الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة موجزة في مقال: - المغرب أفقا للفكر - لعبد الكبير الخطيبي

أحمد الطريبق

2015 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل يكفي الميلاد في الأرض لكي تكون الهوية قائمة ثابتة ؟ هل يكفي الانتماء إلى تراث، لكي تأخذ الهوية مكانا قارا لها Territorialisé ؟ في الغالب لا تستحضر هذه الأسئلة، حينما تتم الثرثرة في مسألة الهوية. إنها تقدم كمعطى بديهي، وكأن مسألة الهوية مجرد انتماء إلى تراب أو لغة أو عرق أو ثقافة.
بيد أن الهوية كما كانت ولازالت تتداول، إنما تطرح كتحديد سياسي قانوني: أنا مغربي بما أنني ولدت في المغرب، وبما أنني أتكلم اللغة الرسمية أو الجارية ! هكذا تطرح الهوية عبر البطاقة الوطنية المسلمة إداريا، إنها هوية معرفة من خلال أخلاق الحالة المدنية، في بعد تام عن الأسئلة الجذرية التي تتعلق حقا بمسألة الهوية في جذريتها وفي كل ما تحمله من الزخم الوجودي.
لذلك، انتفض عبد الكبير الخطيبي ضد هذا الاستعمال العامي الجاري به العمل في الأوساط العادية والسياسية والإعلامية، وفي الكثير من الأحيان في الأوساط الفلسفية. ولذلك اتخذ الخطيبي في مقاله هذا منحى جذريا في تناول مسألة الهوية، ومن ثمة مسألة المغرب كأفق حضاري فكري.
يلح العديد من المثقفين على طرح مسألة الهوية انطلاقا من معطى جزئي: الهوية أو اللغة أو العقيدة أو العرق أو التراث ... الخ. والحال أن مسألة الهوية أكبر من أن تحصر في أحد هذه المعايير. فمسألة الهوية لا تتعلق مثلا بالتراث، فالتراث خطاب يجمع ما قاله أو أبدعه أو رسمه ... الخ كل البشر، أحياء أو موتى، فهو لا يمضي أو يزول، إنه يستمر كهول تصعب مجابهته. وهو ليس أصلا يتعين العودة إليه، لأنه بكل بساطة إرادة حقيقة لا تخص الحاضر إلا بالقدر الذي يمكن به تفكيكها ووضعها موضع المساءلة.
لا يحمل التراث أي ضوء أو نور، لأنه نور توارى أمام حقائق أخرى تتعلق بالراهن هنا والآن. إذا كان في قدرة التراث أن يعطي شيئا، فإنه لن يعطي سوى الأصنام التي أنشأتها إرادة حقيقة لا تخص الحاضر. إنها أصنام احتضنتها الميتافيزيقا قبل الأسطورة الإغريقية وامتدت إلى حاضرنا مرورا بالحداثة. ومن ثمة، فإن أفضل طريقة لملاقاة التراث هي بتفكيكه وبناء حقيقة أخرى تتعلق بالراهن. لا يستطيع التراث أن يحيي شيئا، في حين أنه يمكن أن يدمر كل إرادة للحقيقة، يقول الخطيبي: " فالتراث ... لا يضيء الإنسان إلا بمقدار ما يستحق موته بين الموتى " ، أي إلا بمقدار تفكيكه ومواجهته وتجاوزه لهذا التراث.
وبما أن هذا الأخير تأسس ضمن كونية تخص كل البشر، فإنه يتعين مجاوزته بهدمه حيثما كان واستقر. التشبث بتراث مفترض أنه يخص هوية ما يعني السقوط في الاختلاف المتوحش، أي الاختلاف الذي يؤمن بأنه لا هوية إلا الهوية الخاصة بمن له هذا الإيمان: " لنسم الاختلاف الوحشي بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى خارج مطلق " . فالهوية بهذا المعنى هي مطابقة تأبى الاعتراف بأي اختلاف آخر. وكأن الهوية شيء لا يتحرك ولا يعتريه التناقض والتفكك. والحال، أن الهوية ليست سوى تجمع مؤقت على الدوام لعناصر لا تنفك تنحل في مسار تحكمه القوة puissance والحركة mouvement، تتجسد هذه الفكرة عن الاختلاف في النزعات: الثقافوية والتاريخانية والقومية والوطنية المتزمتة والعرقية.
تدعي هذه النزعات مثلا الانطلاق من اللغة المعجزة التي تريد إنكار الفلسفة بوصفها لغة إغريقية، يقول الخطيبي : " إن إله أرسطو دخل في الإسلام حتى قبل مجيء الإسلام " : العلة الأولى والأصل والجوهر الواحد الأحد. بيد أن المسلمين عرفوا على طريقتهم الخاصة منذ المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، كيف يخترقوا اللغة الإغريقية.
ما معنى إذن أن نتحدث عن تاريخانية ؟ إنه يعني الاصطفاف وراء الحداثة ضمن الفهم الساذج للتاريخ والزمن كما كان الأمر لدى هيجل، الفيلسوف الذي أسس فلسفة التاريخ وأنهاها في الوقت نفسه: أليس العقل المطلق هو نفسه فلسفة هيجل بعد أن ركضت عبر كل التاريخ في حركة ديالكتيكية لكي تستقر في النهاية وتتوقف عنده وعند المسيحية وعند الدولة البروسية ؟ تعني التاريخانية العودة إلى النقطة التي بدأ منها ديكارت وفكر الحداثة برمته. أليس هذا فهما ساذجا للزمن ؟ أليس عودة بئيسة للوراء، سلفية متنكرة في تاريخانية هيجل، والحال أننا أمام حاضر لا يكف عن الحركة والاختلاف. وماذا عن الإيديولوجيا حينما نحددها ونسميها عربية معاصرة ؟ عن أية إيديولوجيا نتحدث ؟ وهل ضروري أن نتحدث عن إيديولوجيا ؟ إننا أمام اشتباه في فهم التاريخ والإيديولوجيا على السواء: " إن مساءلة العرب ما يزال يحجبها إيديولوجيونا الذين تشغلهم كثيرا السياسة الراهنة "
يتحدث الخطيبي عن ثلاثة تحولات لدى هؤلاء الإيديولوجيين: - النزعة التراثية هي الميتافيزيقا وقد تحولت لاهوتا يقوم على فكرة الواحد الأحد أو بلغة الإغريق الموجود الأول أو العلة الأولى – النزعة السلفية هي الميتافيزيقا وقد تحولت مذهبا وسياسة – العقلانية هي الميتافيزيقا وقد تحولت تقنية. فالمشترك لدى النزعات الثلاث هو غياب سؤال الوجود، وسؤال الحاضر ! فكل هذه النزعات تدعو إلى ولادة ثانية: " ولادة ثانية لأي شيء ؟ نحن تراثويون بنسيان التراث، مذهبيون بنسيان فكر الكائن، وتقنيون بالعبودية " في الواقع هي ولادة للتكرار الذي لا يعرف الاختلاف، فيكون غشاوة سميكة من الوهم السياسي على الأعين. لم يكن باستطاعة الفلسفة السياسية الحديثة في الغرب أن تبدع وتبتكر المفاهيم الأساس لولا ارتباط أصحابها بالحاضر، منذ ماكيافيل إلى هيجل مرورا بكانط الذي كان سؤاله عن الراهنية والحاضر أمرا ملفتا للنظر.
غياب سؤال الحاضر مؤداه هذا البؤس الحضاري والوجودي كانمساخ لهوية تعتقد جادة أنها تبحث عن النور، والحال أنها تختفي متشبثة بلاهوت عنيف ومدمر يبتعد عن الأرض والجسد بقدر قربه من العالم الآخر، حيث تقبع كل الآلهة منذ السديم Chaos إلى زوس Zeus وأجداده وأحفاده الأشد تعاليا على الأرض، وقد كان هذا سببا في هستيريا الضحك الذي أصاب آلهة الإغريق: لأنهم استغربوا أن تنكر عنهم سيادتهم وسيادة من أتى بعدهم وتنحصر في الواحد الأحد الأرسطي.
بيد أن التاريخانية قد تتحول إلى لاهوت، حينما تفترض غاية عليا تسيره وتدبر أمره نحو المطلق، تماما كما صاغ ذلك هيجل. والحال أننا مطالبون بمساءلة أنفسنا بموازاة مع مساءلة الآخرين لما أننا موجودون في كونية واحدة ومسار واحد: التقنية. يجب البحث بالأحرى وتفكيك هذه التاريخانية الهشة والبحث عن مكان في أرض خلاقة Reterritorialisation.
لا تستطيع هذه النزعات أن تكون في مستوى ما تعنيه الهوية، أي الهوية بوصفها حركة وقوة، وبالتالي غير ثابتة ومتجددة ولها أرض جديدة reterritorialisée بدل السقوط في الهوية العمياء التي تعتقد بسذاجة القدرة على المؤالفة بين اللاهوت والتقنية: " على المغرب كأفق للفكر وينبوع للفن أن يكون في مستوى جذرية الوجود هذه. أي أن عليه أن يتجه نحو الزمن الجامع لمغرب لا ينسى ولا يمكن أن يحاصره لا قانون البشر ولا السور الميتافيزيقي " . إن مجيء التقنية هو مجيء أيضا لفهم خاص للوجود، فهل تستطيع الهوية الوحشية، بكل ألوانها ومسمياتها، أن تتحمله مع الضمانة بأنها لن تتبعثر وتأول إلى ميتافيزيقا أخرى لا تقل بأسا.
ليست النزعة التراثية مجرد نزعة، ولا السلفية مجرد نزعة، إنهما نظرتان هشتان للوجود، ومن ثمة القصور والضياع في العالم المعاصر الذي تشكل فيه التقنية ما يسميه هيدجر إرادة الإرادة Le règne du vouloir، تلك التي تجعل البشر منجرين في استلاب مملوء بالمخاطر؛ لذلك لا تستطيع لا النزعة التراثية ولا السلفية ولا العلمانية ... أن تكون أفقا للفكر إلا إذا طرحت جذريا مسألة الوجود واستدراك ما تم نسيانه، وبذلك تكف عن أن تكون تراثية أو سلفية أو علمانية.
ليس النسيان شيئا تم إغفاله وتركه، بل هو شيء تم إحضاره مكان شيء آخر، وفي الحالة هذه، إن التراث والسلف والعلمانية أشياء أخرى تم إحضارها مكان الحاضر وعوضا عنه. النسيان في هذه الحالة هو تبني حقيقة ليست حقيقتنا، وإرادة ليست إرادتنا، وتلك هي حالة النزعات التراثية والسلفية والعلمانية.
ليست التقنية شرا في ذاته ولا هي خيرا في ذاته " إنها المصير الكوني للعالم وانتشارها لا يقاومه أي مجتمع ... حيث يقيم الإنسان تكون التقنية مقيمة كأرض ثانية " ، فمواجهة التقنية مسألة كونية وتهم كل البشر، لذلك لا يستطيع الاختلاف المتوحش أن يواجهها. هناك دعوة لكل البشر في هذا الكون، للإنصات لصوت الوجود، والسؤال عن ماهية التقنية حيث تحول البشر إلى آلة قد تدمر العالم وتدمر الإنسان نفسه. فالإنصات أصبح مسألة عاجلة لتفادي هذا التدمير، ولأنه شامل، فإنه يخص كل البشرية، ومن ثمة فإن كل أشكال فكر الهوية المطلقة والعمياء أصبح حقا خطرا إضافيا يزيد من حدة الخطر. لذلك وجب الرجوع إلى السؤال الأصيل: ما هي هذه التقنية التي جمعت في قبضة واحدة كل مصير البشر والكون. والحالة هذه، فإن كل فكر ميتافيزيقي أو إيديولوجي أصبح عبئا ثانيا على البشرية، ومن ثمة نشأت الحركات القومية والإصلاحية المتزمتة.
إن فكر " النحن " لم يعد له من مسوغ، إذ من نحن ؟ لو ذهبنا بهذا السؤال في طريق الفكر الجذري الثاقب وغير المسكون بالهوية العمياء، لن نجد لنا أصلا ولا حتى بداية ! فكر النحن هو من أسوأ أشكال الميتافيزيقا في عالمنا المعاصر. فكل الخطابات التي تبنى على الفكرة الساذجة للنحن، إنما تحجب علينا فكرة الكونية التي أصبحت واقعا كونيا لا يمكن لأحد أن يستفرد به أو يطغى عليه. والانخراط في هذه الكونية والمساهمة في السؤال عن مصير الكون والبشر، أصبحا من الضرورات الملحة والمستعجلة. على سبيل المثال، حيثما اجتمعت الدول الثمانية الأكثر " تقدما " فإن من يتجمهر للاحتجاج، ليس الطبقة أو اللون أو الجنس أو العرق ... وإنما جمهرة من ساكنة الكون يتجمع فيها سكان الأرض من كل العالم للاعتراض والصراخ.
علينا أن نتأمل في مسألة المغرب انطلاقا من هذه المنظورية، لكي نلحق أن نساهم في معالجة هذا المأزق الذي يعترض الجميع. يقتضي هذا أن نعيد النظر في مسألة المغرب وفي مسألة النقد: النقد المزدوج الذي يعي تزاوج شكلين من الميتافيزيقا، وبالتالي توجيه نقد مزدوج لهما " نحو فكر سيد، يتيم في غاية اليتم ".
ألا ينبغي التفكير في الموت بوصفها جدارة، شيئا جديرا بالاهتمام ؟ المسألة هنا تتعلق بالنبل. وليس المقصود بهذا الأخير، الأسماء الجليلة والدم الأزرق، بل المقصود، هو النظر إلى وضع الإنسان التراجيدي الذي يستلزم إرادة قوة تحطم كل الحقائق التي بنيت ضمن إرادة قوة لم تعد إرادتنا ولا حقيقتنا، لكي تبني وتشيد الحقائق التي تخصنا. هذا وحده فقط يجعلنا جديرين بالموت: " إن جدارة الإنسان هي أن يستحق موته بين الموتى " . تماما كما كان يحصل في أرض الأولمبياد على عهد التراجيديا الإغريقية.
كان عبد الكبير الخطيبي أول وأظن آخر من طرح السؤال الجذري حول مفاهيم " الهوية " و" الاختلاف " ووهم " النحن "، وذلك منذ سنة 1970، وهذا أمر ملفت للنظر، في حين كانت كل المناولات التي تحوم حول المغرب والعرب تبين عن سبات أنثروبولوجي عميق. هذا العقل الفذ والثاقب لم يلق ما يستحقه من تقدير واحترام، في حين كانت الأعمال الفكرية التي تدور في فلك العقيدة أو السياسة تلقى رواجا كبيرا لا توقفه إلا تغيرات الموجات الإيديولوجيا التي كانت تتوالى وتتبادل المواقع والمنازل. إنها خسارة فادحة لا أعتقد أن أحدا انتبه إليها باستثناء القلة القليلة، تلك التي حصلت بمغادرة عبد الكبير الخطيبي لعالمنا، غير أن رسالته لا تزال ترن وسترن أكثر بمقدار خطورة المأزق الذي مافتئ يكشر عن أنيابه. مثل هؤلاء المفكرين يسبقون دائما عصرهم Posthume ويكتبون للعصور القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السداسية العربية تصيغ ورقة لخريطة طريق تشمل 4 مراحل أولها عو


.. آخرهم ترامب.. كل حلفائك باعوك يا نتنياهو




.. -شريكة في الفظائع-.. السودان يتهم بريطانيا بعد ما حدث لـ-جلس


.. -اعتبارات سياسية داخلية-.. لماذا يصر نتنياهو على اجتياح رفح؟




.. ماذا قال المطرب الهندي شبيه الرئيس الراحل مبارك للشعب المصري