الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين عبارة عن اختبار رورشاخ

إبراهيم جركس

2015 / 3 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الدين عبارة عن اختبار رورشاخ

هل الدين ماهو إلا اختبار رورشاخ؟... ألا يمكن للمؤمنين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم حتى ضمن الديانة الواحدة أن يفسّروا ويؤوّلوا تلك النصوص بعدّة أشكال وتفسيرات مختلفة وقد تكون متعارضة في بعض الأحيان؟... ما الذي تقوله لنا المعتقدات الدينية المختلفة عن المؤمنين وسيكولوجياتهم؟

تحدثوا لمئات المؤمنين على خلاف دياناتهم واسألوهم عن نظرتهم إلى الله وماهيته، أراهنكم بأنكم ستتلقّون مئات الأجوبة المختلفة والمتناقضة حتى.
خذ المسلمين على سبيل المثال، اسأل أحدهم عن الله ستراه يقول لك أنّ الله رحيم وأنّ الإسلام دين الرحمة، واسأل أحد آخر سيقول أنّ الله ماكر شديد العقاب. اسأل أحد المسلمين الملتزمين _كي لانقول المتشددين_ عن رأيه بممارسات داعش ستراه يقول أنّ هذا هو الدين الحق وأنّ الله هو من أمر بذلك، اسأل مسلماً آخر سيقول لك أنّ هذا الإسلام الداعشي ليس هو الإسلام الحقيقي.

اسأل أحد المسيحيين كمثال آخر، على الله ورأيه حول ماهيته وسيخبرك عن إله صارم غيور يتمتّع بشخصية تسلطية واستبدادية: خالق ومشرّع للقوانين، وليه نظره واضحة عن الخير والشر، وهو يجبر الجميع على اتباع قوانينه والاتزام بها حرفياً. اسأل مسيحياً آخر، وستسمع منه إجابة مختلفة هذه المرة: سيقول لك عن إله محب وعطوف شبيه بالأب الحنون، وستراه متسامحاً ومتساهلاً ويمنح عباده عدّة طرق وسبل ليختاورا سبيلهم الصحيح والحقيقي، وهو يريدك أن تكون سعيداً في دنياك وراضياً عن نفسك.
هناك مؤمنون آخرون قد يكونون مسيحيين أو مسلمين أو حتى يهوداً وبوذيين لكنهم ربوبيون، بل منهم المؤمنون بنظرية التطور اللاهوتي/الإلهي، فهم يرون الله كنوع من المدراء التنفيذيين: يبدأ أولاً مشروعاً اسمه الكون، ثم يتدخّل فيه هنا أو هناك بعض الأحيان ليتأكّد من سير العمل بطريقة صحيحة وسلسة، لكنه في أغلب الأحيان يجلس على عرشه ويراقب خلقه وهم يتدبّرون أمورهم بذاتهم. وهناك آخرون يرون الله بوصفه تجريداً غير مشخّص، مثال فكري أو ذهني غير متجسّد، متعال، متمثلاً في أشكال غيبية أو مُثُل من النوع الأفلاطوني كالحب أو الخير أو الأخلاق.

لماذا تتنوّع هذه الصور المختلفة والمتناقضة لله بكثرة؟
كنت ملحداً وأكتب في فلسفة الإلحاد وأترجم كتابات الملحدين سنوات عديدة، وقد تحدّثت وخضت نقاشات مع المئات من المؤمنين عن ماهية الإيمان بالله وماهي أسباب إيماننا به؟ ويبدو أنّ _بكافة التصورات والآمال المتعلّقة به_ الصورة عن الله التي يؤمن بها الناس تعكس أكثر من أي شيء آخر شخصة المؤمن وسيكولوجيته. عندما يخبرني المؤمن عن تصوّره لإلهه، أشعر بأنّه يخبرني ليس عن صورته الشخصية كما هو، إنّما عن صورته التي يحبّ أن يكون عليها. ما يتطلّع ويصبو إليه. ما يقيّمه أو يقدّره فعلاً.

الأمر على النحو التالي، لا أحد من هؤلاء المؤمنين لديه صورة أفضل عن إلهه من المؤمن الآخر. ليس الأمر أنّ هذا التصوّر عن الله بحدّ ذاته يتميّز بدليل أفضل على صحّته. حتى وإن قبلت بالكتاب المقدس بوصفه السيرة الذاتية الأنسب لله... فإنّ هذه القصة عبثية وسخيفة وغير معقولة على الإطلاق، مليئة بالثغر.ّTFCA والتناقضات الصارخة. ونفس الأمر يندرج على القرآن وباقي الكتب المقدسة للديانات الأخرى.
ثمّ عليك أن تمعن النظر في مسألة لماذا تعتقد أنّ الكتاب المقدس هو سيرة صحيح ودقيقة ومنطقية لكيان فعلي.

عندما تنظر إلى الأمر من الخارج _من وجهة نظر إلحادية_ فإنّ المفاهيم والتصوّرات المختلفة والمتنوّعة لله تبدو كتصوّرات مشوّهة وملتوية. فهناك محاولات لتحريف رواية مكتوبة بشكلٍ رديء كمحاولة لمنطقتها وجعلها مفهومة. إله مطلق القوة، مطلق العلم والمعرفة، مطلق الخير... لكنه يطبق أساليب تعذيب سادية لمخالفيه وغير المؤمنين به. إله يعاقب الأشرار ويكافئ الخيرين... لكنه يمتلك الحق ليفعل ما يشاء بخلقه، ويقوم بذلك فعلاً، ويرمي أولئك الذين يخرجون عن طاعته ويعصونه في بركة النار. ثلاثة آلهة مجتمعة في إله واحد بطريقةٍ ما... لكنّهم مختلفون، ويمتلكون قدرات مختلفة وشخصيات مختلفة عن بعضهم.

وخلال عملية عقلنة التصورات، يكوّن الناس الحقائق لتتناسب مع ما يؤمنون به. إنّهم يقرّرون أنّ بعض الآيات في القرآن أو بعض المقاطع في الكتاب المقدس هي وحي واضح وجليّ من الله، وأنّ بعض الآيات أو المقاطع كان المقصود منها أخذها بحرفيتها. (وحتى أتباع النظرة الحرفية للكتاب المقدس يفعلون ذلك: هل تعرف متشدّداً أو متطرفاً واحد يرجم ولده الزاني أو يرفض ارتداء الملابس الحريرية؟). لكنّهم لا يمتلكون أي مبرّر منطقي أو عقلاني مقنع عن سبب قبولهم بأجزاء معينّة من القرآن أو الإنجيل أو التوراه ويرفضون أجزاء أخرى. إنّهم لايستطيعون إعطاءك أي سبب جيد ومقنع لماذا رجم الشباب الزناة أمر خاطئ وغير مقبول بينما التعفّف القسري أمر صحيح، أو لماذا فكرة التعذاب في الجحيم خاطئة في حين أنّ قتل المرتد والتمثيل بجثته أمر صحيح ومقبول.

لذلك نرى أنّهم يصيغون ويقولبون أفكارهم وحقائقهم تتناسب مع مايرون صحيحاً.
إذا كانوا يعتقدون أنّ ما يجعل إنساناً ما صالحاً وخيراً هو اللطف، فإنّهم يصيغون إلهاً يهتمّ بالبشر ويتلطّف بهم. أمّا إذا كانوا يعتقدون أنّ مايجعل إنساناً ما خيراً هو العدل، فإنّهم يصيغون إلهاً يكافئ الأخيار ويجازي الأشرار. وإذا كانوا يعتقدون أنّ الخير هو الرحمةـ فإنّهم يتصوّرون إلهاً متسامحاً ورحيماً وغفوراً. وإذا كانوا يعتقدون أن الخير هو الذكاء، فإنّهم يتصوّرون إلهاً أشبه مايكون بالتجريد اللاهوتي المعقد. أمّا إذا كانوا يعتقدون أنّ الخير معناه احترام السلطة، فإنّهم يتصوّرون إلهاً يسنّ قوانين وشرائع واضحة وصارمة ويتوقّع منهم طاعتها والالتزام بها.

الدين أشبه مايكون باختبار رورشاخ. فمضمون القرآن أو الكتاب المقدّس _أو أي كتاب مقدس آخر_ لامعنى له أساساً. بل يمكن تأويله بطرق مختلفة ومتنوّعة ومتناقضة حتى. والطريقة التي تؤوّل فيها تلك النصوص المقدسة تكشف لنا عن شخصية المؤوّل أكثر ممّا تتضمّنه من أفكار وترّهات وسفاسف على الورق. (نعم، أعرف أنّ اختبارات رورشاخ الفعلية تعتبر غير دقيقة من قبل العديد من علماء النفس، لكنني استخدمت المصطلح هنا كتعبير مجازي).

لقد تناقشت مع الكثير من المؤمنين الذين اعترفوا بذلك فعلاً. لقد أجبِروا على الاعتراف بأنّهم انتقائيون فيما يتعلّق بنصوصهم المقدسة وليس لديهم سبب جيد يبرّرون من خلاله سبب انتقائهم لتلك الأجزاء... ولقد اعترفوا بالفم الملآن ((هذا ما أشعر به فعلاً)) أو حتى ((هذا ما أودّ أن أؤمن به)). هم عادةً مايتحوّلون إلى أشخاص دفاعيين حيال الأمر. ((ما شأنك بماذا أؤمن؟)) أو ((ماعلاقتك أنت؟ وما دخلك؟)) أو ((إذا كان اعتقادي يشعرني بالسعادة والرضا، فما هو شأنك؟))

والتاريخ ذاته يدعم مقولة ((الدين بوصفه اختبار رورشاخ)). فعندما تنظر إلى مسيرة التطور الأخلاقي للجنس البشري، سترى أنّ القفزات الأساسية المتقدّمة _الديمقراطية، حرية التعبير، إلغاء العبودية، المساواة بين المرأة والرجل_ قادتها الحركة العلمانية في المجتمع. الدين مدمنٌ على سرقة الأمجاد ونسبها إلى نفسه... لكن الحقيقة عكس ذلك تماما. فالدين هو الذي يكيّف نفسه حول منظومات الأخلاق المتطوّرة، وليس العكس.
.
من الواضح الآن أنّ فكرة رورشاخ هذه لاتمثّل القصة كاملةً. فمن جهة، يميل الناس إلى الإيمان بالدين الذي نشأوا عليه منذ نعومة أظفارهم. (جرّب أن تطرح السؤال التالي على أحد المسلمين: هل كنت ستؤمن بمحمد ونبوّته ورسالته فعلاً لو أنّك ولدت في أسرة مسيحية أو يهودية أوهندوسية؟... أو اسأل السؤال التالي على المسيحي: هل كنت ستؤمن بيسوع حقاً لو أنك ولدت في بيئة إسلامية أو هندوسية؟) لذلك عملياً هناك الكثير من الأشخاص النزهاء والشرفاء مازالوا يؤمنون بإله قاسي وصارم ومستبدّ... لأنّه هذا النوع من الإله تعلّموا الإيمان به منذ صغرهم.

لكن هناك الكثير من الناس يبحثون على الديانات التي تناسبهم وتتناسب مع معتقداتهم. حتى أولئك الذين تربّوا على الإيمان الشكلي الذي نشأوا عليه _مسلمين، يهود، هندوس، إلى ماهنالك_ مازالوا يبحثون عمّا يناسبهم. فعندما يبلغون سنّ الرشد، أو يتزوّجون، أو ينتقلون إلى مدينة أخرى أو بلدٍ آخر، فإنّهم دائماً يبحثون عن الفئة أو المذهب الذي يناسب معتقداتهم الدينية، أو حتى ينضمّون إلى طائفة محلية تناسبهم. إنّهم يختارون الديانة التي تتناسب مع قيمهم... أو يلوونها ويحرّفون معناها حتى تتناسب مع معتقداتهم.

إذن ماهي وجهة النظر الإلحادية بشأن كل ذلك؟
من الواضح أنّ وجهة نظر الملحد حول كل هذه المعمعة هي ((أنّ الدين مجرد هراء)). لكنني أعتقد أنّ هناك نتيجو أكثر إيجابية: علينا أن نتحمّل مسؤولية قيمنا الخاصة.

إذا كنا نقدّر ونجلّ التعاطف أو العدل، الذكاء أو الرحمة... فعلينا أن نتّسم بذلك. لاينبغي علينا أن نعكس هذه القيم على إله خيالي غير موجود. لايجب علينا أن نخترع صورة عن إله تتناسب مع قيمنا ومفاهيمنا، نحرف معاني نصوصنا المقدسة لتتناسب مع تلك الصورة، ثمّ نقنع أنفسنا بأنّ قيمنا منزلة من عند الله... فمن جهة، هذا غير صحيح. ومن جهةٍ أخرى، عندما نقنع أنفسنا بأنّ قيمنا تأتي من عند الله، عندها نكون أقل انفتاحاً لتحمّل مسؤولية مجرّد تقبل الفكرة بأنّنا قد نكون على خطأ. فعندما نقنع أنفسنا بأنّ الله يكره الكفار أو المخالفين أو المرتدين، عندها يصبح من الصعب جداً إدراك أنّ هؤلاء الأشخاص هم مواطنون حقيقيون وأخلاقيون في بلدنا مثلهم مثل اي مواطن آخر... الدين يقوّض الوطنية والمجتمع المدني. وعندما نقنع أنفسنا أنّ الله يكره المرأة ويريدها أن تكون خاضعة للرجل وأنّها أدنى منه، عندما يصبح من الصعب إدراك حقيقة أنّ المرأة مثلها مثل الرجل وقد تكون أكفأ وأذكى منه وتملمك نفس مقدراته، ولاتختلف عن الرجل بشيء سوى بالأعضاء الجنسية... الدين يحطّ من قدر المرأة. وعندما نقنع أنفسنا أنّ الله يسمح بالعبودية ويحلّلها، عندما يصبح من الصعب رؤية الواضع بأنّ العبودية هي مسألة لا إنسانية ولاأخلاقية على الإطلاق... الدين ضدّ الإنسانية.

إنّنا نقيم قراراتنا على ما نعتقد أنّه صحيح ومسموح. فقراراتنا تؤثر على الآخرين. لذلك نحن لدينا التزام أخلاقي لفهم الواقع بأفضل مايمكن. كما أنّنا أمام مسؤولية أخلاقية لتحمّل مسؤولية أفعالنا وقيمنا وقراراتنا. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها إصلاحها وصونها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لست ابو بدر الراوي..هههههه
فراس ( 2015 / 3 / 22 - 01:06 )
اخي ابراهيم جركس..استأذنك بنشر هذه الافلام الرائعه التي تغني الموضوع الذي كتبت انت عنه...لاتخافوا من عنوان الفلم التسجيلي .. انه لايتحدث عن المسلمين بل عن المسيحيين واليهود...لو اخترت انا عنوان للفلم لسميته بص شوف ..او هل نطلع راسنا من جوه اللحاف...ههه..فلم رائع بكل المقاييس..

https://www.youtube.com/watch?v=xbqkO7dtEZY
https://www.youtube.com/watch?v=IU4USemrNR4

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah