الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو وعي نقدي للعلمانية

هادي اركون

2015 / 3 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يحصر الكثير من العلمانيين العلمانية في الفصل بين الدين والسياسة ؛فكلما تم الفصل بين السياسية والدين ،إلا وتحقق القصد العلماني والمجتمع المنشود .
هل يمكن حصر العلمانية في مجرد إجراء قانوني أو إداري كما يرى بعض العلمانيين ؟
هل يمكن صياغة عقد علماني ،في غياب عقد اجتماعي وقبل ذلك عقد معرفي جديد ؟
الواقع أن حصر العلمانية في إجراءات إدارية ، يعتمد على اقتراب تقني لمسألة معرفية جوهرية:هي قدرة العقل على الاستكشاف والتشريع القانوني والأخلاقي .فالعلمانية وثيقة الارتباط بالمعرفة والتشريع والقانون والأخلاق عكس ما هو متداول في الأدبيات الرائجة في السياقات الإسلامية .
والحقيقة أن الفصل بين السياسة والدين ، ليس إلا إجراء ضمن إجراءات تكون الميثاق العلماني .إلا أن البعض يحول ما كان محض إجراء تاريخي فرضته توازنات سياسية وثقافية إلى مقصد جوهري ،وما كان مرحلة تاريخية لها خصائصها إلى سيرورة كاملة .والحال أن العلمانية سيرورة ما زالت فصولها تترى ، حتى في أشد الأنظمة علمانية(فرنسا ) .
العقد المعرفي :
فالعلمانية عقد معرفي ،تبنى فيه المعرفة على أسس منهجية ونظرية مستقلة عن أسس الدين وثوابت المعرفة الشرعية .ولا يمكن تأسيس هذا العقد ،دون الكشف عن مواطن القصور والاختلال في المعرفة الدينية .وهذا ما يفسر انكباب المفكرين الطليعيين في أوروبا ، على نقد المعارف التاريخية والفلكية والبيولوجية الموجودة في الكتاب المقدس وكتب اللاهوت .
لا يتأسس العقد المعرفي الجديد ، دون استشكال المعرفة الدينية ،وتحديد مواطن اعتلالها ،وتفعيل قدرات العقل الطبيعي ،إن في الطبيعيات أو في التاريخيات والاجتماعيات .وغني عن البيان ،أن لا معرفة مدققة ،بدون تجاوز الحدوس والتخييل والتمثيل وسوى ذلك من وسائل اعتمدتها المتون الكتابية ،لتحريك المتخيلات .
(..وبينت أن الكتاب لا يعرفنا الأشياء بعللها القريبة بل يرويها بترتيب وبأسلوب من شأنهما أن يثيرا في الناس ، وفي العامة بوجه خاص ، أعظم قدر ممكن من الخشوع . لذلك يتحدث الكتاب عن الله وعن الأشياء بأسلوب غير دقيق، لأنه –فيما أقول – لا يريد إقناع العقل، بل يريد إثارة الخيال وشحذ قدرته على التصوير. )- 1
ويقع تفكيك اليقينيات اللاهوتية ،في قمة أولويات ، العاملين على إرساء العقد المعرفي الجديد .
فلا علمانية ، إذن دون تحرير العقل من النص و من التقاليد المعرفية الكتابية واللاهوتية (نقد التقاليد المدرسانية ) ،وبناء ابستمولوجيا عقلية ،قادرة على إنشاء نماذج تحليلية مقتدرة .
(وكذلك يمكننا أن نستخلص مما سبق أن منهجنا في تفسير الكتاب هو الأفضل ؛ ذلك لأنه لما كانت السلطة العليا في تفسير الكتاب ترجع إلى كل فرد ، فلا ينبغي أن تكون هناك أية قاعدة أخرى للتفسير سوى النور الطبيعي المشترك بين جميع الناس ، فلا يوجد نور يفوق الطبيعة ولا توجد سلطة خارجية . )2-
لا تسعى العلمانية إلى تضييف مساحات تحرك الاكليروس السياسي ،بل إلى تفكيك شروط قيامه واستمرار يته التاريخية في المجتمعات ذات الثقافة الكتابية .وهي شروط معرفية تربوية ،بالأساس .فأساس اللاهوت السياسي ، هو اللاهوت المعرفي والأخلاقي .ونقض الأول لا يتم إلا بنقض الثاني .إن من يطالب بالعلمانية دون تفكيك الابستومولوجيا الكتابية ، كمن يريد تربيع الدوائر.
العقد الاجتماعي :
يؤدي تفكيك البداهات النصية والتاريخية الموروثة عن الحقول التداولية القروسطية ، إلى رغبة جماعية في تأسيس الاجتماع على معايير جماعية غير المعايير التقليدية .وعليه فلا علمانية ،بدون تحرير المبادرة السياسية –الاجتماعية للأفراد والجماعات ، والتماس السند السياسي في الإرادة الجماعية وفي تجاوز معايير اللاهوت السياسي . وغني عن البيان ،أن تصدع المعيار المرجعي ، في المعرفيات ينتج عنه تصدع مماثل في المعيار السياسي والأخلاقي ،وتحرر الفعل من مستلزمات المتخيل الجمعي القديم .وهكذا تتحرر الإرادة والفعل ،وتصير المبادرة السياسية ، مدنية ، ودهرانية ،مهتمة ، أساسا ،بسعادة الإنسان واتساع مبادرته التاريخية في الهنا لا في الماوراء.
لا يمكن تأسيس العلمانية إذن ، دون تأسيس معرفي ،يتم بموجبه التحرر من اللاهوت المعرفي ، ودون تأسيس عقد اجتماعي يتم بمقتضاه تجاوز اللاهوت السياسي.
ولن يتحقق هذا التجاوز، إلا متى أبدع العقل التشريعي والعقل الأخلاقي، وبرعا في وضع القوانين والنظريات التشريعية والأخلاقية، القادرة على دعم الفعل الإنساني، وإضاءته.
(. بيد أن طريقة تفكير رئيس يحبذ الأنوار ،تذهب ابعد أيضا ، وتقر أنه حتى من وجهة نظر تشريعية ، ليس ثمة من خطر في السماح لرعاياه بان يستعملوا عقلهم استعمالا علنيا وبأن ينتجوا علانية أمام الملا أفكارهم المتعلقة ببلورة أفضل لذلك التشريع نفسه من خلال نقد صريح للتشريع الذي سبق أن أقر .)- 3
العقد التربوي والثقافي الجديد :
ينشأ عن قصور المعرفة اللاهوتية ، اعتماد المعرفة العقلية الجديدة ، ونشرها على أوسع نطاق ، وبناء الفرد المواطن على أسسها . ومن هنا ، فمن شروط العلمانية ، إرساء عقد تربوي وثقافي ، يمكن بمقتضاه ، لكل مواطن ، أن يكتسب المعارف والمعلومات والأفكار الجديدة ، وان يتدرب على المناهج والمقاربات العلمية في الطبيعيات والإنسانيات ، ليكون مؤهلا لاستعمال عقله ، ومراجعة يقينياته القديمة،والمساهمة في بناء القيم المعرفية الجديدة .
لا بد إذن ، من دمقرطة المعرفة العلمية ،وضمان سرعة نشرها واستقبالها ،لتمكين المواطنين من بناء وعيهم وتقوية حسهم النقدي ،وإعمال ملكاتهم الفكرية .
ولذلك ،فلا يمكن فرض نسق فكري ـبالاعتماد على سلطة معيارية أو متعالية كما هو معهود في العصور الوسطى ؛فكل الأفكار معرضة للنقد ،أيا كان مصدرها ،وقابلة للمساءلة العقلية ،المستضيئة بأنوار العقل وتجارب التاريخ .
(وفي ظله يحق للكهنة المبجلين ،دون أن يضروا بواجباتهم المهنية ، أن ينشروا أحكامهم وآراءهم التي تختلف عن الشعار الرسمي ، بوصفهم علماء ، ولهم الحق أن يعرضوا هذه الآراء بحرية وعلانية كي يتفحصها الناس ، وما يحق لهم يحق بالأولى لأي شخص آخر لا يقيده أي واجب مهني . إن روح الحرية هذا ينتشر أيضا إلى الخارج حتى حيث يصطدم بعوائق خارجية من قبل حكم يجهل دوره الخاص . ) 4-
حصر العلمانية في الفصل بين الدين والدولة ،مطلب عديم الجدوى ،وينم عن رؤية مبسطة لقضايا التحول الاجتماعي والثقافي ولتعقد الإشكالية التراثية في المجتمعات الكتابية.ولذلك ،فالفصل بين المجالين ، غير ممكن عمليا ،وغير منتج في كل الأحوال ،لأنه سرعان ما سيؤول إلى استعادة سلطة الموروث ورجاله كما في الحالة التركية والى اختلاجات هوياتية كما في حالة المهاجرين المسلمين إلى أوروبا .
الحق أن الكمالية رامت ، تحقيق العلمانية ، بتحقيق ذلك الفصل ، إلا أنها لم تحقق العلمانية المرغوبة .
ومن اللافت أن تركيا الحديثة ، لم تقدم أي فكر علماني قوي ومنتج وقابل لإضاءة الانتقال من وضع اللاهوت السني إلى وضع تبلورت فيه قيم ابستمولوجية وسياسة و أخلاقية ،منفصلة عن السجلات القديمة ، منذ ثورة كمال أتاتورك.
لقد انتقل الأتراك من الخلافة العثمانية إلى" العلمانية "، دون عقد معرفي جديد أو عقد اجتماعي ودون تحولات سوسيولوجية معتبرة،ودون نقد الأصول اللاهوتية الإسلامية،علميا وتاريخيا ولغويا ، على غرار ما أنجزته أوروبا منذ عصر النهضة (ارازموس وسبينوزا وفولتير وفيورباخ ونيتشه وماركس .... الخ) . مما سهل العودة إلى اليقين التداولي و أفضلية المعرفة اللاهوتية (نقد هارون يحيي لنظرية التطور في" أطلس" والعلم الغربي عموما )واللاهوت السياسي.
للعلمانية مقتضيات معرفية واجتماعية وسياسية ، لا محيص من توفيرها ، وإلا أصبح" الفصل" التقني أو القانوني ، على افتراض إمكانه ، مجرد استمرارية للاهوت والمعرفة الشرعية والشريعة والاستبداد بوسائل أخرى كما في المثال الناصري والتركي والتونسي .
لا يمكن إقرار العلمانية ،بدون تفكيك للاهوت المعرفي واللاهوت السياسي واللاهوت التربوي ،وإقرار بدائل حديثة وعقلية، فكرية وسياسية وجمالية ،للموروث المنقود والمفكك.
إن العلمانية صيرورة معقدة ؛ولذلك فإن ربطها بالفصل بين الديني والسياسي ، أي بحلقة من حلقاتها ، وبإجراء من إجراءاتها ، ليس إلا تبسيطا فكريا مخلا بمقتضيات الفكر المتسق .


الإحالات :
1-(-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة – ترجمة : حسن حنفي ،مكتبة الأنجلو المصرية ،القاهرة،ل، الطبعة الثالثة ،ص.233)
2-(-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة –،ص.264)
3-(كانط-جواب عن السؤال : ما هب الأنوار ؟-ترجمة : حسين حرب –الفكر العربي –العدد48-1987-ص.133)
4-(كانط-جواب عن السؤال : ما هب الأنوار ص.132)

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب