الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرة حياة -ابانا الذي في السماوات-

الحسين الطاهر

2015 / 4 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ان التشابه بين الصلاة الواردة في انجيل متي و الرقية الواردة في مستدرك الحاكم و الاخرى في وسائل الشيعة، تشابه مذهل، هو مثلٌ بسيط نسوقه للتدليل على التاثير الواضح للاديان السابقة على ما يلحقها من اديان، و كيفية تحوير الافكار و النصوص لتتكيف مع الواقع الجديد و الايديولوجية السائدة.
ربما يفسر البعض هذا التشابه بالصدفة، لكن وحدة العبارات المستخدمة تشي بالعلاقة بين النصوص. و قد يعترض البعض على فرضيتنا مبررين اعتراضهم بوحدة المصدر (الوحي) لكن هذا تفسير روحاني – كما هو واضح- له علاقة بالايمان لا بالنقد العقلي، كما ان الوحي ليس مقيدا بنفس التعبيرات و الاقوال ليرددها –كما هي- عبر القرون، فالامر هنا ليس تشابه الفكرة الجوهرية بل هو تشابه اكبر من ذلك يدل على اقتباس المسلمين للتراث المسيحي، هذا ان سلّمنا لمصدر الوحي بقليل من الثقافة و سعة الخيال التي تمنعه من تكرار نفسه !

و قد وردت الصلاة التالية في الانجيل، تعليما من المسيح لاتباعه كما يُدَّعى: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ(1).
و وردت رقية (دعاء لغرض الشفاء) تنسبها الاحاديث للنبي بالشكل الآتي: ربنا الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء والأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا يا رب الطيبين أنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ(2).
و تَشابُه الصلاة المسيحية و الرقية الاسلامية واضح في بداية النص بذكر "الاله" الذي في السماء، ثم تقديس اسمه بعدها مباشرة، و ذكر مشيئته الحاكمة للكون كله، يليه الدعاء بالمغفرة.

اما تكيّف "الصلاة" المسيحية للواقع الجديد فكان كما يلي:
1- تحولت "ابانا"، ذات الروح المسيحية الواضحة، الى "ربنا" الاسلامية التنزيهية الصارمة.
2- ان الطلب المسيحي لتحقيق امر الرب على الارض مثلما هي متحققة في السماء تحول الى ذكر اسلامي لامر الله في السماء و الارض تماشيا مع روح الاسلام المعظمة لله الملِك صاحب الامر دائما.
3- الدعاء المسيحي بالمغفرة الالهية الملازمة لمغفرة البشر اخطاء بعضهم البعض تتناسب مع الروح المسيحي في "ادِر له الخد الايسر"، اما مبدأ العين بالعين الاسلامي (المتماثل مع التشريعات البابلية و السامية بصورة عامة) فجعل المحدّثين المسلمين يفصلون بين غفران الله و مسامحة البشر لبعضهم، و ان بقي عندهم اثر من الروح المسيحية الاولى في القول "رب الطيبين".
4- كانت الصلاة المسيحية صلاة عامة تطلب من الله المغفرة و الرزق و الحياة الخالية من الاثام، لكن صيغتها الاسلامية وردت في سياق محدد هو شفاء المرضى، و ليس لنا ان نتوقع مطابقة تامة بين دينين تفصلهما قرون من الزمن و مباديء و عادات مختلفة. فنلاحظ ختام الصلاة المسيحية ختاما "صلواتيا" تقليديا بينما كان ختام الرقية الاسلامية طلبا "طبيا شفائيا" واضحا.

و وردت نفس الرقية عند الشيعة منسوبة لتعليم جبريل للنبي لغرض الشفاء: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ ذِكْرُ رَبِّنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْرُهُ نَافِذٌ مَاضٍ كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَخَطَايَانَا يَا رَبَّ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ أَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ وَرَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانَةَ(3).
و نلاحظ ان نسخة "الرقية" الشيعية المتاخرة - زمنيا- تتلبس ثوبا اكثر اسلامية فتبدأ ببسملة مجزوءة، كما تُظهر مسحة مذهبية فَتذكر "رب الطيبين الطاهرين" في مضاهاة للقب اهل البيت التقليدي عند الشيعة.

و اخيرا، قد يعتقد البعض ان عُمر الصلاة الربيّة المسيحية - كما قد تُسمّى - لا يتجاوز الالفي عام، الا ان التاريخ يخبرنا ان بذرتها تعود الى اديان عريقة القِدم، و في هذا زيادة في التأكيد على استمرارية الافكار و "الصلوات" عبر العصور و بين الاديان، لا يتغيّر فيها الا الثوب الذي تلبسه لكن الروح واحدة !
فقد جاء في ملحمة الخلق البابلية (اينوما ايليش) ان الآلهة - بعد انتصار مردوخ اله بابل العاصمة الامبراطورية، على رمز الفوضى تعامة (تيامت) - قامَت (هذه الآلهة) "بالاشادة بقدر مردوخ، و سجدوا امامه... معترفين له بالسلطة المطلقة... (و اطلقوا عليه الاسماء المقدّسة، و اضافوا) لتكن اوامره نافذة كما في السماء كذلك على الارض... و ليمارس من اجلهم مهمة المموّن... و ليسهر على (فاعلية) الرقى التعويذية، و ليحقق على الارض مثيل ما حققه في السماء... (و) ليكن هو الهنا الاوحد (ثم يبدأ ذكر اسمائه الممجّدة بالتفصيل)"(4). فهنا نجد مردوخ الاله السماوي المتعالي، يتقدّس اسمه، و تنفذُ مشيئته كما في السماء كذلك على الارض، و يُدعى لتوفير الخبز و الطعام، و العمل لاجل الآلهة و البشر، لانه الاله الواحد الممجّد الى الابد (آمين) !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكتاب المقدس، انجيل متي، اصحاح 6 ايات 9-13، حسب http://st-takla.org/P-1_.html
(2) المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج 17 ص 370 حديث 7620 حسب المكتبة الشاملة، و قال عنه انه حديث صحيح !
(3) وسائل الشيعة للحر العاملي، ج2 ص423 حسب المكتبة الشاملة
(4) ديوان الاساطير، ج2 ص ص 194-196 ، نقله الى العربية و علّق عليه: قاسم الشوّاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الله والأديان .. أكبر كذبة في تأريخ البشرية
الحكيم البابلي ( 2015 / 4 / 4 - 20:49 )
زميلنا الحسين الطاهر .. تحية
مقال ذكي إستطاع أن يضع بضعة نقاط على الحروف التائهة في دوامة الأديان الترهيبية كما اُسميها، وقد نَجَحتَ تماماً في مسعاك، شكراً على مجهودك الفكري

كما تعرف هناك مئات إن لم أقل آلاف الإقتباسات والسرقات المُخجِلة في الأديان الترهيبية هذه، الواحد سرق من الآخر وبنى على فكرة وخرافات الآخر!، وبداية الحرامية كان اليهود الذين زعموا أن الله الغيبي أوحى لهم بدين سماوي مُقدس، بينما هُم سرقوه بلا أدنى خجل من تراث شعوب الرافدين ومصر القديمة
ولهذا سيدي العزيز، فعندما تم كشف خزعبلات وسرقات الدين االيهودي من تُراث وحضارة الرافدين، كان المفروض بهذا الدين أن يسقط، خاصةً ونحنُ في عالم التحضر والعلوم، كذلك كان من المفروض بالمسيحية والإسلام أن يسقطوا كأحجار الدامينو بعد سقوط اليهودية المُدوي، ولكن .. كما تعرف فهناك للرب المُزيف من يحميه من الحرس القديم الذي يعتاش على مثل هذه الخزعبلات مُحاولاً بناء ما وعد اليهود أنفسهم به، دولة من الفرات إلى النيل وعلى أساس أنها هبة أو عطية الرب الوهمي الخزعبلاتي المزعوم
صدقني أن تحرر الإنسان على الأرض لن يتم إلا بعد تحريره من أصفاد السماء


2 - غيض من فيض
الحسين الطاهر ( 2015 / 4 / 5 - 00:26 )
الزميل الحكيم البابلي، تحية طيبة
اعتقد ان دين سومر لا يزال يعيش في وجداننا جميعا، باصوله و اساطيره و طقوسه، علم حاملوه ذلك او لم يعلموا، لكنه يعيش بشكل توسعي مشوّه، على عكس -النسخة الاصلية- المسالمة
و لذلك حين وقعت على حديث الحاكم -صدفة- شدّني اليه التشابه مع الصلاة المسيحية المشهورة، و طفقت ابحث عن الاصل العراقي القديم مباشرة، و وجدته بعد بحث لم يطل !
و رغم انه من المفترض اننا نعيش في عالم التطور و الحضارة - كما تفضلت - اليوم، الا ان اغلبنا قد ترك عقله في العصور الوسطى و لم ينتقل الا بجسده الى عالمنا
شكرا على التعليق الواضح و المفيد.. و لا نزال جميعا ننتظر -الصحوة الكبرى- لعل ما نمر به اليوم يكون الصدمة الشافية


3 - تعليق
ايدن حسين ( 2015 / 4 / 5 - 17:06 )

تحية طيبة
انت كالذي بريد ان يقول ان الفيزياء هو نفس الكيمياء لان كليهما علم من العلوم
لا ادري ما هي اوجه التشابه التي تقصدها بين الدعائين
مثلا .. هل كان يجب ان يحتوي احد الدعائين سباب بدلا من التمجيد .. لكي تقول ان الدعائين مختلفين
و احترامي
..


4 - وجه التشابه
الحسين الطاهر ( 2015 / 4 / 5 - 21:13 )
-
قد يعترض البعض على فرضيتنا مبررين اعتراضهم بوحدة المصدر (الوحي) لكن هذا تفسير روحاني – كما هو واضح- له علاقة بالايمان لا بالنقد العقلي، كما ان الوحي ليس مقيدا بنفس التعبيرات و الاقوال ليرددها –كما هي- عبر القرون، فالامر هنا ليس تشابه الفكرة الجوهرية بل هو تشابه اكبر من ذلك
-
تحية طيبة
لا يجب ان يحل السباب محل التمجيد، لكن لا سبب لاستخدام نفس عبارات التمجيد بنصها
و الا كان -النص مستعارا- فما سبب تكرار نفس العبارات تقريبا بنفس الترتيب لايصال الفكرة ان لم يكن المكرر مقتبسا من المصدر المبكر؟
مثال1: ابانا الذي في السماوات، تصبح: الله الذي لا اله الا هو
كلاهما تمجيد لله و لا يوجد اي تكرار او اقتباس
مثال 2: ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك و لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض، تصبح: ربنا الذي في السماوات مقدس اسمك و امرك نافذ في السماء كذلك على الارض ..
هذا اقتباس صريح برأيي و برأي
turn-it-inكما اعتقد !
مع الاحترام

اخر الافلام

.. مفاوضات التهدئة في غزة.. النازحون يتطلعون إلى وقف قريب لإطلا


.. موجة «كوليرا» جديدة تتفشى في المحافظات اليمنية| #مراسلو_سكاي




.. ما تداعيات لقاء بلينكن وإسحاق هرتسوغ في إسرائيل؟


.. فك شيفرة لعنة الفراعنة.. زاهي حواس يناقش الأسباب في -صباح ال




.. صباح العربية | زاهي حواس يرد على شائعات لعنة الفراعنة وسر وف