الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكان لا بد يا -لي لي- أن تزوري الفيل؟

إكرام يوسف

2015 / 4 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"لي لي"هنا، ليست بطلة قصة يوسف إدريس "أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟"؛ وإنما هو اسم تدليل حفيدتي "أليس" ذات العامين ونصف العام، التي فكرت أن أصحبها لزيارة حديقة الحيوان، حتى تتعرف عن قرب على المخلوقات التي أحكي لها عنها، وأطلعها على صورها في كتب الأطفال!
كان آخر عهدي بالحديقة قبل خمسة وعشرين عاما، وأبوها في الخامسة من عمره. وقتها، كتنت لاتزال تحتفظ ببعض ملامح زمن مضى شهدته بنفسي طفلة. وعلى الرغم مما أقرأه بين الحين والآخر عن آثار إهمال أصاب الحديقة وساكنيها من الحيوانات، وعن شائعات حول مؤامرات لتخريبها وهدمها توطئة لبيع أرضها لمستثمرين، (تحدثت احدى الشائعات عن عرض من السفارة الصهيونية لشراء قطعة من أرضها!!) إلا أنني لم أكن أتخيل ما آل إليه حالها بالفعل!
وجدت مظاهر الإهمال والخراب تعم كل أرجاء الحديقة التي بدأ إنشاؤها عام 1871 في عهد الخديو اسماعيل وافتتحها الخديو توفيق في 1891 ، وكانت أكبر حدائق الحيوان في الشرق الأوسط وأفريقيا. وصار الوضع مزريا، حيث ضاعت معالم منشآتها الأثرية ذات الطابع الناريخي العبقري تحت معاول الإهمال والفساد. وبعد أن كانت تضم نحو سنة آلاف حيوان تنتمي إلى 176 نوعا، بينها أنواع نادرة، فضلا عن نباتات نادرة مستوردة من الخارج عاشت أكثر من قرن وربع القرن منذ افتتاح الحديقة؛ اختفى الكثير من الحيوانات وتدهورت أحوال البقية الباقية، وتعرض للتلف والموات معظم النباتات. فعندما ذهبنا إلى بيت الفيلة.. شهدنا أنثى فيل يبدو عليها تقدم السن، وأظنها نفس الفيلة التي ركبت فوقها وأنا طفلة قبل نحو نصف قرن! حيث وجدت الحارس يناديها بنفس الاسم القديم "نعيمة"!! وكانت وقتها في عنفوان الشباب، يمتطي ظهرها الحارس ويضع فوقها مقعدا خشبيا، يجلس عليه الأطفال، لتسير بهم في طرقات الحديقة!! لكن التي شهدتها مع حفيدتي، يبدو عليها البؤس والهرم، لا تستطيع أن تحمل طفلا، لكنها بالكاد تقف وراء سور لتدلي بزلومتها خارج السور فيلقمها الأطفال أوراق الخس!! ويبدو أن أوراق الخس الذابلة هي قائمة الطعام الحصرية لأغلب حيوانات الحديقة! فلم نجد غيرها عند الماعز أو الأرانب. حتى النسانيس، لم يكن هناك السوداني أو الموز لإطعامها، وحده الخس فقط، وليته كان طازجا حتى!! يقدم حارس كل من هذه الحيوانات للأطفال، وريقات خس ذابلة، مقابل ما يجود به الأهل من بقشيش، حتى يلتقطون لأطفالهم صورا، وهم يطعمون الحيوان!!
لم نجد بالطبع زرافة، بعد مقتل آخر الزرافات التي قيل إنها انتحرت! ولم تكن هناك قردة أو شمبانزي بعد وفاة آخر شمبانزي اثر عملية جراحية لإزالة ورم قبل عدة سنوات. وعندما ذهبنا إلى بيت الأسود، وجدنا حال ملك الغابة يدمي القلب، فقد ضربت على أسود الحديقة ونمورها الذلة والمسكنة..وبدا أكبر الأسود مجهدا متداعيا، حتى أحسست به يشعر بالضجر ويتأفف من وجودنا، واستحييت من الوقوف أمامه بالطفلة التي نعلمها أن الأسد رمز للقوة والمهابة!! ولست بحاجة للحديث عن قذارة جميع الأماكن التي يفترض أنها مخصصة لجلوس الزوار؛ حتى إنني اضطررت لحمل حفيدتي معظم الوقت، خشية أن تلمس بيديها ما قد ينقل إليها مرضا لاقدر الله! وقررت أن أختصر الزيارة لأقلل من احتمالات الخطر!!
عدت من الزيارة كسيرة النفس حزينة القلب، وأنا أتساءل، كيف لا يستحي المسئولون عن هذا البلد وهم يتحدثون عن نوايا بناء عاصمة جديدة تضم ناطحات للسحاب، ومدينة شبيهة بوالت ديزني؟ وكيف لا يشعرون بالخجل وهم يبددون بأيديهم ثروات ورثناها من أجيال قبلنا؛ وكان المفترض أن نحافظ عليها ونصونها على الأقل ـ إن لم نطورها وننميها ونزيدها ـ لأجيال قادمة؟
كيف نتوقع منهم بناء المستقبل وهم لا يؤتمنون على ماورثناه من الأباء وما نملكه بالفعل في الحاضر؟ كيف ننتظر منهم أن يعملوا لصالح بسطاء هذا البلد، وهم يستخسرون فيهم نسمة هواء نقي يتنفسونها وأطفالهم في أحضان حديقة تركها لهم الأجداد؟
كيف يتحدثون عن السياحة، وها هي الحديقة التي كان يقال عنها "درة تاج حدائق الحيوان في أفريقيا" تطرد من الاتحاد الدولي لحدائق الحيوان في عام 2004، بعد تحذيرات، وتنبيهات دولية عدة، وتقارير خبراء دوليين أطلقت نواقيس الخطر؟
كيف يتحدثون عن السياحة، وآثار مصر مهددة بالفناء، ومياه المجاري تحيط بجدران المعابد، واليونسكو تخذف هرم زوسر من قائمة الآثار العالمية بعدما تعرض له من تخريب!! ولم يتحرك أحد رغم أن المنظمة الدولية حذرت أكثر من مرة من أن آثار مصر ـ التي تحدت عاديات الزمان آلاف السنين ـ مهددة بالاندثار خلال قرن واحد إذا استمرت معاملتها على هذا المنوال؟ لدرجة أن بعض المصريين صار يتمنى أن تتعرض هذه الآثار للسرقة والبيع لمن يعرف كيف يحافظ عليها، ويحميها من الفناء!
كيف يتحدثون عن التطوير، وعن السياحة وعن حقوق المواطن، ونيل مصر يئن مما يلقاه من مهانات واعتداءات، لا يحاسب عليها الواصلون؟ ويكاد يختفي عن أنظار بسطاء هذا البلد، بفعل منشآت على شاطئيه تتحدى قانونا كان يمنع حجب منظر النيل عن المارة؟و حتى نادي القضاة ـ حماة القانون ـ لم يتورع عن بناء سور مغطى بالرخام على مسافة كبيرة من شاطئ نيل العجوزة! فإلى من يتوجه بالشكوى مواطن حرم من نسمة هواء نيل بلاده، ومغتصبو حقه هم القضاة؟
سرحت بعيدا، وأنا أتخيل حفيدتي لي لي أّمّا بعد أعوام؛ هل سيأتي اليوم الذي تستطيع فيه أن تصحب أطفالها في نزهة نيلية، أو جلسة على ضفاف النيل، أو إلى آثار بلادها بطول الوادي، أو إلى حديقة حيوان الجيزة؛ وهي تشعر بالفخر، شاكرة أجيال حافظت على تراث الوطن من أجل جيلها وأجيال تالية ؟ أم أنها ستجلس بين أطفالها تحكي لهم وتطلعهم على صور كنوز ورثناها، وأضعناها؟ هل سيذكروننا بالخير ويستمطرون علينا الرحمات؟ أم يستنزلون اللعنات على كل من تسبب في هذا الضياع؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مصر تحتضر
احمد سعيد ( 2015 / 4 / 3 - 16:50 )
من المؤسف والمحزن ان وصفك لحديقه الحيوان المزريه يكاد ينطبق طبق الاصل على حال مصر الدوله المريضه المنهاره المحطمه البائسه ,بالطبع هذا من دواعى الحزن أن مصر تحتضر ولايوجد علاج لها

اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل