الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بولس – 12 – بولس والنص اليهودي

حسن محسن رمضان

2015 / 3 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(اختار الله جهال العالم ليُخزي الحكماء)
بولس مخاطباً المسيحيين من أهل كورنثوس واصفاً إياهم بـ "الجهال"، رسالة بولس الأولى لهم، 1: 27



تطرقت في المقالة السابقة إلى مثال واحد لاستخدام بولس للنص اليهودي في رسائله التي وجهها إلى أتباعه من المسيحيين الأوائل، ووضعت "نصه" في ذلك المثال في إطاره النقدي الصحيح. وبينت هناك أن بولس، وباختصار، وبصفة عامة، (لم يكن أميناً) في نقله للنصوص اليهودية المقدسة خلال استدلاله على عقائده التي اخترعها، ولكنها كان (يتعمد) تغيير معناها، أو اخراجها من سياقها، أو حتي (تزييفها) كما سنرى أمثلة على ذلك أدناه. ولكن، ومن جهة أخرى، بولس كان يكتب رسائله لمجتمعات هيلينية وثنية، وبالتحديد لطبقات غير متعلمة وليست مثقفة وأمية في غالبيتها حتى ضمن فضائها الوثني، وهذا لم يجعله فقط جريئاً، إن صح التعبير، في (تزير) النص اليهودي ودلالاته لخدمة عقائده، ولكنه جعله أيضاً لا يتحرج إطلاقاً حتى في (شتيمة تلك المجتمعات المسيحية الأولى التي صدقت دعوته) إما من خلال اللفظ المباشر وبوضوح لا يخفى، أو خفية وبتمويه على المعنى الحقيقي وذلك من خلال اقتباسات تتكلم، مثلاً، عن (أولاد زنى) كما رأينا في المقالة السابقة ولكنه جعل معناها في أتباعه المسيحيين الأوائل. بولس كان (يعي ويعرف مقدماً) المستوى الفكري والمعرفي والثقافي المتواضع جداً لأتباعه المسيحيين الأوائل، وهو، (ولهذا السبب بالذات ودون غيره)، استهدفهم لدعوته لإلهه الجديد يسوع. ولكن بولس أيضاً لم يكن يدور بخلده إطلاقاً أن رسائله تلك، التي تحتوي على نقوله غير الأمينة، وتزويره المتعمد، وتلاعبه في الدلالات اللغوية للنص العبري المقدس من العهد القديم، مضافاً لها شتائمه لأتباعه ومخالفيه، سوف تتحول بعد حوالي قرنين من الزمان إلى "نص مقدس"، معصوم، وموحى به من الروح القدس، وتُجمع في كتاب جديد يُسمى بـ "العهد الجديد". فلو كان بولس يعرف مقدماً أن رسائله تلك سيتم حفظها، وأن "دينه الجديد" هذا سيستمر بعد حياته، لرأينا (بالتأكيد) رسائل لبولس (مختلفة جداً)، ولرأينا معها مسيحية (مختلفة جملة وتفصيلاً، عقيدةً ومحتوىً) عما نراه اليوم. موضوع هذه المقالة هي أمثلة أخرى على ذلك (التزوير)، وعلى تلك النقول (غير الأمينة)، التي استخدمها بولس في رسائله لأتباعه.

كتب بولس رسالته لأهل رومية وهو (لم يلتقيهم من قبل ولا هم رأوه قبلها). فعلى عكس أهل غلاطية وكورنثوس، مثلاً، الذين رأوه وزارهم بل ونجح (شخصياً) في تحويلهم لمعتقده الجديد في إلهه الجديد "يسوع" قبل أن يكتب رسائله إليهم، فإن أهل رومية [روما] قد سمعوا عنه فقط من مصادر مختلفة، قد تكون معه أو ضده. ولهذا السبب (اختفت نبرة بولس المعهودة مع أتباعه)، فلا يوجد مرادف في رسالته لأهل رومية لعبارته الشهيرة لأهل غلاطية مثلاً عندما كتب رسالته لهم: (أيها الغلاطيون الأغبياء) [رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 1و 3]، أو اعترافه بأنه (أذكى)(!!) من أهل كورنثوس وأنه أخذهم بمكر واحتيال: (لكن، إذ كنتُ محتالاً، أخذتكم بمكر) [رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 12: 16]، هذه كلها اختفت في رسالته إلى أهل رومية. ولكن، ومع هذا، فإن بولس، وكما هو بديهي ومنطقي وواضح، (لم يوجه رسالته "لكل" أهل روما [رومية] كما يوحي اسم الرسالة اليوم في العهد الجديد) أو ربما كما يوحي ما جاء في مقدمة الرسالة (الى جميع الموجودين في رومية احباء الله مدعوين قديسين) [1: 7]، لكن بولس وجه رسالته تلك لجماعة (صغيرة) كانت (قد تحولت أصلاً لعقائده المسيحية بواسطة أتباع بولس الذين أرسلهم هناك وأنشأت كنيسة هناك) بدليل أن بولس يقول لهم (أشكر إلهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم يُنادى به في كل العالم) [1: 8] ويقول لهم (لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم) [1: 11]، ثم بعد ذلك يذكر أتباعه بالاسم في ختام رسالته ويخص بعضهم بالسلام الحار: (أوصي إليكم بأختنا فيبي، التي هي خادمة الكنيسة [...] سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع [...] وعلى الكنيسة التي في بيتهما. سلموا على أبينتوس حبيبي ... الخ الخ) [انظر الأصحاح 16 في رسالته إلى أهل رومية]. إلا أن بولس، وعلى الرغم من عدم التقائه بالمتحولين الجدد في تلك الجماعة الناشئة هناك، فإنه (لم يتخلى عن طبعه في الحط من شأن أتباعه واستغلال جهلهم بالنصوص المقدسة اليهودية لصالح اثبات عقائده). فكما رأينا في المقالة السابقة (بولس – 11 – بولس والنص اليهودي) [انظر الهامش رقم 1]، فإنه اقتبس نصوصاً في سفر هوشع كانت تتحدث عن (أولاد زنى)، فأوهم بها أتباعه، لجهلهم بها، بأنها (تتحدث عنهم، وأنها نبوءة فيهم)(!!!)، وأنهم، بسبب تلك النصوص، سيكونون شعب الله الجديد، فإنه سيتمر على ذلك المنوال في استغلال (جهلهم) بأدلته وبنصوصه كما هو واضح. بالطبع، لم يكن ذلك كله (فقط) (تدليساً وكذباً) من جانب بولس عليهم، ولم تكن (فقط) (شتيمة (مُبطنة ومخفية)، ولكنها أيضاً توحي (باحتقار ساخر أيضاً من جانب بولس لأتباعه) [انظر الهامش رقم 1 للتفاصيل]. إلا أن ممارسة بولس تلك في رسالته إلى أهل رومية لم تقف عند هذا الحد، فهو (يعي أن أتباعه هؤلاء مجموعة من الجهال محدودي الثقافة في النصوص اليهودية المقدسة)، ولذلك هو استغل تلك الصفة إلى أقصى درجة ممكنة في تلك الرسالة. فلنقرأ الآن بعض الأمثلة.

من الواضح أن هؤلاء المتحولين الجدد إلى المسيحية على يد مَنْ أرسلهم بولس إلى روما كانوا حائرين تجاه العديد من القضايا غير المفهومة [تلك العقائد المسيحية في الحقيقة لا تزال هلامية وغير مفهومة حتى هذه اللحظة]. من هذه القضايا التي على ما يبدو أنها أرّقت منام المتحولين الجدد في روما هو سؤال: (إذا كان يسوع هو المسيح اليهودي التي بشّرت به نصوصهم كما يقتبسها لهم دعاة بولس لإقناعهم، فكيف لم يؤمن به اليهود في فلسطين ونبذوه وتركوه مقتولاً على الصليب، أحط أنواع القتل مهانة في العصر الروماني؟!). ويبدو أن هذا السؤال كان من الإلحاح والتكرار بحيث اضطر بولس لأن يجيب عليه بما يحتل اليوم أصحاحاً كاملاً في رسالته تلك. أتى ضمن ذلك الاحتجاج والتبرير من جانب بولس لأهل رومية، أنه في النهاية، أي عند نزول يسوع من السماء راكباً على مركبته الفضائية المصنوعة من الغيوم، فإن كل اليهود سيؤمنون به ولكن ليس الآن (!!). ولإثبات رأيه هذا قال لهم الآتي:

(وهكذا سيخلص جميع إسرائيل. كما هو مكتوب: "سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب، وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم")
[رسالة بولس إلى أهل رومية 11: 26-27]

هناك (قاعدة تكاد تكون ثابتة) في النصوص المسيحية المقدسة، نصوص العهد الجديد، أي الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال والرسائل، وهي:

(إذا رأيت في نصوص العهد الجديد أن موضع الاقتباس من نصوص العهد القديم قد تم إبهامه والتعمية عليه، كأن يُقال: [كما هو مكتوب] أو [قيل بالأنبياء] أو ما شابه هذه العبارات، فشُكّ في الأمر مباشرة. لأن هذا الاقتباس على الأرجح، وفي الأعم الأغلب، قد تم التلاعب به بطريقة أو بأخرى. بل يوجد لدينا مثال على ادعاء لاقتباس من العهد القديم في إنجيل متّى لا وجود له أصلاً في نصوص العهد القديم).

ما فعله بولس أعلاه لا يشذ عن هذه القاعدة. فما اقتبسه بولس لهؤلاء المساكين المتحولين الجدد للمسيحية من أهل روما هو مثال آخر على (تعمد بولس استغلال جهل أتباعه ومحدودية معرفتهم بالنص اليهودي) في سبيل (إسكات) اعتراضاتهم بطريق (التزوير والخداع) والتلاعب في حرفية النص اليهودي المقدس. النص اليهودي الذي اقتبسه بولس لهؤلاء المساكين من أهل روما هو من (سفر إشعياء)، وهو:

(ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب، يقول الرب. أما أنا فهذا عهدي معهم، قال الرب: روحي الذي عليك، وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب، من الآن وإلى الأبد)
[أشعياء 59: 20-21]

وحتى يعي القارئ الكريم ما فعله بولس، سوف أضع نص بولس إلى جانب النص الأصلي عند أشعياء:


أولاً:
تزوير الضمائر

النص الأصلي في أشعياء:
(يأتي الفادي [إلى] صهيون)

النص بعد تعديل بولس عليه:
(سيخرج [من] صهيون المنقذ)

هنا، وكما هو واضح، لا يستطيع بولس أن يقول لهؤلاء المساكين أن "الفادي" سيأتي (إلى) صهيون، أي اليهود، فهو سوف (ينسف دعوته من أساسها) لأن "إلى" تفيد هنا الحصر كما هو واضح، ولا مكان لهؤلاء المساكين من أهل رومية في مسيحهم هذا الذي آمنوا به على يد أتباع بولس واعتقدوا أنه جاء لخلاصهم. فما كان من بولس إلا أنه استبدل كلمة [إلى] في نص أشعياء الأصلي، بكلمة [من]. ولا أعتقد أن الأمر هنا يحتاج مزيداً من الشرح، فالقصد والهدف والفعل شديدي الوضوح.


ثانياً:
تزوير مهمة المسيح أو الفادي

النص الأصلي في أشعياء:
(وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب)

النص بعد تعديل بولس عليه:
(ويرد الفجور عن يعقوب)

النص في أشعياء يتكلم عن الذين تابوا [قبل] مجيء الفادي. بالطبع، هذا لا يفيد قضية بولس ولا في دفع اعتراضات أهل رومية المساكين ولا إجابة تساؤلاتهم عن سبب عدم إيمان اليهود بهذا المسيح – الإله الجديد، يسوع. فكان الحل عند بولس هو (إعادة صياغة النص اليهودي بأكلمه ليخدم غرضه)، ولن يكتشفه هؤلاء المساكين من أهل رومية على أية حال. (هو يعرف هذا مقدماً). ولهذا السبب حوّل النص وغيّر فيه ليجعل نص أشعياء يقول: (ويرد الفجور عن يعقوب)، أي عندما يأتي يسوع سوف يتحول جميع اليهود، أي الذين فجروا بعدم الإيمان به، إلى المسيحية ويؤمنوا به. فهو، وببساطة شديدة، (زوّر مهمة الفادي اليهودي). فعند اليهود هو يأتي للذين تابوا [قبل] قدومه: (وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب) [وبالمناسبة، لا تستطيع أن تفهم أغلب تصرفات الجماعات اليهودية التي كانت تؤمن بقرب نهاية العالم، ومنها جماعة قمران وتصرفات يوحنا المعمدان وتلميذه يسوع وتعاليمهما، إلا بواسطة فهم هذا النص في أشعياء]، بينما هي عند بولس، وعند العقيدة المسيحية بالطبع بسبب تزوير بولس هذا في النص اليهودي، سوف يتوب اليهود [بعد] مجيئه. وبهذا (التزوير) أجاب بولس على تساؤل أهل رومية بأن اليهود، كلهم، سيأمنون بإلهه الجديد هذا، ولكن عليهم الانتظار حتى (قدومه الثاني)(!!!).


ثالثاً:
تزوير العهد الذي تولاه الإله اليهودي

النص الأصلي في أشعياء:
(أما أنا فهذا عهدي معهم، قال الرب: روحي الذي عليك، وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب، من الآن وإلى الأبد)

النص بعد تعديل بولس عليه:
(وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم)

النص الأصلي في أشعياء (ينسف دعوة بولس من أساسها ويصمها بالخديعة والكذب). فها هو الإله اليهودي يقول بالنص، في نفس الموضع الذي اقتبسه بولس لأهل رومية المساكين من دون معرفة منهم، يقول هذا الإله: (أما أنا فهذا عهدي معهم، قال الرب [...] لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب، من الآن وإلى الأبد)، ولا مكان، إطلاقاً، لا من قريب ولا من بعيد، للأمم (غير اليهودية) فيه. فمن (رابع المستحيلات) أن يقتبس بولس هذا النص (بحرفيته) لأهل رومية المساكين، وإلا لسقط دينه الجديد، ومعه (عهده الجديد)، من أساسه. فماذا فعل بولس؟

الإجابة واضحة بالطبع: (زوّر النص اليهودي المقدس بأكمله، جملة وتفصيلاً، وتلاعب فيه)، وليستبدل بكلماته الحصرية في اليهود بهذه العبارة: (وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم)، ولم ينسى أن ينسب تزويره هذا لنفس هذا الإله الذي يدعو له مع ابنه يسوع بالطبع وحامل رسائلهما (روح القدس) بالطبع. فجعل (العهد) الذي نطق به الإله اليهودي في أشعياء مشروطاً بإيمانهم بيسوع عندما ينزل من السماء راكباً على مركبته المصنوعة من الغيوم.

هل رأيت (تزويراً جريئاً واضحاً إلى حدود اللامبالاة والاستهتار مع الاطمئنان من العواقب الذي لا يتطرق إليه الشك) قبل ذلك؟

هذا بولس أعطاك مثالاً باهراً.


........يتبع



هــــــــــوامـــــــــــــــش:

1- بولس – 11 – بولس والنص اليهودي

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=458243








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا على هذه القاعدة سأستخدمها في بحثي
الدكتور سليمان المصاغبي ( 2015 / 3 / 13 - 10:33 )
القاعدة في المقالة
هناك (قاعدة تكاد تكون ثابتة) في النصوص المسيحية المقدسة، نصوص العهد الجديد، أي الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال والرسائل، وهي:

(إذا رأيت في نصوص العهد الجديد أن موضع الاقتباس من نصوص العهد القديم قد تم إبهامه والتعمية عليه، كأن يُقال: [كما هو مكتوب] أو [قيل بالأنبياء] أو ما شابه هذه العبارات، فشُكّ في الأمر مباشرة. لأن هذا الاقتباس على الأرجح، وفي الأعم الأغلب، قد تم التلاعب به بطريقة أو بأخرى. بل يوجد لدينا مثال على ادعاء لاقتباس من العهد القديم في إنجيل متّى لا وجود له أصلاً في نصوص العهد القديم).

سأستخدمها في البحث الذي اعده الان عن المسيحية المبكرة وساشير لمقالتك كصاحب الفضل فيها مع الامثلة المصاحبة من مقالاتك

شكرا استاذ رمضان


2 - بارك الله فيك
مهدي ( 2015 / 3 / 29 - 21:26 )
بارك الله فيك كاتبنا, أستمر في كشف الحقيقة .

اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا