الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصفاتية بين الوثوقية واللاادرية

هادي اركون

2015 / 3 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



هل يمكن تطويع لغة تشبيهية ملتبسة وذات حمولة أنثروبولوجية مثل العربية للتعبير عن التنزيه ؟
هل يمكن التمسك بموقف إثبات الصفات دون تأويلها ، دون السقوط في موقف لا أدري ؟
أليست اللاادرية ،موقفا غير ممكن وغير مستساغ في محيط ثقافي ،موسوم بالمنافسات الرمزية والحروب التأويلية بين العقائد والمذاهب والفرق مثل المجتمع الأموي والعباسي ؟
شغلت آيات الصفات الضمير الإسلامي،طويلا ،وتعددت وجهات النظر إلى حد التضارب؛فتراوحت الآراء بين التشبيه والتفويض والتعطيل ،تبعا لأنظمة الفكر المعتمدة وللمواقع السياسية للفرق المختلفة .
والحقيقة أن جزءا من إشكاليات هذه الآيات ،إنما يرجع إلى تشبيه ومجازية اللغة العربية ،أي إلى مكنوناتها الأنثروبولوجية البعيدة . وأيا كان الجهد المبذول لأسلمتها ،فإن تجليات تلك المتضمنات ،كثيرا ما تبرز لتخلق إشكاليات ،قادت الوعي الإسلامي إلى شفاء فكري وإلى تطاحنات سياسية ومذهبية لم تنته بعد.
((أخرج أبو القاسم اللالكائي في" السنة " عن طريق قرة بن خالد ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة في قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى ) قالت : الكيف غير معقولا ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .) 1-
يختار السني التفويض ،تجنيا للتشبيه والتجسيم من جهة ،و للتعطيل والنفي والزيغ من ناحية أخرى .
مما لا شك فيه ،أن جزءا من السلف ،ارتضى الصفاتية ،لافتقاره للآليات المعرفية ، الضرورية للتأويل ولتمسكه بسلطة النصوص . ولذلك فهو لا يهتم باليقين النظري ،قدر اهتمامه باليقين العملي ، أي بالاحتكام إلى سلطة الفقه .
(وجمهور أهل السنة .منهم السلف وأهل الحديث . على الإيمان بها ، وتفويض معناها المراد بها إلى الله تعالى ، ولا نفسرها ،مع تنزيهها له عن حقيقتها . ) 2-
ففيما يترفع عن تأويل آيات الصفات ،خوفا من الزيغ وإساءة التأويل رغم حرصه المفترض على احترام مقتضبات البيان العربي ، فّإنه لا يترفع عن مزاولة القياس الفقهي ،علما أن هذا القياس ككل القياسات البيانية ، ظني لا قطعي .
يبدو أن الاحتياجات العملية ، ولا سيما السياسية ، تفرض عليه ، القطع في الفقهيات والتفويض في النظريات .
يغطى الموقف التفويض لا أدرية ،ظاهرة ، بالركون إلى التسيلم والاقتداء بالسلف ؛وهو موقف ينبئ عن استقالة فكرية وعن منحى إتباعي ،لا يقنع المناظر الآتي من آفاق مسيحية أو مانوية أو المتشكك النافي للأصول ذاتها .
فمن الصعب إقناع الكتابيين والثنويين والمتشككين ،بالتنزيه ،دون الرد على إلزاماتهم ودفاعاتهم ؛خاصة و أن الطوائف المسيحية والمانوية واليهودية ، ذات أرصدة حجاجية واستدلالية ،ودفاعية معلومة ومعروفة منذ قرون .
فإن كانت الإحالة إلى النصوص ،كافية لإقناع بعض المتناظرين من داخل الدائرة الإسلامية ، فليس ممكنا إقناع من يوجد خارج تلك الدائرة ولا يسلم بصدقية النصوص المؤسسة بالتنزيه الإسلامي.
فقد اقتضت ردود و إلزامات الخصوم العقديين ، من الطوائف المسيحية والمانوية واليهودية ، دفع تهمة التشبيه والتجسم ،و الكشف عن تفرد التنزيه القرآني بالمقارنة مع التصورات الكتابية حول الألوهية .
ففيما انبرى المعتزلة،بعد أبي الهذيل العلاف خاصة ، إلى بلورة جهاز نظري ،لإقرار التنزيه المطلق ،وذلك عبر نفي الصفات والقول بخلق القرآن،فّإن خصومهم ،تمسكوا بظواهر النصوص أو بالتفويض و ذم تأويل المتشابه ،خوفا من الفتنة والزيغ و الخروج عن جادة السلف.
(إن التأويل أمر مضنون بالاتفاق ، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز ، فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ ؛ بل نقول كما قال الراسخون في العلم : كل من عند ربنا :آمنا بظاهره ،وصدقنا بباطنه ،ووكلنا علمه إلى الله تعالى ، ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك ؛ إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه .) 3-
يكتفي الصفاتي ،بإشهار سلطة السلف وسلطة النصوص الموازية (أحاديث تجسيمية وتشبيهية صريحة ) ،ضد المؤول والمعطل ،وبإشهار سلطة الذمة ،ضد الخصم الكتابي وسلطة القوة والقهر السياسي والحضاري ضد المانوي أو المتشكك في الأصول جملة(ديوان الزنادقة أيام المهدي ).
إلا أن الصفاتيين ،تصدوا ،فكريا وسياسيا ، للتأويل الاعتزالي والجهمي ، ولم يفرقوا بين صفات الذات وصفات الفعل ،وثبتوا الصفات الخبرية (الوجه واليدان والعين واليمين والقدم والأصابع والعلو والاستواء ...... ) ،عبر التسليم بالظواهر و وضع الأحاديث الداعمة للصفات( حديث النزول،الحديث المثبت للصورة لله .... الخ) .
يقود جزء من التناول السني لهذه الإشكالية إلى اللاادرية ،في الظاهر ،أي إلى منطقة ملتبسة معرفيا وفكريا وسياسيا؛ و من الصعب تبرير ذلك في ثقافة قائمة على الوثوقيات وعلى استكمال شرائط التنزيه .ثم إن مطالبة الآخرين بالتنزيه ،دون استيفاء شروطه ، مما يستثير ريبة الناظر الخارج عن الدائرة الفكرية الإسلامية( دفاع يوحنا الدمشقي على قدم عيسى استنادا إلى قدم الكلمة ) .
يفسر الصفاتيون موقفهم اعتمادا على سلطة السلف ؛فبما أن السلف ثبت الصفات ،فإنهم يقفون الموقف ذاته ،رغم اختلاف الظروف والسياقات الحضارية.
لا يجدي إشهار سلطة السلف نفعا ، إلا في أوساط سنية مشغولة بالنصوص وبحجيتها ؛وهي معدومة الجدوى،قطعا ، في أوساط شيعية أو خارجية أو اعتزالية ، لا تنفك عن جرح السلف واستشكال مواقفهم الفكرية والسياسية .
لقد احتاج الصفاتيون ،إلى اصطناع مدونة موازية لمحاصرة التأويل الجهمي والاعتزالي ، والتوفيقات الأشعرية،وتقديس السلف الأول ،رغم اختلاق السياقات التاريخية والثقافية .
إن للتأويل مقتضيات معرفية ومنهجية ،لا يمكن استيفاؤها إلا في مجتمع ناهض حضاريا . وهذا ما يفسر سبب اشتعال حروب التأويل حول الصفات ، بين الصفاتية و المفوضة والمعطلة طيلة العصر العباسي . كما يعزى الانتقال من التفويض أو التأويل إلى الصفاتية الأكثر تشددا ،إلى بداية التراجع الحضاري إبان العهد السلجوقي خاصة .ويعكس تراجع أبي حامد الغزالي عن المنهجية الكلامية واعتناقه طرق الصوفية وعودة أبي المعالي الجويني إلى طرائق السلف ، تراجع الأطر الاجتماعية للفكر العقلاني بعد الفترة البويهية ،وافتتان المفكرين ،الزائد باللاعقلانية .
(وذهبت طائفة من أهل السنة : على أننا نؤولها على ما يلق بجلاله تعالى ؛ وهذا مذهب الخلف . وكان إمام الحرمين يذهب إليه ، ثم رجع عنه ، فقال في الرسالة النظامية : الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا ، إتباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها . ) 4-
وأيا كانت الاختلافات بين الصفاتية والمفوضة ،فإن موقفهم النظري متقارب . فالقاسم المشترك بينهما ،هو اللاادرية المعرفية وغياب التحقق في مسألة هي أم المسائل بالنسبة للفكر الديني .
فتفويض علم الكيفية إلى الله ،يوحد موقفي الصفاتية والمفوضة .فرفض التكييف والتأويل ،والبث في مسألة الصفات ، أمر غير مستاغ لكونها مسألة خلافية جوهرية لا يمكن الترفع عن معالجتها أيا كانت الأعذار .
( - ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة .فإذا صرح بنفي هذا عسر تصور ما جاء في صفة الحشر من أن الباري سبحانه يطلع على أهل الحشر وأنه يتولى حسابهم ، كما قال تعالى : " وجاء ربك والملك صفا صفا "( الفجر 22) .)5-
ولما كانت هذه المسألة الاختلافية جوهرية ،فلا يمكن تبرير التحوط الزائد في معالجتها ،والمطالبة بمراعاة منهاج الشرع وطرق التصديق كما صنع ابن رشد .
(والواجب عندي ، في هذه الصفة ،أن يجري فيها على منهاج الشرع ، فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات ، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (الشورى 11) ، وينهى عن هذا السؤال .) 6-
تتغلب سلطة النصوص ، على سلطة الفهم ،لدى الصفاتية والمفوضة على السواء .
فالعقل قاصر ،بالقياس مع أنظار السلف .والحال أن الزامات الخصم ، تستدعي ،الانكباب على الإشكال ، لا الاحتماء وراء سلطة غير مسلمة ، حتى في المقاييس الإسلامية نفسها .
لا يمكن تفويض علم الكيفية إلى الله ورفض تأويل آيات الصفات ،مادام الخصم وهو عالم كتابي أو ثنوي أو طبائعي ملم بأصول المقالات و المناظرات ،يلح على تشبيهية النصوص وتجسيميتها ،ويقدح واقعيا وصراحة في صفاء التنزيه القرآني .
فالخصم ،المدعو للقطع مع تشبيهه وتشريكه (اليهودي والمسيحي )، يذكر بنصوص تشبيهية في النص المؤسس ،ويطالب ،صراحة ، ببناء نظرية عن الألوهية والتنزيه ،أو بلورة نسق تأويلي ناجع ،على غرار ما بلورته ثقافته الخاصة .وعليه ، فلا يمكن التعويل على المرويات المنسوبة إلى مالك بن أنس أو سواه لإقناع المتشكك الكتابي أو المؤول العقلاني ، بإثبات الصفات ورفض التكييف والتأويل أو التعطيل .
إن خشية الزيغ ، لا تمنع من قبول واستحداث نصوص موازية ووضع أنظار فقهية ظنية ، بما لكل لذلك من نتائج سياسية وفكرية واجتماعية .
والحقيقة أن لا أدرية الصفاتي ، ليست إلا مناورة لإبعاد النصوص المشكلة عن التأويل ،أي عن استكشاف بعدها الإنساني .
يسعى الصفاتيون إلى الإقرار في معرض الاستشكال ،والتسليم في معرض التناظر والتحاجج .ففيما يطالب المناظر الكتابي والثنوي ،بالنظر إلى النصوص من منظور العقل الطبيعي ، يتمسك الصفاتي ،بالتسليم بمضمناتها دون مساءلة أو تأويل ولو كان جزئيا واقفا عند حدود ما يسمح به البيان العربي ؛ ومن المحقق أن اللغة العربية ، ليست مرجعية للآخر ، أي للمنتمي إلى ثقافية غير الثقافة العربية .
إن سلطة السلف ، لا تلزم إلا القائل بها ،أما من يرفضها ، باسم الاستقلالية الذاتية أو باسم مرجعيات عقدية أو مذهبية مختلفة ، فلا تلزمه البتة .ولا ننسى أن استشكال مرجعية ومرويات السلف ،يرتبط بالتشكك في الأسانيد وكثير من الأحاديث المتضمنة للتشبيه ،صراحة .فالمعتزلة يدفعون كثيرا من الأحاديث ، المناقضة للتنزيه والعدل الإلهي ،ويشككون في صحتها وشرعيتها .
فكما لا تقنع النصوص القرآنية أو الحديثية ، الخصم ، فإن الإحالة على مرجعية اللغة والبيان العربي ، لا تقنعه ، لأنها خاصة بثقافة لها مواضعاتها الخاصة . وهذا ما يفسر ،استعانة المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة ،بالمنظومة الأرسطية ولا سيما المنطق الصوري ،في الدفاع عن المقررات الشرعية .
لقد تمسك الصفاتيون ،بمواقفهم اللاادرية ،زمنا ، دون أن يفرضوا سلطة موقفهم الفكري والمنهجي ،بفعل قوة الفرق المنافسة لهم وبخاصة القدرية والجهمية والمعتزلة .
يلتجئ السنيون إلى اللاادرية كلما واجهوا معضلا ،في العقائد أو الشرائع ؛أو أظهروا وهنا في مجاراة حركية الآخرين ، في النظريات والعمليات .
فمثلما رفضوا تأويل أي عقلنة آيات الصفات ،فإنهم رفضوا تعقل أفعال الصحابة ،بدعوى صعوبة إدراك القصد من اجتهاداتهم وتأويلاتهم ،و كأنها أفعال" متشابهة ".
إن لا أدرية السني ،في المعضلات ، مرفوقة دائما ، بوثوقية بارزة ، في الفقهيات ، أي بوضع آليات للتحكم في النفوس والأفراد وصياغة حياتهم بمقتضى الفهم الفقهي ، وبالتعاون مع سلطة سياسية ،قاهرة قادرة على إنهاء المناظرة ( موقف المتوكل والقادر من المعتزلة ) ، والتنكيل بالخصوم الفكريين ( مصير الثنوية والملاحدة في العصر العباسي ) .
الإحالات :

1-[جلال الدين السيوطي ،الإتقان في علوم القرآن ،تحقيق : فواز أحمد زمرلي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2004،ص.483،]
2-[جلال الدين السيوطي ،الإتقان في علوم القرآن ،تحقيق : فواز أحمد زمرلي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2004،ص.483،]
3-[الشهرستاني،الملل والنحل ، تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي ،المكتبة العصرية ،صيدا،بيروت،2007،ص.83]
4-[جلال الدين السيوطي ،الإتقان في علوم القرآن ،تحقيق : فواز أحمد زمرلي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2004،ص.484،]
5-[ابن رشد –الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الأمة –مع مدخل ومقدمة تحليلية ل: محمد عابد الجابري،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ،1998،ص.140]
6- [ابن رشد –الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الأمة –مع مدخل ومقدمة تحليلية ل: محمد عابد الجابري،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ،1998،ص.139]




هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تفرق محتجين اعتصموا في جامعة السوربون بباريس


.. صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية على الطاولة من جديد




.. غزة: أي فرص لنجاح الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. دعوة لحماس من أجل قبول العرض الإسرائيلي -السخي جدا- وإطلاق س




.. المسؤولون الإسرائيليون في مرمى الجنائية الدولية