الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طه عبد الرحمان التأنيس في زمان التحريق

هادي اركون

2015 / 3 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



دأب طه عبد الرحمان منذ عقود على مهاجمة الحداثة والحداثيين ، في سلسلة من الكتب والحوارات،والدفاع عن التراث السني -الصوفي بناء على مواقف عقدية صريحة.فباعتباره ،صوفيا طرقيا ،لا يمكن أن يتجاوب مع الحداثة ،بما هي استشكال صريح لأسس وثوابت العقائد وتاريخها الفكري .وقد ضمن كتبه ردودا حادة على العلمانيين أو المفكرين الليبراليين من أمثال : محمد عابد الجابري ومحمد أركون وعلي حرب ومحمد سبيلا .
وواظب في السنوات الأخيرة على نقد الحداثة وفكرانيتها وأخلاقيتها ،دفاعا عن الحقائق التداولية للمجال التداولي العربي –الاسلامي .
وعلى الرغم من افتتانه بالتصوف وبأبي حامد الغزالي ،فإنه لا يخفي إعجابه الكبير بشرعيات ومنطقيات تقي الدين بن تيمية.
وقد تصدى لمشروع نقد العقل العربي ، في " تجديد المنهج في تقويم التراث " ،وعدد أعطاب ومزالق فكر محمد عابد الجابري ،دون أن يجرؤ على نقد تفكيك الجابري للنظام العرفاني في ( تكوين العقل العربي ) وخصوصا في ( بنية العقل العربي ) وكشفه عن المصدر الهرمسي والغنوصي للتصوف العرفاني ،سواء أكان سنيا(الجنيد والمحاسبي والغزالي......الخ ) أم فلسفيا(الحلاج وابن عربي وابن سبعين ...... الخ) .
تتوالى مؤلفاته الناقدة للعقلانية والأخلاقية والفكرانية الحداثية ، فيما تتوالى مآسي العالم الإسلامي ، وتتسيد الأصوليات الشرسة المضادة للتمدن والتحضر .بماذا نفسر اكتفاءه بنقد الحداثة والإبانة عن تفوق العقل الشرعي والأخلاق القربانية ؟
لماذا يستمسك بالصمت ،بعد أن توغلت السلفيات الجهادية في نسف الأضرحة والمزارات الصوفية بسورية والعراق ومالي وسوريا وتدمير الموروث الثقافي ،بمالي خاصة ؟ لماذا يكتفي بالصمت فيما يجأر بالنقد كلما ارتفعت هامة حداثية ،لاستشكال جزء أو مظهر من مظاهر التراث ،بفعل تقادمه وعدم استجابته لمتطلبات ومقتضيات العصر ؟
ما مبررات صمته عن جرائم السلفيين الظاهرة للعيان ،وتطاولهم البين على كل من يخاف نهجهم الفكري ،ومن ينقض تصورهم للتاريخ والشريعة ؟
هل نبرر ذلك الصمت بالتقية ونشدان السلامة ،أم نعزو ذلك إلى تجاوب تلك السلفيات مع جزء من برنامجه الفكري القائم على تبرير الأفضلية المطلقة للنموذج الإسلامي؟
الحقيقة أن طه عبد الرحمان ،قد دافع طيلة مساره الفكري عن تمامية مناهج الفقهاء والأصوليين واكتمالها واكتمال حقائق المتصوفين ،وعن قصور مناهج المتفلسفين والمتكلمين ممن ينتسبون الى الاعتزال والتجهم قديما والى الحداثة حديثا .
فالحقائق التداولية مبرأة من النسبية ومن الاحتمالية في اعتقاده ؛ولذلك فهي أحكم بناء وأغنى دلالة من الحقائق المتداولة في المجالات التداولية الحداثية.
إلا أن الوقائع العصرية ، ومنها تنمر السلفيات الجهادية ، وتماديها في القتل وفي الذبح واستئصال المخالفين ، أيا كانت عقائدهم أو فكرانياتهم أو وضعياتهم الاعتبارية ،تكشف قصور تلك الحقائق التداولية ،وانتماءها إلى أزمنة فكرية ، في حاجة لا إلى الاستشكال فحسب بل الى النقض والتجاوز.
ان الاعتلال الفكري ،في النطاقات السنية ، والاهتراء الناتج على الاهتزازات السياسية بليبيا والعراق وسوريا ومالي ،يدلان دلالة صريحة ، على اعتلال نظر فقيه الفلسفة وذهوله عن ملابسات العصر .فلو تأمل أدنى تأمل وقائع تفجير الأضرحة والمزارات ،وتدمير التراث الثقافي ،الصوفي وغير الصوفي بمالي والعراق وسورية وتونس ، لانتهى ، حتما إلى حتمية مراجعة الثوابت ، لا إسدال ستائر التقديس عليها كما عمل في (العمل الديني وتجديد العقل وتجديد المنهج في تقويم التراث ) ، ولأعاد النظر في كتابات خصومه وشهد لهم بالكفاءة والدقة في التحليل والتركيب .
من المنطقي ، أن يقود الافتتان بالحجاج وبالجذب ، إلى الذهول عن منمنمات التاريخ الحي في سريانه وجريانه ، وعن تجاذبات الحياة ،وعن تموجات السياسة والاجتماع في عالم شهد ثورات لم يعرفها مجاله التداولي بعد .
الحقيقة أن طه عبد الرحمان ، منشغل بالدفاعات عن عالم ولى ،هو عالم سطوة الفقيه المتصوف .وقد حسب أن اتقان الآلة والحجاج كافيان ، للبرهان على أفضلية الحقائق التداولية ،في عالم يموج بالتحولات وتنقلب فيه أشد الحقائق يقينا إلى أفكار قابلة للمراجعة والتفنيد والتجاوز .
ألا تكفي أفعال النهب والتدمير والتهجير والقتل ،كما تمارسها السلفيات الجهادية ،لإعادة النظر جذريا في ثوابت الأصوليين وفي أفكار الفقهاء ، وفي ثوابت المجال التداولي العربي –الإسلامي ؟هل ترجع جرائم السلفيين ، إلى المبالغة في التسيس والتنكب عن جادة التأنيس كما يعتقد طه عبد الرحمان ،أم الى ايحاءات المجال التداولي العربي –الإسلامي نفسها ؟
لا يمكن إعفاء مناهج الأصوليين والفقهاء من الاستشكال ،إلا في فكر مدخول،أدمن تقديس السلف بأدوات الخلف ،أي بأدوات الحداثة عينها(المنطق الرمزي ونظرية العوالم الممكنة ..... الخ).
إن صمت طه عبد الرحمان عن همجية السلفيات الجهادية ،إخلال بمقتضيات العمل الملزمة لكل من ينتمي الى المجال التداولي ويتداول حقائقه .كما أن تمسكه بثوابت المجال التداولي ، بعد تداول الجرائم السلفية ( حرق معاذ الكساسبة والمصريين الأقباط وتهجير الملايين قي العراق وسوريا ) ،إخلال صريح بموجبات النظر ، النظر السديد بمقاييس الحداثة بالطبع .
ما المنتظر من فكر ،أخل بالنظر وبالعمل ،سوى أن يغرق في التفريعات والتشعيبات والتشقيقات (الانقتال ) ؟
ألا ينتظر من فقيه الفلسفة ،أن ينقلب بعد الجرائم السلفية ،إلى ناقد للفقه ولأصوله وللكلام ونظرياته ولنظرياته في التأصيل والتقريب التداولي ؟
(...وتحقق شعورنا بشغل ذمتنا بواجب التنبيه على ما يظهر في تقويم التراث من التمويه ،فتحركت داعيتنا لوضع هذا الكتاب ،حتى لا نسأل من الخلق في العاجل ومن الخالق في الآجل عن صمتنا حيث كان يجب أن نتكلم ، وعن تركنا حيث كان يجب ان نعمل ، وحتى لا يقال بأن الحث مطمور لا نصير له والباطل مشهور لا خصيم له . ) 1-
يخشى فقيه الفلسفة ، وصاحب كوجيطو ( انظر تجد) ،أن يسأل عن عدم نقد مشروع الجابري ،مع أنه لا يمس القواعد التداولية للعقل الشرعي على الإطلاق ، ويحترف الصمت البليغ ، تجاه أفعال التقتيل والتحريق والتدمير باسم التفضيل التداولي لحقائقه المجاله ،وبالعودة الى فتاوى ابن تيمية.
لم يلتزم الصمت ازاء التمويه في قضايا منهجية ،متداولة أصلا في أطر ضيقة ؛وفي المقابل التزم صمت الأموات ،إزاء التقتيل المنهجي للآخر الطائفي والملي ،وتدمير التراث الثقافي ،للإنسانية بمالي والعراق وسوريا ،وتهجير الآلاف وسبي النساء وفتح أسواق النخاسة،والتمثيل بالجثث وترهيب الناس في آسيا وأوروبا وإفريقيا .
فكيف خانته يقظته التداولية المعتادة ،وحميته التداولية المعرفة ، وهو يشاهد الرؤوس المقطوعة والأجساد المحروقة ،والنفوس المباعة ، والديار المحروقة ؟ألا يعلم أن تلك الأفعال ،تلتمس أسانيدها ومراجعها ، من الأصوليين والفقهاء الفضلاء ،وبالأخص من أحد مشايخه المفضلين : تقي الدين ابن تيمية ؟.
الواقع أن فقيه الفلسفة ،جرد المناهج عن التأريخ ،فظن أن بإمكانه المفاضلة بين التراث والحداثة ؛ناسيا أن مصادر مناهجه وقواعده التداولية ، غير مسلمة وقابلة لا للاستشكال فقط بل للنقد التاريخي .
فالتسليم بالأجهزة النظرية والمنهاجية للأصوليين والفقهاء والمتكلمين والمفسرين ، يقتضي التسليم بفيلولوجيا النصوص الأولى ؛ والحال أن إنعام النظر في تلك النصوص بالذات ،كفيل بإقناع الناظر الباحث عن الحقيقة ، لا المتكلم الباحث عن امتيازات نظرية وعملية ، بضرورة إجالة النظر في تلك النصوص وتعريضها للنقد التاريخي –الانتربولوجي .
ان البراعة في المنطقيات ،لا تكفي لإدراك الحقائق ،والنفاذ إلى كنهها ؛ولذلك فتحصيل الملكة في النظريات لا يكفي ،فلا بد من تحصيل ملكة التاريخ والاجتماع ومراعاة مقتضياتهما في مقاربة النصوص والوقائع .
(فكل معرفة عقلية نافعة ، لا بد أن تنتقل من مستوى مجرد التمييز النظري إلى مستوى التخلق السلوكي بها ولو كانت لغة أو منطقا أو حسابا ،لأنها ، بفضل هذا التخلق ، تنفذ إليها المعاني اللطيفة والقيم الروحية ، فتقيها مساوئ التنظير الجاف والتسييس الضار ، وتمدها بأسباب العمل المسدد والتأنيس المتبصر . ) 2-
يقتضي تعلق العلم بالعمل ،الانخراط في قضايا العصر ؛ والحال أن فقيه الفلسفة ، غائب عن الجبهات الفكرية ، المشتعلة هنا وهناك .وليس التحجج بمعاداة التسيس ،إلا ذريعة ، للقول الصريح في المآسي الفكرية والاجتماعية والسياسية الناتجة عن الرغبة في تنفيذ مقتضيات المجال التداولي الأصلي ، وخاصة الشريعة بكل حذافيرها.
أليس القتل والحرق والتمثيل وجز الرؤوس واللعب بها ، وأكل الأكباد ، وأسر الفتيات والنساء ،وجهاد النكاح ، بكافية لإيقاظ فقيه الفلسفة من غفوته التأنيسية ،وفصل المقال ، بالأدوات التداولية ، فيما بين المقترفات والمجال التداولي الأصلي من اتصال .؟
(..و أما الشعور بالامتياز العقلي ، فهو متفرع من الامتيازين السابقين ( الامتياز اللغوي والامتياز العقدي ) ،فمن تكون له أفضل شريعة و أفضل لغة ، لزم أن تكون له أفضل معرفة ما دلم يستمد مضامين هذه المعرفة من أحق الحقائق التي جاءت بها اصد ق شريعة ، ويستمد وسائل هذه المعرفة من ابلغ الأساليب التي انطوت عليها أبين لغة . )3-
إن لمبدإ التفضيل ،تنزيلات عملية ،يفضل فقهاء الفلسفة ،التغاضي عنها.تستتبع الأفضلية النظرية ، أفضليات اقتصادية واجتماعية وسياسية ، كما تقتضي التسيد على العالمين، الآن وغدا .
لا يمكن إغفال الجذع المشترك ، بين الأفضلية التداولية كما يحددها فقيه الفلسفة ، وكما يمارسها السلفيون الجهاديون .
إن القتل المنهجي ،للمفكرين ( فرج فودة ومحمود طه وحسين مروة )واضطهاد المسيحيين والإيزيدييين والصابئة ،تجسيد عملي لمبدإ التفضيل التداولي .
ليس بامكان مفكر تداولي ،معتز بأفضلية مجاله التداولي ، أن يدافع عن شرعة حقوق الإنسان ،ولا أن يندد بأفعال تستمد شرعيتها وبواعثها الصميمة من مدونته التشريعية .
(ولا ضرر في أن يستولي على العربي الإحساس بالتفوق ،لأنها هذا الإحساس مقيد عنده بما لم يقيد به عند الغير ؛فإن كان هذا الشعور قد ينقلب عند الغير إلى آفة عنصرية تّأتي بالشر لمن عداه ، فإنه عند المسلم العربي محفوظ من الانعطاف على صاحبه وعلى غيره بالشر بسبب ارتباطه بأحكام الشرع التي تصده صدا عن كل ما يؤذي هذا الغير .وعليه ، فإن الأفضلية التداولية التي ينسبها العربي إلى ممارسته التراثية أفضلية طبيعية لا غرابة فيها ومصونة لا سوءة فيها .)4-

الواقع أن المآسي الحادثة في الشرق الأوسط ،قديما وحديثا ، إنما نتجت عن ذلك الامتياز بالذات؛فالامتياز النظري يقتضي ،ضرورة ، امتيازا عمليا ؛ وغالبا ما يؤول الامتياز إلى التمييز ، أي إلى كراهية الأخر واستئصاله متى توافرت الشروط واستكملت مقتضيات التمكين والاستقواء .
وتشهد الوقائع التاريخية ،على اخلاص الفاعلين التداوليين،لحقائق المجال واستماتتهم في الدفاع عنها ،ولو اقتضى الامر ،خرق بعض المحاذير الشرعية نفسها.
( وقال يحيي الغساني :كان عبد الملك بن مروان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء ،فقالت له مرة : بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلأ بعد النسك والعبادة ، قال : إي والله والدماء قد شربتها .
وقال نافع : لقد رأيت المدينة وما بها شاب اشد تشميرا ولا أفقه و لا أنسك و لا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان .) 5-
ان للترفع عن التاريخ بدعوى التأنيس ،نتائج وخيمة على النظر ؛فبدلا من تحقيق الأنظار بعرضها على مقتضيات التاريخ ،فإنه يكتفي ،بتجميلها والاكتفاء بصدقيتها الذاتية ؛والحال أن مراعاة الصدقية الذاتية في خطاب يروم العمل ، دون الاهتمام بالصدقية الخارجية ، يصيب النظر بمعاطب لا محيد عنها . ويبدو أن فقه الفلسفة ، لم يستوعب الدرس الخلدوني ،في تحقيق التاريخ ، وبالأخص في استخلاص دروس الممارسة السياسية.
إحالات :
1-[الدكتور طه عبد الرحمان ،تجديد المنهج في تقويم التراث ،المركز الثقافي العربي ،الطبعة الأولى ،1994-ص.11]
2-[الدكتور طه عبد الرحمان ،تجديد المنهج في تقويم التراث ، -ص.86]
3-[الدكتور طه عبد الرحمان ،تجديد المنهج في تقويم التراث ، -ص.254]
4-[الدكتور طه عبد الرحمان ،تجديد المنهج في تقويم التراث ، -ص.254]
5-[جلال الدين السيوطي :تاريخ الخلفاء ،تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، المكتبة العصرية ، الطبعة الاولى -2005-ص.193).



هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس تسلم -بري- الورقة الفرنسية المتعلقة بوقف إطلاق النار ب


.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن| #أميركا_ال




.. الخارجية الأميركية: 5 وحدات في الجيش الإسرائيلي ارتكبت انتها


.. تراكم جثامين الشهداء في ساحة مستشفى أبو يوسف النجار برفح جنو




.. بلينكن: في غياب خطة لعدم إلحاق الأذى بالمدنيين لا يمكننا دعم