الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسوع المفكّر 1 مقدمة

طوني سماحة

2015 / 4 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مقدمة

لقد عرف العالم مفكرين و معلمين من الطراز الأول تركوا بصماتهم على مسيرة الحضارة البشرية. كتب حمورابي البابلي أولى الشرائع في الألفية الثانية قبل الميلاد والتي تضمنت 282 مادة شملت مختلف المواضيع الاجتماعية والقانونية والفكرية. بزغ نجم سقراط وأفلاطون وأرسطو بين الأعوام 500 و 400 قبل الميلاد، فحلم أفلاطون بمدينته الفاضلة وزرع نواة الفلسفة والعلوم من خلال إنشائه أول معهد للتعليم العالي في العالم الغربي. تناولت دراسات أفلاطون المعرفة والفكر والميتافيزيقيا واللغة والرياضيات والأخلاق السياسية. أما أرسطو، فلقد كان معلم الاسكندر المقدوني، و تناول الفيزياء والشعر والمسرح والمنطق والبلاغة والسياسة والحكومة وعلم الاحياء. وتطول السلسلة في العالمين القديم والحديث لتشمل عظماء أمثال كونفوشيوس وأبيكوروس وأرخميدس و توماس الاكويني وديكارت وغيرهم. لكن ماذا عن يسوع المسيح؟ أين هو من عالم الفكر؟

ولد يسوع المسيح منذ ألفي عاما تقريبا في مجتمع يهودي منغلق على ذاته. عاش تحت الاحتلال الروماني لفلسطين في زمن انحطاط فكري وثقافي وديني واحباط سياسي وقومي. لا نعرف الكثير عن نشأته الفكرية سوى ما ورد عنه في إنجيل لوقا عندما أضاعه والداه مريم ويوسف ولم يكن آنذاك قد تجاوز الثانية عشرة من عمره، ولما طلباه وجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسا في وسط معلمي اليهود يسمعهم ويسألهم.

كان مضمون رسالة المسيح روحيا بشكل أساسي، لكن ذلك لم يمنعه من تناول مواضيع اجتماعية وفكرية وثقافية أرست فيما بعد لثقافة حقوق الانسان واحترام المرأة والعدالة الاجتماعية والحرية ورفض الظلم وعلاقة المواطن بالسلطة الدينية والزمنية ومساءلة المسلمات الفكرية والثقافية والدينية. أطلق يسوع فكره في اليهودية والجليل إلا أن تلامذته حملوه الى العالم اجمع على الرغم من أن معظمهم، ما لم يكونوا جميعهم، كانوا محدودي المعرفة والثقافة، مثال بطرس وأندراوس أخيه صيادي الأسماك.

عندما انطلق رسل المسيح، بعد موته وقيامته، حاملين رسالته الى اطراف الدنيا الاربعة، لم يجدوا قبولا مباشرا لتعليمهم كما أنهم لم يسيروا على دروب فرشت لهم بالسجاد والرياحين. حاول حاخامات اليهود قبل ذلك قتل فكر المسيح من خلال محاربته ومن ثم صلبه. واجهته الامبراطوية الرومانية بكل ما أوتيت به من قوة، فلم توفر سيفا ولا صليبا، بل رمت بكل من آمن بهذا الفكر طعاما للأسود الجائعة وأحرقتهم مشاعل تضيء بها شوارع روما. لم يؤمن الاسلام أيضا بهذا الفكر، بل حاربه وكفره واتهمه بالتحريف، ووضع على كل من يريد تبني هذا الفكر شروطا ثلاثة: الاسلام، الموت أو الجزية. وما زالت بعض الدول الاسلامية حتى اليوم تمنع دخول الكتاب المقدس الى اراضيها وتسجن كل من يؤمن به وتطبق حق الردة عليه وتمنعه. حاربته الكنيسة في القرون الوسطى إذ جعلت منه حكرا على رجال الدين، وخالفت هذه المؤسسة أبسط تعاليم المسيح حيث أنها بنت نظاما سياسيا وتحالفات مع الممالك الأوروبية ضاربة بعرض الحائط قول المسيح "مملكتي ليست من هذا العالم". كذلك أيضا حملت الكنيسة السيف محاربة أو مشجعة على الحروب مع أن المسيح علم تلميذه بطرس "رد سيفك الى غمده. من أخذ بالسيف بالسيف يأخذ".كذلك لم تتردد الكنيسة ببيع صكوك الغفران كيما تجمع لنفسها ثروة حيث أدركت جيدا أن الثروة والسلطة توأمان، فيما المسيح صرح علانية "و أما ابن الانسان (المسيح) فليس له أين يسند رأسه" و أيضا " لا تعبدوا ربين الله والمال".

لم يجد الفكر المسيحي أرضا كثيرة الخصوبة في العالم المعاصر. فالاتحاد السوفياتي حاربه بشدة، فيما المجتمع الغربي عامة رفضه تحت تأثير الحداثة والتيارات المتحررة التي ظهرت في القرنين العشرين و والحادي والعشرين. ومن أبرز هذه التيارات هي الوجودية والسريالية التي علمت بعبثية الحياة والوجود. لكن، ومع أن هذه التيارات طرحت تساؤلات وطروحات وجودية خطيرة يشوبها اليأس والاحباط، إلا أنها لم تقدم حلولا اجتماعية وثقافية تتيح للإنسان الخروج من نفق الضياع والشك. فكانت النتيجة أن هذه التيارات هدمت صرحا قائما دون أن تقوم ببناء بديل عنه.

لكن ومن الملفت للنظر أن كل القوى التي حاربت الفكر المسيحي استفادت منه بشكل مباشر أو غير مباشر. فالمجتع الروماني تهذب فكريا وحضاريا واجتماعيا وأدرك أن السيف يعجز عن قتل الفكر. كذلك الخلافة الاسلامية في الماضي والنهضة العربية في بداية القرن العشرين استفادتا من الفكر المستنير للسريان الذين قاموا بنقل المعرفة من اليونانية الى العربية ومن مساهمة المسيحيين بنهوض المجتمعات العربية حديثا بعدما دمر الاستعمار العثماني البنى الفكرية لهذه المجتمعات وكاد أن يقضي على لغتها العربية وهويتها.

أما الكنيسة فلقد تعلمت الدرس القاسي بعد أن ساءلها أتباعها في عصور النهضة و في العصور الحديثة عن سياساتها مما أدى الى خروج الناس أرتالا من كنفها. لكن وللأسف ما تزال الكنيسة المعاصرة بطوائفها المختلفة تسيء للفكر المسيحي بطرق شتى. فاليمين المسيحي في أميركا ملتزم سياسيا وليس روحيا، والكنيسة المعاصرة تبنت الفكر الحديث في أمور الزواج والطلاق والجنس والسياسة مما أدى الى تراجعها روحيا، إن لم نقل الى موتها. كذلك الانظمة الشمولية مثل الاسلام السياسي والديني، والشيوعية التي مارسها الاتحاد السوفياتي، أدركت على غرار المجتمع الروماني أنه بإمكانك إقفال الابواب على الفكر لمنعه من الدخول الى بيتك، كما أنه بإمكانك اضطهاده، إلا أنه ليس بإمكانك منعه من التسلل الى ذهنك من أجل دراسته وتفنيده وتقييمه وقبوله أو رفضه. فالفكر مثل الماء، يمكنك محاولة حبسه بين يديك، لكنك لا تستطيع منعه من التسلل بين اصابعك لمنعه من الانسياب حيث يشاء.

إذا ما هي مبادئ هذا الفكر الذي أتى به المسيح؟ ما هي بنوده؟ كيف أثر على العالم؟ هل ما زال صالحا لعالمنا المعاصر؟ هل هو فكر تنويري أم ظلامي؟ هل هو بنّاء أم هدام؟ أسئلة كثيرة نطرحها وسوف نحاول الاجابة عنها في المقالات القادمة إن شاء الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah