الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا ، والشرق العربي ، والصين الشعبية

حامد حمودي عباس

2015 / 3 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


حينما يواجه شرقنا العربي ، وتحت أية ظروف ، غير ظروف الحرب ، دولاً تنتمي الى محور العالم الاول ، فانه يطلق جميع قدراته على الانتقاص من مجتمعات وحكومات تلك الدول ، ويحاول ابراز أية صورة قد تفلت من ماكنة التقدم الحضاري للشعوب المتمدنة ، ليطلي بالوانها الباهتة كل مساحات اللوحة ، دون ان يترك مجالاً للشعور بحجم المأساة التي تعيشها الشعوب العربية ، والمصابة بشتى انواع الجذام البشري المستشري في العقول والنفوس .. فعقاب سيجارة القيت عرضاً على رصيف الشارع في مدينة لندن مثلاً ، يجعل العربي المتجول هناك ، غافل عن مجمل صور نظافة المدن البريطانية ، فيصب جام غضبه واستهجانه من هكذا تصرف قد يكون مصدره مهاجر وليس مواطن أصلي .. متناسياً ، وهو متعمد في ذلك ، كل مظاهر العفن التي تعيشها مدن بلاده ، رغم ما تظهره معالم البهرجة الكاذبة في مراكز العواصم العربية فقط .
فالصناعات الهندية افضل من مثيلاتها في الصين ، واليابانية تضاهي الامريكية في الجودة ، فضلاً عن ان الصناعة التركية لا يمكنها ان تقترب من الكورية .. هكذا مقارنات تجري بين الاعراب خلال استنشاق دخان الاركيلة في مقاهي الاحياء المفتقدة لاستقرار التيار الكهربائي ، ودون شعور بأي حرج من ان بلدانهم الخاوية ، عجزت حتى عن ابتكار طريقة صحية للتغوط في الحمامات العامة .
انه شعور شديد بالاحباط ، تلبسني وانا اتجول في شوراع مدينة بكين عاصمة جمهورية الصين الشعبية .. وكان ذلك الشعور يختلط قسراً ، ودون ارادتي ، مع كل الأحاسيس بالراحة والزهو ، بين أطلال بلد أبى الا ان يشبع بطون اكثر من مليار صيني ، بعيدا عن الرضوخ المذل لشروط البنوك الدولية بشتى صنوفها ، ودون ان ترتد المطرقة المليئة بالعزم ، عن اخضاع صلادة الفولاذ لصنع ما يديم الحياة الآمنة المطمئنة ..
لقد كان الشرق العربي المصاب بالخدر الموروث عن ركامات تاريخ اصبحت صفحاته عرضة للتزوير ، يلوح لي متجولاً هنا وهناك في شوارع العاصمة بكين .. انه يحمل وعن طيب خاطر ، أحاسيس الفخر بالانتماء للوطن ، فتنحجب عنه كل صور التقدم البشري في هذا البلد العظيم ، وكأنه أمام نزاع بين حضارتين ، احداهما تنطق بالعفة والالتزام ، والاخرى تدعو للكفر والاباحية .. لم يبهر الشرق العربي خلال تلك الجولات الحرة في مدينة بكين ، ان جهاز روبوت صيني ، عرضته احدى المحلات ، يمكنه ان ينظف ارضية دار سكنية بالكامل لو تم تكليفه بذلك .. ولكنه ، الشرق العربي ، أبغضه جداً ان يلوح له مشهد لفتاة صينية تتأبط ذراع زوجها او صديقها ليلاً ، وبطريقة تنم عن الاحساس بالحب .. لم يعجب الشرق العربي ، أن شعباً هب بكامله لمهاجمة العصافير ، حين شعر بتأثيرها المدمر على عمليات زراعة الحبوب ، ولكنه كان معجب جداً بما تقدمه المطاعم الهندية في بكين ، حيث الدجاج الحلال والمعفر بالبهارات الحارة ..
لقد كنت وانا فوق السحاب ، مسافراً الى بلاد لم اراها من قبل ، بل سمعت اخباراً عن ملاحم خاضتها وببسالة ، ضد الفقر والجهل والمرض ، وبمواجهة اعتى قوة غاشمة كانت تتربص بتجربتها الفذة ، لتطيح بها كما اطاحت ، وبالتحالف مع العرب ، بالتجربة السوفيتية سابقاً ، فتركت الروس عرضة لعمليات النهش المذلة في فنادق وشوارع الخليج ، بعد ان كانوا مصدراً للقوة والمنعة ومن كل الجوانب ، الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية .. كنت استعيد بعضاً مما آلت اليه اوضاع بلادي الممتلكة لجميع منابع الخير دون ان تسجل ضمن صفحات تاريخها غير المباهاة وملامح الافتخار بماضي ميت .
لم يكن في تصوري ، ان شعباً بهذه الوداعة كالشعب الصيني .. فالجميع ينحني لك وعلى الطريقة اليابانية المعهودة ، عندما يقدم لك وجبة الطعام ، وعندما يستقبلك في الفنادق ، وحين تستقل سيارة الاجرة ، حيث يحدثك السائق وبصوت هو أقرب للهمس ..
الحياء الصيني ، هكذا طاب لأحدهم ان يسميه ، لون تنطلي به وجوه الفتيات الصينيات وبطريقة تجبر الناظر على امتلاك نواصي العشق لجمال لم اكن اعهده وانا اشاهد وبشكل عابر المسلسلات الكورية .. فالعيون التي كنت اراها ضيقة المساحة ، والوجوه المشدودة ، والقامات القصيرة .. كلها تبدلت الى هيئة مغايرة تماماً .. بل انني ، وبحكم الاختلاط ولعدة ايام ، وجدت بان العيون الصينية واسعة وتنطق بملامح الحسن ، والوجوه تقطر بالطراوة ويلفها جمال أخاذ ، لا يضاهيه الجمال الاوروبي في اغلب صوره .
لا يوجد في هذا البلد ما هو غير صيني سواك انت .. هكذا رد الشخص المرافق لنا حينما طاب لاحدنا ان يكرر السؤال عما اذا كانت هذه البضاعة او تلك صينية ام لا .. أية عظمة يمكن ان تكون لبلد بهذه السعة ، ولشعب بهذا التعداد الخرافي ، حين لا يجد امامه ومن حوله ، ما هو مستورد وليس من صنع ابنائه .. وأية خيبة نحن فيها حينما لا نعثر على اية بضاعة الا القليل ، في اسواقنا المحلية او العالمية تحمل ماركتنا الوطنية ، عدا البعض من الصناعات الهزيلة ، والتي لا تتعدى حدود خلط انواع البهارات ، أو أكياس حبات الحلوى ؟ .
اربع مدن صينية قدر لي ان أحل فيها ضيفاً ، مما وفر لي نعمة عدم تحمل مصاريف السفر والاقامة فضلاً عن الطعام .. وكنت خلال الايام العشر ، وهي مدة بقائي هناك ، قد الغيت من حسابي قاعدة ان ينام المرء ثمان ساعات يومياً .. ورغم ان المدن الصينية ، تخلد للنوم عادة قبل ان يحل منتصف الليل ، فقد كنت ابقى في عرض الشارع حتى ينسحب منه اغلب ما فيه من المارة .. لم يغب عن بالي أن يومنا الشرقي العربي ، ليس فيه من متسع يترك وقتاً للروح ، ليس فيه من مساحة حتى ولو كانت قليلة ، يمكن للوجدان ان تتفتح فيه مصاريع ابواب تفضي لغير ملامح الحرمان ، والحرام ، والعيب ، ومراعاة اعراف السلف الصالح .. ومع هذا كله ، فقد ضرب معول الحشمة ، والخوف ، في طيات عقلي الباطن ، حين اعرضت عن قبول فكرة أن تجري لي فتاة صينية عملية مساج لجسدي المتعب .. الصينيون عرف عنهم انهم يمارسون التدليك وبشكل واسع ، في الفنادق والشقق الخاصة ، وحتى في الاسواق العامة .. وكنت ارى وعن قرب كيف يمد السياح من الاوروبيين اجسادهم باسترخاء تام ، لتقوم فتيات متمرسات بمهمة ازالة الخدر عن عضلاتهم وبحرفية تامة .. لقد كانت تهب من دواخلي رغبة جامحة لإلقاء جسدي بين يدي صبية لتفتح فيه مسالك جريان الدم ، وتزيل عنه قذارات الممنوع ، بعد ان بقي ولطيلة قرون ، قابع في دهاليز مظلمة ، حدودها اللانهاية .. كنت راغب بل ومتحمس ، ولكنني لم افعل .
لم اعثر خلال تلكم الايام العشر ، وانا في الصين ، على من يسمعني حديثاً في السياسة ، او الدين ، غير ما يجري بيني وبين الشرق العربي المحتقن بهما وبامتياز .. ولاحت لي وبوضوح تام ، صور المنعة التي يمتلكها الشعب الصيني ضد ما يحيطه من خطر الغزو الغربي التواق لهد ما بناه من مجد وعنفوان .. وما خشيته في هذا الجانب ، هو ان صوراً لزعماء غربيين ، ومنهم القميء جورج بوش ، معلقة على جدران عمارة تحتوي على اسواق من عدة طوابق ، كدليل لزيارة هؤلاء لتلك الاسواق ، وكوسيلة للترويج والدعاية .. لقد كنت وانا ارى بصمة للسيدة الاولى في بريطانيا أو لاحد رؤساء فرنسا وسواهم من جهابذة الاعتداء على مقدرات الشعوب من اعداء السلام في العالم ، وهم يظهرون ابتساماتهم الصفراء من خلال صورهم في تلك الاسواق .. كنت وانا ارى هؤلاء ، اتوسم شراً منهم ، واشفق على تجربة فذة ليس لها مثيل سوى ما سطره الشعب الفيتنامي البطل ، عندما مرغ انف الولايات المتحدة الامريكية في اوحال مزارع الرز ، وطردها وهي مذعورة حتى اضحت تحسب لذلك البلد الف حساب .. عندها تنتابني رغبة قوية بالهتاف .. ( احذروا هؤلاء ) .. لقد مزقوا بلدي واطاحوا به وبشعبه ، وجعلوهما عرضة لمعالم الفناء .
متحف بكين من المعالم العظيمة الى جانب جدار الصين وساحة تيانانمن .. لم يسعفني الوقت ان ازور الجدار وزرت المتحف والساحة ، ففي المتحف خانتني قواي ان استعرض اكثر من قاعتين ، ولم أجد بالضبط تفسيراً لأن ينتصب تمثال ضخم للرئيس الفرنسي شارل ديكول عند صدر القاعة الاولى ، الى جانب تماثيل اخرى اصغر حجماً لشخصيات محلية وعالمية .. في القاعتين اللتين تجولت فيهما ، كان عمر التحف يعود لاكثر من مليوني عام .. الطوابير الطويلة المرصوفة وعلى اكثر من مجال ، توحي للناظر معنى لأن يبحث شعب من الشعوب عن إرثه وبكل خيلاء .. ومعنى لأن يترك شعب من الشعوب ما خلفه له الماضي من إرث يترجم حضارته ، عرضة لعبث لصوص الليل .
غادرت الصين العظيمة كعظمة جدارها العتيد ، وقلبي يحن للعودة لها في يوم قد يأتي بحكم القدر .. وفي نفسي عهد قطعته بان لا تفوتني مرة اخرى لحظات الغيبوبة اللذيذة ، بين يدي صبية تتقن فن المساج .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ويل للعالم إذا استيقظ التنين الأصفر
ليندا كبرييل ( 2015 / 3 / 20 - 09:21 )
تحياتي أديبنا العزيز حامد حمودي عباس

يقولون إن نابليون منْ ذكر الجملة في عنوان تعليقي، لكني قرأت عدة مرات أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول هو قائلها
قد تعود إلى نابليون ولكن ديغول رددها على أن العالم الأاصفر سيبهر البشرية بفتوحاته العلمية عندما يستيقظ من غفوته

كنت قريبا منا أستاذ حامد،أهلا بك في الصين الرائعة، وإن كانت اليابان وكوريا ما زالتا تنظران إليها على أنها متخلفة عنهما بعدما ظهرت بعض العيوب في قطارها السريع
ولكنها الصين التي تتقدم بسرعة مذهلة
وها هي بقية دول جنوب شرق آسيا تلحق بالقطار، نعم لماليزيا وخطواتها الجبارة،ولا لأندونيسيا الغارقة لأذنيها في الفساد وفي الصلاة والدعاء في كل وقت من اليوم
ما لقيصر لقيصر وما لله لله

سررت جدا أن أتيحت لك فرصة زيارة هذا البلد العظيم، وأتمنى أن تكون زرت مدينة هانشو أروع مدينة سياحية في العالم بنظري

راح عليك المساج يا أستاذ حامد،يعني كان لازم تتلبسّك العقدة الشرقية؟
يللا~ لست أفضل منك، أنا لا أستطيع حتى الآن دخول حمامات المياه المعدنية مع الستات خجلاً لأننا ندخلها عرايا،صديقاتي يتمتعن فيها ويخرجن منها صحةً وعافية وأنا جالسة في المقهى

احترامي


2 - سعيد بوجودك
حامد حمودي عباس ( 2015 / 3 / 20 - 16:24 )
اللعنة على العقدة الشرقية .. سترافقنا حتى تدفننا تحت تراب الحرمان ، اعدك سيدتي بانني سوف لن تفوتني في المرة القادمة نعمة المساج ، واوعديني بانك ستخرجين من مياه الحمامات صحة وعافية ، بدل الشعور بالحسرة في المقهى.. سعيد بوجودك سيدتي ليندا


3 - هجرتنا وحكمة: ولعل ما تكرهون وهو خيرٌ لكم
الحكيم البابلي ( 2015 / 3 / 20 - 17:55 )
صديقي القديم العزيز حامد حمودي عباس .. تحية
بحثتُ عنك أكثر من مرة، ولم أنتبه لمقالك السابق، بما بسبب عدم إتاحة الفرصة للمقالات بالتنفس لأكثر من يوم أو يوم وربع على شاشة الموقع!، سعيد جداً إنني وجدتك أخيراً
لحد سنوات خلت كنتُ أغضب على كل من أدى تسبب في هجرة العراقيين لبلدهم التأريخي الذي يحمل عِظام أجدادهم منذُ آلاف وربما ملايين السنين، لكني فجأة تنبهتُ بأن كل من سبب في هجرتنا هو صاحب فضل علينا جميعاً، أدركنا المعنى أم لم نُدركه
وكما تجربتك في الصين، وحين تصدمني كل حضارة هذه الدول التي يُسموها (دول الكفر) إن كانت غربية أو آسيوية، أُحس بأنني محظوظ وفخور أن أكون كافراً وعلى طريقتي الخاصة، ولو كان الكفر مقروناً بالتحضر والإنسانية، فما على الله إلا أن يخجل من نفسه ومن خليقته إن كانت له حقاً خليقة
من ناحية أخرى، وعلى نفس نمط تفكيرك، تُدمرني حقيقة إننا نُهرول في نهاية الماراثون، وربما يأتي ترتيبنا خلف أو بعد الكثير من الدول الأفريقية التي كانت تُمارس عادة أكل لحوم البشر إلى عهد قريب جداً
وربما قريباً سيأتي ترتيبنا خلف النسانيس والقردة !، حيث ليس فقط إنعدمت فائدتنا .. بل كثرت أذيتنا للعالم


4 - اوصيك بان لا تكره ما هو خير لك
حامد حمودي عباس ( 2015 / 3 / 21 - 11:34 )
انا في غاية السعادة بعودتك لي بعد طول غياب .. ولا اخفيك بانني ، وفي اكثر الاحيان ، ارى لكثيرين ، وانت منهم ، بعين الحسد وانتم خارج حدود ما سميتموه وطناً اصبح لا يصلح حتى لقيلولة الظهيرة .. لقد اقتربت جداً من الاحساس الكامل بسلب الهوية ، والانحدار الى اسفل درك من التجريف الحسي لو جاز التعبير ، وانا الان مخير بين امرين ، ، فاما ان انخرط في قطيع ليس له من مفاهيم سوى الكد من اجل لقمة العيش لا اكثر ، واما الفرار من دائرة الضياع هذه .. وحيث لا مفر لدي من هذه الدائرة السوداء ، لذا فانا اليوم اقرب الى القطيع مني الى أي صنف آخر يتحرك ويتنفس على هذه الارض العامرة بالقبح .. لا تكره ، اخي طلعت ، ما هو خير لك ، وان اشتقت الى كباب الكاظمية او باجة حجي محمود ، فاصنعهما وانت حيث انت .. تحياتي لك ، ولا تنقطع عني مرة اخرى

اخر الافلام

.. تغريم المجر بسبب سياسة اللجوء | الأخبار


.. وصول الفرنسي لوي أرنو إلى باريس بعد الإفراج عنه في إيران




.. الحوثيون يؤكدون استمرار عملياتهم بالبحر الأحمر إلى أن -تتوقف


.. انقسامات في اليمين الفرنسي.. سيوتي يطعن بقرار طرده وزمور يست




.. الدبابات الإسرائيلية تتوغل غرب رفح.. ليلة أخرى من الرعب