الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقه الترجمة كلتا الطوباويتين – الجزء الثاني ٢-;- من ٥-;-

فؤاد حهاد شمس الدين

2015 / 4 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عندما تكون المحادثة ليست مجرد تبادل آلي للكلمات يتصرف من خلالها البشر كآلة الحاكي؛ بل يتحادث الأطراف حول موضوع حقيقي, عندئذ تحدث ظاهرة غريبة. خلال النقاش تبدأ شخصية كل متحدث بالتميز والإبتعاد عن الآخر: فالطرف الآخر يبدأ بملاحظة ما يقال ويتواصل مع المحادثة, أي بينما ينجذب الآخر من قبل الموضوع, كالطير من قبل الأفعى, ينسحب بشكل متواصل الى اعماق ذاته ويفكر ملياً في موضوع المحادثة. المحادثة تعني إننا في مجتمع اما في التفكير فإننا نبقى منفردين. ولكن في في مثل هكذا نوع من المحادثات فإننا نقوم بالإثنين في وقت واحد, بل نفعلها بشدة أكثر كلما تتواصل المحادثة, فنحن نكرس أقصى إهتمامنا لما يقال وفي نفس الوقت نغوص في الوحدة العميقة للتفكير في الموضوع. مثل هكذا تعارض لا يمكن ان يستمر دائماً في حالة من التوازن. لذا تتميز هذه المحادثات انها تصل الى نقطة تتوقف فيها ويسود الصمت المطبق. فكلا طرفي الحديث مستغرق في نفسه, فهو لا يتسطيع ان يتكلم من كثرة التفكير. فالحوار انتج صمت, وينحدر المشترك الى عزلة.
حدث هذا في لقائنا. وطبقاً لأخر كلماتي " لماذا بالذات هنا؟" من دون شك بسبب ما يلي: إن هذا المد الهائل من الصمت الذي غطى فجأةً على الحوار يتأتى عندما يصل تطور الموضوع الى نهايته في إحدى الإتجاهات بحيث تصبح سفينة المحاثة تدور حول نفسها ويتوجب عليها ان تسلك طريقاً آخر.
سيقول أحدهم: هذا الصمت الذي طرء علينا ذو صفة جنائزية. فقد قتلت الترجمة ونتابع صامتين مراسم دفنها. سأرد وأقول بالتأكيد لا, فأنا يهمني قبل كل شئ توضيح الصعوبات التي تعيشها الترجمة وتحديدها عن قرب ولكن ليس التوقف عند هذا فقط, بل كإنطلاقة الى الروعة المحتملة لفن الترجمة, لذا فقد اتت اللحظة التي نهتف فيها "الترجمة ماتت. تعيش الترجمة" الآن يتعين علينا ان نسلك الطريق المعاكس, او كما يقول افلاطون في حالات مماثلة ان نغني إقرار الخطأ.
سيقول السيد فلان أن هذا سيكلفك كثيراً من العمل, فنحن لا ننسى إدعائك السابق بأن الترجمة مشروع خيالي ومهمة مستحيلة.
صحيح لقد أدعيت هذا وأكثر من ذلك بعض الشيء. لقد قلت تتسم كافة الأنشطة الإنسانية بطابع مماثل. لاتخف عندما سأقول الآن لماذا افكر بهذاالشكل. أنا اعرف ان في المحادثة مع الفرنسيين يجب تجنب الأساسي والبقاء في المناطق المعتدلة للأسئلة المباشرة. إنه لطفاً منك ان تستمع الى مناجاتي الخفية, برغم ان المونولوج يعتبر جريمة كبيرة في باريس. لذا اتكلم بنوع من الخجل لأنني احس بأن ضميري مثقل, كما لو إنني بصدد إرتكاب عملية إغتصاب. الشيء الوحيد الذي يهدؤئني فقط هو قناعتي بأن فرنسيتي تجر الخطى متعثرة وتنقصها الرشاقة المطلوبة للرقص المقابل في الحوار. ولكن لنعود الى موضوعنا الأساسي ألا وهي الطبيعة التخيلية لكل ما هو ماهو إنساني. فبدلاً من ان نحاول الدفاع عن هذه الفرضية بأسس ثابتة وقوية فإني ادعوك لقبولها في البداية ولو لمرة واحدة – كإستمتاع بتجربة عقلية – ان تتقبلها كمبدأ وتنظر من خلالها الى تحسس وتخيل الإنسان.
ولكنك تقف في أعمالك في الكثير من الأحيان ضدالتخيلية, اردف صديقي قائلاً.
نعم في الكثير من الأحيان وبشكل متواصل, هناك تخيلية خاطئة - على العكس ما أنا بصدده؛ التي تكمن في الإعتقاد بان كل ما يرغب فيه الإنسان ويخطط له ويباشر فيه ممكن بسهولة. لا شئ يثير بي الإشمئزاز أكثر من ذلك؛ إني أرى فيها السبب الرئيسي لكل الشر الذي يحدث في عالمنا. ففي الموضوع المتواضع الذي يشغلنا الآن نستطيع أن نقدر التناقض بين التخيليتين. التخيلي السيئ كما التخيلي الجيد كلاهما ينشدان إزالة صعوبة التواصل بين البشر نتيجة تواجدهم في بيئات لغوية مختلفة. فالتخيلي السيئ يعتقد انه طالما أن ذلك مرغوب فيه فهو ممكن ومن هناك لا توجد الا خطوة واحدة للإعتقاد بأن ذلك ايضاً سهل, ومن هذا المنطلق فإنه لا يشغل نفسه بالتفكير في كيفية الترجمة بل يباشر بها فوراً. وهذا هو السبب في أن أغلبية الترجمات لحد الآن سيئة. اما التخيلي الجيد فإنه يعتقد: حتى لو كان من المرغوب به التخلص من الإنفصال بين البشر عبر تقييدات اللغة, فمن المحتمل ان لا يكون ذلك ممكناً إلا بصورة تقريبية, ولكن هذا التقرب قد يكون كبيراً او صغيراً ... لحد اللامتناهي. هذا يفتح امام جهودنا حقل لا متناهي من النشاط تحدث من خلاله تحسينات وسيطرة وتمكن تام بعبارة اخرى تقدم. إن الوجود الإنساني هو عبارة عن جهود بهذا الإتجاه. تصور العكس: سيكون محكوم عليك ان تنشغل فقط بإمور ممكنة التحقق اي تلك التي يمكن ان تتحقق بنفسها, اي كابوس سيكون هذا! ستبدو لك حياتك فارغة. عندما تتمكن من خلال فعلك ان تصل الى ما كنت تنوي القيام به, فسيبدو لك ذلك كما لو لم تفعل شئ. إن الوجود الإنساني يتضمن نوع من الرياضة, التي يجد فيها الإنسان متعة بحد ذاتها. إن تأريخ العالم يفتح امام بصرنا قدرة الإنسان المستمرة واللا ناضبة على وضع خطط غير قابلة للتحقق. فمن خلال جهوده لتحقيقها يحقق الكثير, يصل الى الكثير من الحقائق التي لا تظهرها الطبيعة بحد ذاتها. الشئ الوحيد الذي لايستطيع الإنسان ان ينجزه هو ما يريد ان يقوم به, نقول هذا لتشريفه. هذا التزاوج بين الواقع وبين كابوس غير الممكن هو الذي يساعد العالم على التطور الوحيد القادر عليه. لذلك يجب التأكيد على إن كل ما يستحق بذل جهد إنساني هو صعب بل من الصعوبة بمكان بحيث يكون غير ممكن.
كما ترون إن هذا هو ليس إعتراض على روعة الترجمة عندما يقال إن الترجمة غير ممكنة. بل بالعكس فهذه الصفة تضعها في اعلى درجات النبل وتجعلنا ندرك إن لذلك معنى.
سيعترض استاذ في تأريخ الفن ويقول, هل تتفق معي في الرأي بأن رسالة الإنسان , اي كل ما يجعل ما يصبو إليه ذو معنى, هو ان يقاوم الطبيعة.
فاجيب قائلاً إن هذا يقترب من تصوري ولكن يجب عدم نسيان التمييز بين نوعين من الطوباويتين السيئة والجيدة. إني أصر على ذلك لأن احدى السمات الأساسية للتخيلي الجيد بكل مقاومته الشديدة للطبيعة هو أن يحسب حسابها ولا يخضع للأوهام. على الطوباوي الجيد ان يعد نفسه بأن يكون واقعي صلب لا يهتز, فقط عندما يكون متأكداً من انه قد رأي الحقيقة بشكل كامل وبدون وهم وفي عريها الأكثر مرارة, عند ذاك يستدير عليها بدون تردد ويحاول ان يعيد تشكيلها بإتجاه غير الممكن, وهذا هو الشئ الوحيد المعقول.
أما الموفق التقليدي المعاكس فإنه يفترض بأن المرغوب فيه موجود كنتاج آني للحقيقة. وهذا ما قد اغلق عينينا منذ البداية عن فهم ما هو إنساني. فنحن كلنا نتمنى ان يكون الإنسان طيب, ولكن روسو الذي تعودنا عليه منذ زمن طويل يخبرنا بأن هذه الرغبة قد تحققت لأن الإنسان بطبعه وتكوينه طيب. وبذلك فقد ضاع علينا قرن ونصف من التأريخ الاوربي والتي كانت ستكون رائعة, لقد تعين علينا ان نواجه مخاوف ومصائب هائلة , بضمنها ما قد نواجهه لاحقاً, كي نعيد إكتشاف الحقيقة البسيطة, والتي كانت معروفة قبل غالبية القرون الماضية, وهي ان الإنسان بهيمة.

وعودةً الى موضوعنا: فإن إستحالة الترجمة لا تعني ان ممارسة الترجمة عديمة المعنى كما يحلو للبعض ان يتخيل ذلك وان الترجمة سخيفة لأن لا أحد يمكن ان يتصور أن التحدث بلغة امهاتنا عديم الجدوى؛ ومع ذلك فإننا نتعامل هنا مع جهد تخيلي. هذا الإدعاء ادى ايضاً الى سيل من الإعتراضات. هذا صيغة تفضيل او إفراط كما يحلو للنحويين ان يدعوا, كما عبر عن ذلك عالم لغة بقي صامت لحد الآن, في حين أكد عالم إجتماع ان هذا مغالاة وببساطة متناقض كما يتضح لي فإن سفينة اطروحتي السباقة تتعرض الآن لخطر الإنقلاب في خضم هذه العاصفة المفاجئة. من الواضح لي أن الإذن الفرنسية, ومهما بلغت طيبتها, فإن من الصعب لها تسمع أن الكلام بحد ذاته هو ضرب من الخيال. ولكن ماذا عساي ان افعل أن يكون ذلك هو الحقيقة الغير قابلة للنقض.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل