الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأويل العلمي للقرآن والمنظومة التراثية

هادي اركون

2015 / 3 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



يعتقد الكثيرون أن القول بالإعجاز العلمي والبرهنة عليه ،ينهي الشكوك ويبدد شبهات الخصوم ،من العلمانيين ومن الكتابيين . ينبري الإعجازيون ، للتأويل العلمي للآيات والأحاديث ،كلما توصل العلم الحديث إلى حقيقة علمية أو اكتشف قانونا من قوانين الطبيعية.تتسع النصوص ،بمقتضى هذه الآلية ،للنسبية ونظرية الإنفجار الأكبر وتوسع الكون والجينوم ؛كما يمكن التأويل الجديد ،حسب الاعتقاد الإعجازي ، من فهم مضامين النصوص ،المستغلقة على الأفهام طيلة قرون ( الرتق والفتق و البنان وتحريم الخمر والربا والعدة وسير الجبال ونقص الأرض وفرعون الخروج وفرعون ذو الأوتاد وأصحاب الكهف .... الخ) .
فكلما بان" إعجاز" الآيات ،اتضحت صحة الإسلام ،وفقدت الانتقادات الموجهة إليه ، من هذه الجهة أو من تلك شرعيتها وجدواها.وقد وجد الكثيرون ضالتهم ،في التأويل العلمي ،مما قادهم إلى تحميل النصوص معاني غير محتملة ،تاريخيا ،ومعرفيا .
إلا أن للقول بالإعجاز العلمي ، للقرآن ،نتائج لا بد من أخذها بعين الاعتبار في النظر الثاقب.
بما أن للإعجازيين ارتباطا بأصولهم الفكرية ،فإنهم مطالبون ،للاتساق ،بمراعاة تلك الأصول . بيد أن الكثيرين ، تناسوا في غمرة احتفالهم بعجائب الإعجاز العلمي ،مراعاة قواعد مجالهم التداولي .
هل يمكن لمن يقر بأفضلية القرون الثلاثة الأولى ،أن يخرج على المسارات التفسيرية المرسومة من قبل السلف الأول ؟ هل يمكن لمن يولي العقل البشري أهمية دونية في الفهم والاكتناه والاستكشاف أن يعتمد على إبداعات العقل ؟ ألا تلزم الأطروحة الإعجازية أصحابها بالانسلاخ عن منظومتهم الفكرية ،واعتماد الحداثة كمنظومة فكرية بديلة ،والعلمنة بديلا للأسلمة،والتشكك في الأصول بدلا من الدفاع عنها ؟ هل يمكن تأويل القرآن تأويلا علميا ،دون إعادة النظر في علوم التفسير ،جذريا ،وفي علوم القرآن ؟
يتبنى الإعجازيون العلميون المعاصرون ،كل توجهات المنظومة التراثية السنية ،دون استشكال ؛ فبما أن تأويلاتهم تؤكد الصحة العلمية لمضامين الآيات ،فالمنظومة التراثية المستقاة من النص القرآني صحيحة هي كذلك .وبالتالي يحق لهم ، الجمع بين تكييف المعارف التقنية العلمية الحديثة والاحتفاظ بالمعارف النظرية والمنهجية كما صاغها ،الفقهاء والأصوليون والمفسرون وعلماء القرآن.
والحقيقة ،أن للتكييف مقتضيات تداولية ، لا مفر من مراعاتها ، و إلا وقع الاخلال بمقتضيات ما سماه طه عبد الرحمان بالمجال التداولي العربي-الإسلامي.فمتى خرق التكييف ، تلك المقتضيات ،خرج عن منهجيات وآليات ذلك المجال ،وقواعده التداولية .
يترتب على القول بالإعجاز العلمي ، للقرآن ما يلي :
1-عدم فهم الصحابة لفحوى كثير من الآيات ولا سيما الآيات الكونية :
يعطي التفسير السني ،أهمية بالغة لفهم الصحابة ،ويصفه بالتحقيق ،لدرايتهم الكبيرة بأسباب النزول ،وبالبيان العربي .ولذلك فإن تفسير النصوص وتأويلها استنادا إلى منظومة علمية ،مختلفة كليا ،عن تفسير الصحابة ومرجعياتهم البيانية ،لا يمكن أن يقبل في الإطار الفكري السني.
(فإن لم يوجد في السنة يرجع إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك ، لما شاهدوه من القرائن ، ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب ، فإن لم يوجد ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط بالشرط السابق . ) 1-
رغم تقديرهم لفهم الصحابة ،فإن بعض الإعجازيين ،تأول الفتق والرتق ، استنادا إلى الفيزياء الحديثة ، وإلى نظرية الإنفجار الأكبر.وهذا ينافي ،إطارهم التفسيري البياني ،المقر بالاشتباه في اللغة والدلالة.
يقود تأويل الفتق والرتق ،علميا ، إلى انكار تأويل حبر الأمة ،وفهم الصحابة والسلف ،أي إلى إنكار قاعدة تفسيرية معتبرة في المنظومة التراثية.
(وأخرج من طريق عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر: أن رجلا أتاه يسأله عن : ( السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) [الأنبياء :30]فقال : اذهب إلى ابن عباس ، فسله ثم تعالى أخبرني ،فذهب فسأله ، فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات . فرجع إلى ابن عمر فأخبره ، فقال : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ؛ فالآن قد علمت أنه أوتي علما .)2-
الواقع أن الاعجازيين ،نادرا ما يهتمون بالقضايا النظرية أو المنهجية ؛و إلا لترددوا طويلا قبل الإقدام على تأويل نصوص سبق للصحابة والتابعين أن قدموا تفسيراتهم لها . ومما لا شك فيه ،أن منظومتهم الفكرية ،مبنية على التفسير بالأثر ،والإلتجاء إلى العقل ،عند الضرورة لا غير .إن التأويل العلمي للأيات الكونية ،ينفي ،عمليا ،صلاحية التفسير بالأثر ،لصالح التفسير بالعقل .ويقود هذا ،لا محالة الى القول بأسبقية و أفضلية العقل على السمع والأثر .
(...لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ،فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه ؛ وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا .
وفي الجملة : من عدل من مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك ، بل مبتدعا ؛ لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله . ) 3-
من المؤكد أن المؤول العلمي ،ملزم ،بمراجعة وضعية العقل في منظومته الفكرية ،وتجاوز كثير من المحاذير الموضوعة للحد من إعمال العقل المستقل والمجرد في نصوص وممارسات تاريخية رغم هالة القداسة المحيطة بها .
2-تجاوز قاعدة عدم التعمق والتكلف :
تحفل تأويلات الاعجازيين المعاصرين ،بتأويلات متكلفة ،يراد منها إدهاش المتلقين و إثارة مخيلاتهم.بل انبرى البعض لتأويل المتشابه ،رغم التنصيص ، على استحالة تأويله في المدونة التراثية.وقد استعان البعض بالمعلوميات مثلا ،للكشف عن الدلالات العلمية الخفية ، للحروف المقطعة ، مع أنها من المتشابه .
وبما أن النظر الشرعي ،لا يراد لذاته ، بل للعمل ،فإن للفضول العلمي ،موانع تراثية ،تمنع من الاسترسال في النظر الخالص أو الاسكناه المتعمق أو التعمق في الغوامض والمستغلقات اللاهوتية أو التاريخية أو الطبيعية .
وبما أن الإعجازيين ، يتجاوزون السقوف التفسيرية الموضوعة أمام المفسر في الأدبيات السنية ،فإنهم سيتخطون قاعدة عدم التعمق والتكلف المنسوبة للصحابة والسلف بصفة عامة .
ا (... و أخرج عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله و أبا . ما الأب ؟ فقال : نهينا عن التعمق والتكلف . و أخرج عن ابن مسعود قال : ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من أبي بكر وعمر .
و أخرج رجل من الصحابة قال : فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات قال الأوزاعي يعني شرار المسائل . ) -4
كيف يحق لمن يلجأ إلى "التوقف" أو "اختلاف الاجتهادات والتأويلات " كلما سوئل عن حروب الصحابة ،أن يتجاوز قواعد سطروها وفرضوها بالعنف الرمزي ؟ الأ يسري التوقير على مواقفهم النظرية أيضا ؟
3-لا جدوى اللغة والبلاغة وقوانين التأويل البياني في التفسير و التأويل :
اعتمد المفسرون على البيان العربي ، في التفسير والتأويل؛فحيث إن النص القرآني ،عربي اللغة والبيان ، فمن الضروري ، الاعتماد على الخبرات اللغوية والبلاغية ، في أي مجهود تفسيري أو تأويلي مقبول . بيد أن الاعجاز العلمي ، ينفي مرجعية اللغة والبلاغة في التفسير والتأويل،عمليا ، ،ويعيد النظر حتى في أدنى مقتضيات البيان العربي .
(فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ،وحقيقته ومجازه ،وعامه وخاصه ، ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ، ومقيده ونصه وفحواه ،ولحنه ومفهومه ،والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل بن احمد والمبرد و أن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو ، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه ...) -5
لا يمكن التغاضي عن مرجعية البيان ،دون تجاوز كثير من مقتضيات المجال التداولي ،وشرائط التفسير أو التأويل كما حددها المفسرون.ومما لا شك ،فيه أنه لا يمكن خلخلة الثوابت المعيارية للتفسير ،دون بناء ثوابت جديدة ،ومنهاجية بديلة .علما أن الإعجازيين ، يرفضون ،جملة وتفصيلا ،إعادة النظر في النسق المعياري التراثي ،واستشكال معايير المفسرين والأصوليين القدماء .





4-عدم فهم الأمة طول تاريخها لنصوصها :
إن التأويل يجب الفهم المتواتر ، وينفي صلاحية الفهم السني المتفق عليه .ينتج عن هذا ، أن الأمة لم توفق إلى إدراك مقاصد النصوص ، وأنها حادت عن التفسير السليم طوال قرون ممتدة .
لكن ، كيف يمكن نفي صواب التفسير القديم دون إنكار شرعية الإجماع من جهة ،وشرعية اتفاق الأمة على قواعد تفسيرية ومنهجية ؟ إن اعتماد التأويلات الجديدة ،ينفي عن الأمة التوفيق ،علما أن الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في المأثور السني .
وقد انبرى البعض ،للتأويل العلمي للعبادات نفسها ،مع أنها غير معقولة ولا يمكن تأويلها حسب المعروف في المنظومة التراثية.
(فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ،دون الملبوسات والمركوبات ،والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع –وهو راجع إلى الإخراج –كالمأكول –وهو راجع إلى الضد –وكان شهر رمضان –و إن كان قد أنزل فيه القرآن –ولم يكن أيام الجمع –و إن كانت خير طلعت عليها الشمس – أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل .ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع . ) -6
ومن المدهش أن يحتفظ الاعجازيون بتلك المنظومة ، فيما يحاولون نسف أصولها.وما ذلك بغريب ، على أناس يفكرون بالنتائج العملية والايديولوجية للتأويل دون التفكير في انعكاساته النظرية.
يقتضي القول "بالتأويل العلمي" ،نظريا ، الإيمان بارتقاء المعرفة ،وتحسن المناهج والمقاربات والآليات التحليلية ، أي بأفضلية النسق المعرفي الحديث بالقياس إلى النسق المعرفي التراثي ؛إلا أنهم يصرون على إتباع المنظومة التراثية ،واعتماد منهجياتها وتأويلاتها بمثابتها مناهج واستنباطات وتأويلات ،متصلة بالنص المؤسس .
والحال ،أن التجاوز الإجرائي للمنظومة التراثية ، يستلزم مساءلتها فكريا ومنهجيا ، وقراءتها من منظور عقلاني حديث .
فمادامت التفساير القديمة ،قاصرة معرفيا ،فمن الضروري تجاوزها وتجاوز كل العلوم والفنون المؤسسة على قواعدها.

الإحالات :
-1[بدر الدين الزركشي ،البرهان في علوم القرآن ،تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ،المكتبة العصرية ،صيدا ، بيروت ،2006،ج2،ص.113 ].
2- [السيوطي –الإتقان في علوم القرآن ،تحقيق :فواز أحمد زمرلي،دار الكتاب العربي ،بيروت،لبنان ،2004،ص. 878 ]
3- [السيوطي –الإتقان في علوم القرآن ، ص. 859 ]
4-[جلال الدين السيوطي –صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ،تحقيق : أحمد فريد المزيدي ، طار الكتب العلمية ،بيروت ،الطبعة الأولى :2007،ص.39]
5-[الغزالي-المستصفى من علم الأصول –تحقيق : عبد الله محمود محمد عمر –دار الكتب العلمية ،بيروت –الطبعة الأولى ،2008-ص.529].
6- [أبو إسحاق الشاطبي ،الاعتصام ،تحقيق : هاني الحاج ،المكتبة التوفيقية ،ج:2،ص.465 ]


هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الوزراء الاسرائيلي يستبق رد حماس على مقترح الهدنة | الأ


.. فرنسا : أي علاقة بين الأطفال والشاشات • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد مقتل -أم فهد-.. جدل حول مصير البلوغرز في العراق | #منصات


.. كيف تصف علاقتك بـمأكولات -الديلفري- وتطبيقات طلبات الطعام؟




.. الصين والولايات المتحدة.. مقارنة بين الجيشين| #التاسعة