ بقوَّتِه الفائقة غير المحدودة و التي ستظهر ُ في تأثيرِ رمزِهِ الناري المُحرق، و هذه مُعضلة ٌ لا بدَّ أن يكون لها حل، فكيف نتقدَّسُ إلا إذا دخلنا النار؟ و كيف يمكنُ أن ندخل النارَ و لا نموت؟ و إن لم ندخل فسنبقى في الدنس، في اللاوجود، فما الحل؟

وجدَ الإنسانُ الدينيُّ الحلَّ ليتقدسَّ في أن يُحوِّل دنسه من نفسهِ إلى موضوع ٍ آخر، يحملُ هذا الدنس، و يدخلُ النارَ، و يكتوي بها، و تستهلِكَهُ بالكامل، ليكون َ في رمزيتِه ِ مُمثلا لحقيقة الجماعة التي تُريدُ أن تتقدَّس، و بذلك َ يقبل ُ الرمزُ فعل التقديسِ كاملاً بينما يحلُّ أثرُ فعل التقديس على المرموزِ له.

و من هنا نفهمُ معنى و هدفَ الكلمة ِ اليونانية ِ "هولوكوست" و هي لفظ ٌ مركب ٌ من كلمتينِ معناهما "الحرقُ الكامل"، و هو ما كان يحدثُ لذبائح الإله اليهودي يهوه و المُسماة َ بـ "المُحرقات". و حين نفحصُ طقوس التقديس ِ (كمثال من أمثلة عديدة جداً، سفر اللاوين الفصل 4) نجد أن الشعب َ يجبُ أن يضع يده على الذبيحة ِ (الثور هنا) قبل ذبحه، لكي تنتقل َ الخطيئة ُ إلى الثور، فيتحول َ إلى رمز ٍ لهذه الجماعة، ثم يتمُّ ذبحُه و حرقه بعدها، ليحل َّ تأثير فعل الحرق التقديسي على المرموز ِ له أي الجماعة اليهودية، فتصبح َ مقدسة.

نرى في طقوس النار اليهوديةِ صدى العبادات ِ العشتارية ِ الأولى حيث كانت ِ النساءُ في الجماعاتِ الكهفية ِ يحافظن على الشعلة ِ لا تُطفأ أو تنطفئ، فهي شعلة الطعام و شعلة ُ الحماية و شعلة ُ الإنارة، إنها شعلة الإلهة القمرية الأولى و رمز الحضور الإلهي الأنثوي، و هي ذاتُ الوظيفة ِ في المجتمعات ِ الزراعية ِ الأولى في البيوتِ و المعابد. و سوف َ يتضح ُ أمامنا الأصلُ العشتاريُّ الأولُّ لبقاء ِ جذوة ِ النار المشتعلة حينما نفحص التوارة، ففيها نرى أن النار المقدسة لا يجب أن تنطفئ على المذبح أبدا ً (سفر اللاوين الفصل السادس)، و أنها مقدسة لدرجة ِ أن من مس لحم ذبيحة الخطيئة ِ ذاتها (لا النار) يصبح ُ مقدسا ً (سفر اللاوين الفصل السادس).

يُعلن الإله اليهوديُّ عن حضورِه بين شعبه بواسطة النار، فها هو إيليا النبي يفوزُ على أنبياء ِ البعل حين تنزل ُ النارُ من السماء لتأكل ذبيحته كاملة ً حتى أنها تأكل ُ الحطب َ و الحجارة َ و التُراب، و تلحسُ الاثنتي عشرة جرَّة ً من الماء، رمزا ً لتجديدِ قبولها بأسباط إسرائيل َ الاثني عشر حتى بعد أن تدنسوا و تنجسوا بعبادة ِ البعل و العشتاروت. (سفر الملوك الأول الفصل الثامن عشر)

يعُلن الإله اليهوديُّ نقاءه و قداسته أيضا ً بواسطة ِ النار، فها هو ملاكُه يظهر على شكل ِ رجل ٍ، لـ "منوح" و زوجته ليبشرهما بولادة ِ ابنهما شمشون، لكنَّ الزوج َ لا يدركان ِ أنه ملاك ُ الرب، و يظنانه رجلا ً عاديا ً يعرضان ِ عليه الضيافة َ فيرفضُ تكريمه شخصيا ً و يطلب ُ أن يكون التكريم على شكل مُحرقة يُصعدها، و يروي لنا سفر القضاة في فصلة الثالث عشر أنه عند ارتفاع ِ لهيب النار في الجِدي الذي تم ذبحه و حرقه، صعدَ ملاك ُ الربِّ في اللهيب ِ إلى السماء.

لهذه القصَّة َ دلالة ٌ كبيرة ٌ إذا ما أردنا أن نفهم أهمية َ النارِ في العبادات القديمة، فهنا الملاكُ هو "مُقدس" و رسول ٌ للـ "المقدس الإلهي"، و كذلك نار ُ المحرقة ِ "مقدسة" بدورها، و عليه فإن المُقدسَ يصعد ُ للمقدس بواسطة المقدس. إننا هنا أمام القداسة ِ في تجلياتها النارية، و الإرسالية الملائكية، في موضِع ٍ هو مكان ُ اتصال ِ المقدس بالمدنس، لأن المحرقة َ هي بوابة ُ العبور، هي عتبة ُ الانقطاع ِ بين المقدس و المدنس، إنها عتبة ُ الاتصالِ أيضا ً بين المقدس و المدنس، إنها في الحقيقة "الوصل" و "الاتصال" بين المقدس و المدنس، إنها رمز الحضور الإلهي، و تجسيدُ الحضور الإلهي ذاته، إنها دلالة ٌ على إتمام ِ إنشاء ِ الموضع ِ الأرضي إنشاءً مقدسا ً يعترفُ بوجودِه بحلول ذات المقدس فيه.

و لا بدَّ أن نقوم َ أيضا ً بمُقابلة ٍ ما بين حالة ِ احتراق ِ الذبيحة ِ حتى تتحول رمادا ً بواسطة ِ النار، و بين حالة ِ صعود ِ الملاك ِ الرجل ِ داخل النار دون أن تستطيع َ النارُ أن تحرقه، و سيقودنا التعجُّب ُ من عدم احتراق ِ الرجل ِ الملاك إلى تحليل ٍ نتثبّتُ بواسطته مما توصلنا إليه ِ من استنتاج ٍ سابق ٍ أن فعل الحرق ِ هو في حقيقتِه ِ فعل ُ تقديس، فلقد رأى الإنسانُ الديني و الذي كان يظنُّ في نفسه "الدنس" دوما ً أن الاحتراق َ دليل ٌ أن الذبيحة َ دنسة و غير مقدسة و لذلك احترقت، و حين أتى بقصة ِ الملاك ِ الصاعد ِ في النار جعل من عدم احتراقِه دليلا ً على قداسته، فالاحتراق تقديس و الملاك لا يحتاج لتقديس و بالتالي لن يحترق.

إن قصة منوح و امرأته مع الملاك تلخيص ٌ لمبدأ القداسة ِ في النار، و هي أيضا ً تمهيد ٌ لفهم ِ عقلية ِ العقاب ِ الأبدي للمذنبين في نار الأبدية، فالإنسانُ الديني يرى أن الموت في الخطيئة ِ هو دنس ٌ نهائي لا يزول، صبغ َ الروح َ البشرية َ بحكم ِ دنس ٍ تحولت إليهِ طبيعتُها، و بالتالي فطبيعُتها الدنسة التي ستعودُ إلى المُقدَّس الأزلي لا يمكن ُ أن تسكن عنده إلا إذا تقدست، و بما أن الروح َ لا تموت و لا تفنى، و بما أنها دنسة دنسا ً أبديا ً فلا بدَّ إذا ً أن يكون َ فعل ُ تقديسها فعلا ً أبديا ً، و لا بدَّ أن يكون هذا التقديسُ بوساطة ٍ نقيَّة ٍ قويَّة ٍ فاعلة، هي نار ٌ أبدية ٌ من نوع ٍ أعظم َ و أكبر َ يختلف ُ عن نار ِ الأرض، نار ٍ إلهية ٍ روحية ٍ (و جسدية ٍ أيضا ً) تحرقُ الارواح َ و الأجساد حريقا ً لا ينتهي، هو في حدِّ ذاتِه ِ تقديس أبدي، صفاتُه أنه مُستمرٌّ لا يتم و بالتالي لا يُحقِّقُ القداسة َ، و في نفس ِ الوقت يكون استمرارُه حرقا ً للدنس ِ بكفاية ٍ تسمحُ للنفس أن تجتمع َ في موضع الإله المقدس (فجهنم موضع ٌ من مواضع ِ الإله، و تابعة ٌ له).

بقي أن أقول َ عزيزي القارئ بعد أن أعتذر منك على الإطالة، أن أصول القداسة و الدنس و الطهارة و النجاسة، و التطهير بالماء و النار، ما هي إلا انعكاساتٌ لإدراك ِ الإنسان لمحدوديتهِ و ضعفه أمام الطبيعة، و الحيوانات، و قصور ِ قدرتِه على تأمين ِ الحاجات الأساسية ِ من مأكل ٍ و مشرب ٍ و مسكن ٍ و حماية ٍ، و تعبيرٌ عن فهمه ِ لهذا الضعف و توقِهِ نحو الكمال الجميل المُكتفي الغني المُشبع، و نحو قوَّة ٍ تحميه و تقوم ُ عليه و تكفيه و تُأمِّنُه، تكون ُ هي على هذا الكمال و تمثيلا ً له، و مصدرا ً يُعطيه لهذا الإنسان.

و إنني أعتقدُ مخلصا ً أننا حينما ننظرُ في تاريخ ِ البشرية ِ و أديانِها إنما ننظرُ في أعماق ِ أنفسنا لنفكَّ ألغازنا النفسية و نجدَ الجذور َ التي صنعت منا هذا الإنسانَ الحضاري الذي استطاع َ أن يخترع الحاسوب َ أو الموبايل َ الذي تقرأ ُ منه مقالي هذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأخ العزيز - شوكت جميل
نضال الربضي ( 2015 / 2 / 28 - 08:47 )
تحية عطرة أجزيها لك في بداية هذا النهار،

شرفتني بزيارة سلسلة -قراءة في القداسة- و أثريت المقال الثالث َ بتعقيب ٍ جميل ٍ كاسمك، و تحدثنا في الماء، فكان أن وددت َ استكمال الحديث ليطال النار و فعلها التقديسي، فوعدتك َ أن يكون الحديث في آخر يوم ٍ من الشهر، و أفي لك به اليوم في الموعد المضروب يأتي به مقالي هذا، ليقول لك: حبَّا ً و كرامة ً!

يسعدني حضورك َ العذب و ثراؤك الفكري!

دمت أخا ً عزيزا ً.


2 - نضال سارق النار!
شوكت جميل ( 2015 / 2 / 28 - 08:57 )
تحية طيبة أخي الكريم نضال
كما ألفناك و ألفنا كتاباتك الملهمة لإعادة النظر و التفكير في تأريخنا الإنساني الموغل في القدم و البدائية و سذاجة معتقداته،دونما أي تعالٍ أو سطحية.
و أصدقك القول ألهمتني مقالتك و دفعتني لإعادة النظر في إثنتين:
مفهوم -المطهر الناري المؤقت-في فكر الكنيسة الرومانية.كمرحلة إنتقالية للتقديس بالنار،و من ثم استحقاق المعية الألهية.
أما الثانية،فأسطورة -برميثيوس-الرب الإنسان و الصديق للبشر،المتمرد،سارق النار المقدسة الإلهية من كبير الألهة زيوس،و إهدائها للبشر،و معها كل إلهام المعارف و الفنون تلك التي انتزعها منهم زيوس و تركهم منبوذين في البرد و الظلام و الكهف..و بدا أن برميثيوس يهديهم الألوهية ذاتها.،فالنار ،برمزيتها،لها فعل التقديس،و بات بمكان الإنسان تقديس ما شاء و كيف شاء،.فكان جزاؤه من زيوس التعليق على صخرة جبل تنهش كبده النسور!

و بدا لي أن برميثيوس الرب الذكر-خالق الذكور من الطين-لم يسرق النار من زيوس و حسب،بل و من الإلهة الأنثى-هيستا-
و بدا لي أن كل من يحمل نير صداقة الإنسان عن حق،و مشاعل التنوير ملاقٍ مصير برميثيوس.
مقال يستحق التهنئة عن حق،و أحر تحياتي


3 - تحيات وسلامات
قاسم حسن محاجنة ( 2015 / 2 / 28 - 11:44 )
مرحبا عزيزي
ويعطيك العافية على هذه الجهد
متابعك
ومش ناسي
وعندي اقتراح : لما تترجم اي شي ، اكتب من اي لغة !!
باي ولا تنافسني عالترجمة من العبراني


4 - الأخ العزيز شوكت جميل
نضال الربضي ( 2015 / 2 / 28 - 18:40 )
تحية مسائية عبقة بعبير أشعارك الجميلة التي أحبها!

بروميثيوس سارق النار هو النسخة الذكرية الانقلابية من سابقته العشتارية التي التقطت النار و تعلمت أن تستديم اشتعالها و تُشعلها، و لقد كان عقابه أكل كبده نهارا ً و نموه ليلا ً إلا ما لا نهاية، و كأن ساطر القصة أراد أن يقول أن الألوهة َ وهم لا يتحصل و لا يتحقق، و ثمنه: أبدية ٌ من البحث، و هو الشئ الوحيد الألهي فيها!

أما مبدأ المطهر فأرى أنه ضد مبدأ الفداء الذي يرى أن ذبيحة المسيح التقديسية فعل ٌ لا نهائي في ذاته و بالتالي فإن أثره التقديسي لا نهائي أيضا ً، و ما دام أن المؤمن المُحتمي بقداسة الماء (المعمودية) و بقيامة الفادي التقديسية النارية فإن المطهر لا لزوم له، و نستطيع أن نقول أنه ارتداد عن شمولية الفداء لا داعي له.

يحتاج ُ البشر إلى أن يشعروا بالرضى عن أنفسهم، و خصوصا ً لكي -يتطهروا- من أفعال ٍ أو أفكار ٍ أو نوايا تمليها عليهم حاجاتهم الطبيعية، فاخترعوا أديانهم قديما ً، أما الآن فلا حاجة َ إلا إلى الحب، و الحب فقط، حب الناس، حب الحياة، حب النفس، ممزوجا ً بدهشة ٍ و تواضع أمام الكون!

دمت أخا ً عزيزا ً و دام حضورك العذب!


5 - الأخ العزيز قاسم حسن محاجنة
نضال الربضي ( 2015 / 2 / 28 - 18:50 )
أهلا ً و سهلا ً بالصديق الطيب!

ترجمة ُ الترنيمة ِ المنسوبة ِلهوميروس (علما ً أن مصادرا ً تقول أنها منسوبة فقط و ليست موثقة له) من اللغة الإنجليزية.

لا أستطيع و لا نية لي في أن أنافسك بالعبرية :-))))) و رحم الله امرءا ً عرف قدر نفسه LOL

و مع ذلك في سلسلة -قراءة في القداسة- اضطررت للخوض في العبرية اشتقاقا ً و سماعا ً من أجل التميز بين المقدس و الطاهر و المدنس و النجس، و لقد استمعت ُ بالعبرية إلى كل النصوص التي أوردتها في مقالاتي الثلاث من الموقع الذي وثقته في أسفل المقالات، و لا أخفيك َ أنني وجدت ُ للعبرية ِ رنينا ً جميلا ً استهواني.

و كنت اقارن بين النص العربي المكتوب بين يدي و بين العبري الذي اسمعه، و بالممارسة استطعتُ أن أفهم أين تبدأ الجمل و أين تنتهي و بعض التركيبات، ووجدت ُ لذلك لذة ً أدبية ً كبيرة!

أرحب بحضورك َ دوما ً و خالص مودتي!

اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah