الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل الهوية والنهضة

فتحى سيد فرج

2015 / 4 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


فتحى سيد فرج

تتباين رؤى وأفكار التيارات الفاعلة فى الواقع المعاصر بمصر والبلدان العربية حول مفهومى الهوية والنهضة، فمنذ قرنين تقريبا وكل تيارات التفاعل الاجتماعى (الأصولية الإسلامية/تيار الإسلام السياسى، التيار القومى ، التيار اليسارى، التيار الليبرالى) تتبارى فى تقديم مشروعات نهضوية، هناك تيارات ترى أن النهضة سوف تتحقق بالعودة للماضى، وهناك تيارات أخرى ترى أن النهضة استشراف للمستقبل والعمل من أجل بناء مجتمع جديد، وعلى صعيد الهوية هناك من يرى أنها ثابتة ثبات الجذور وأنها الخصوصية المستمرة المميزة لكل مجتمع، وهناك من يرى أن الهوية تعبير عن الوجود الإنسانى فى تطوره عبر العصور تتغير وتتطور بفعل تغير الأحوال والظروف والاحتكاك والتفاعل بين المجتمعات .
وهكذا يمكن تحديد هدف هذا البحث بأنه توضيح العلاقة بين الهوية والنهضة لذا لزم البدا بتعريفهما :
تعريف النهضة : عملية اجتماعية ذات إبعاد سياسة واقتصادية وثقافية تهدف إلى ارتقاء نوعية حياة شعب ما خلال فترة زمنية محددة فى جميع مجالات الحياة .
تعريف الهوية : هى الخصائص المميزة للأفراد والمجتمعات، تتضمن عناصر لها ثبات نسبى، وعناصر تتطور وتتغير وفقا لتغير الظروف والتأثيرات المتبادلة بين الثقافات عبر العصور، فى المجتمعات المنسجمة التى ينعم فيها الأفراد بتحقيق الذات لا يثور سؤال الهوية، ولكن فى المجتمعات التى تعانى من أزمات يطرح سؤال الهوية ويظل مطروحا بإلحاح طالما استمرت الأزمات، انطلاقا من هذه التعريفات الإجرائية سوف نستعرض التباينات والاختلافات بين التيارات الفاعلة فى الواقع الراهن بمصر والبلدان العربية .
الأفغانى يرى "أن أمة العرب لم تكن شيأ مذكورا قبل الإسلام ثم أصبحت بفضله أمة ذات حضارة زاهر، هذه الأمة آل أمرها إلى الضعف حتى أصبحت طمعا للطامعين، وهى مريضة مشرفة على الهلاك، وسبب هذا الضعف انحرافها عن أصول دينها، وإذن : فعلاجها يكون برجوعها إلى دينها، اتفق معه حول هذا المعنى محمد عبده، مالك بن نبى، شكيب أرسلان، رشيد رضا وغيرهم، وما يزال هذا المضمون يشكل برنامج واستراتيجية للأصولية الإسلامية التى تحولت إلى الإسلام السياسى فيما بعد .
التيار القومى تتمحور النهضة لديه حول الوحدة العربية كهدف ووسيلة للتحرر والتقدم .
التيار اليسارى يرى أن النهضة هى تغير جذرى فى الواقع الاقتصادى والبناء الاجتماعى والكيان الثقافى والتركيب الطبقى من خلال تغير علاقات الإنتاج وأشكال الملكية .
التيار الليبرلى هدف النهضة لديه هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، دولة سيادة القانون، وتحقيق المواطنة من خلال عدم التمييز بين المواطنين بسبب العرق أو الدين أو الوضع الاجتماعى .
هكذا تنوعت التيارات الفاعلة فى الواقع العربى حول مفهوم النهضة تبعاً لخلفياتهم السياسية ومنطلقاتهم الإيديولوجية، كما اختلف المفكرون العرب حول بداية النهضة سواء من حيث المكان أو الزمان .

إشكالية الهوية فى البلدان العربية : الهويّة عنصر أساسيّ في بناء الحضارات ونهضة الأمم، إذ تشكّل المنطلق لفهم موقع الإنسان ودوره في العالم، وتحديد غايته، والمنهج الذى يتبعه للنهضة والتقدم، لذلك، فالحديث عن الهوية ليس مجرّد حديث نظري، وإنما هو حديث تشتدّ الحاجة إليه للوصول لنهضة ناجزه، ويمكن تعريف الهوية بالمعنى المجرد كالآتى :
الهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره (هو هو) .
أما تعريف ”الهوية“ فى المعاجم العربية فقد ورد بأكثر من معنى، فابن منظور فى لسان العرب يعرفها بأنها "وحدة الذات" - : [15/375-376]، دار صادر- بيروت - وهي بهذا المعنى تتساوى مع مصطلح (هو هو) الفلسفي، والذي يشير إلى ثبات الشيء بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات - ص: [207]، دار صادر- والمعجم الرائد يعرفها بأنها "حقيقة مطلقة في الأشياء والأحياء مشتملة على الحقائق والصفات الجوهرية" هوية النفس الإنسانية، "بطاقة الهوية" منسوبة إلى هو .
ولكن ما أدهشني أنه تكرر معنى آخر للهوية هو "البئر البعيدة القعر" المعجم الوسيط "بئر بعيدة المهواة" لسان العرب، وعاد المعجم الفلسفى ليكرر نفس المعنى ويضيف موضحا بأنها تصغير لكلمة (هوة) وهي "كل وهده عميقة“ (المعجم الفلسفي - مجمع اللغة العربية؛ ص: [208]، المطابع الأميرية، القاهرة 1983) - بينما يتمحور مفهوم "الهوية" عند تيار (الإسلام السياسى) حول "العقيدة" فيعرفها بأنها جوهر و حقيقة و ثوابت الأمة التي اصطبغت بالإسلام، فعاداتها و تقاليدها، وفنونها وسائر علومها، وتصوراتها لمكانة الإنسان في الكون من أين أتى ؟ وإلى أين ينتهي؟ ومعايير الحلال و الحرام، هي عناصر لهويتنا .. "العقيدة" هى الأساس وليْس الولاء للجِنس ولا للَّون ولا للأرْض، وإنَّما الولاء للدين الإسلامى .
"الهوية" عند التيار القومى هى : الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ، هدفهم وحدة العرب من المحيط إلى الخليج، فرابطة الدم هنا تحل محل رابطة الدين ."الهوية" عند التيار اليسارى "طبقية" و"أممية" الفرد أما إن يكون من المالكين فهو "رأسمالي" يستحوذ على فائض القيمة باستغلال العمال، وإما أن يضطر لبيع قوة عمله فهو "بروليتارى" مستغل، والصراع بين الطبقات سوف ينتهى عندما ينتصر الكادحين وينتهى الاستغلال وتضمحل الدولة، بالقضاء على النظام الرأسمالى من خلال إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج .
التيار الليبرالى هويته تقوم على أساس "الوطن المشترك" تتمحور حول "المواطنة" فجميع المواطنين متساويين فى جميع الحقوق والواجبات، لا تميز بينهم بسبب الدين أو العرق أو الوضع الاقتصادى، والاعتراف بكل مكونات الوطن التاريخية، فمصر فرعونية، ورومانية، ومسيحية، وإسلامية، لا حذف ولا إقصاء لأى مكون ثقافى أو اجتماعى، أو أى مرحلة تاريخية، والهدف الأسمى هو تشكيل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة من خلال نظام اقتصادى حر يحترم الملكية الخاصة بشرط قيامها بالدور الاجتماعى، وحياة ديمقراطية تقوم على مبدأ استقلال السلطات، وسيادة القانون على الجميع .

لذلك تكمن إشكالية هذه الهويات المتباينة فى أنها تتسم بالآتى :

• سؤال الهوية مطروح خاصة عند ”النخبة“ بإلحاح منذ ما يقارب القرن، ويعاد طرحة بسبب الأزمة المستحكمة لكل التيارات.
• هويات متناقضة، كل منها ينفى الآخر، (انتقلت من الرفض، إلى الكراهية والتحريم، إلى أن وصلت إلى القتل)
لذلك فهى متناحرة لحد الاقتتال .
• ولكننى أجد أن أهم سمة للهوية فى الفكر العربى هو تميزها بالثبات المطلق نتيجة ارتباطها بالدين الذى هو بطبيعته يتسم بالثبات، مما يؤدى إلى تأثيرات سلبية على مجمل نواحى الحياة .
• هناك فرق كبير بين الهوية بالمعنى الفلسفى الغربى (الذاتية) وفى الفكر العربى ( هوه : بئر / حفرة عميقة) .
كل الأمم لديها هويات مختلفة، ولكنها تحل إشكالياتها بالتوافق والديمقراطية .
الهوية الأصولية ترى أن كل من يخالفها كافر منحل وعدو .
الهوية اليسارية ترى من يخالفها مستغل متخلف ورجعى .
القوميين العرب لا يحترمون كل من يشكك فى قدرتهم على تحقيق الوحدة العربية .
الليبراليين قد يحترمون حرية الاختلاف نظريا، ولكنهم يوصمون كل من يخالفهم بأنه يعرقل إمكانية تقدم الوطن، ويقف ضد تحقيق الديمقراطية .
هذه التيارات اتخذت موقفا من الديمقراطية أو اجلتها لحين تحقيق أهدافها، الإسلام السياسى يستخدمها عندما يتمكن كسلم للوصول للحكم، اليسارى يتمسح بها ولكنه يرها صنيعة الرأسمالية لحل مشكلاتها، القوميين العرب يؤجلونها لحين تحيق الوحدة .

الفرق بين النهضة الأوربية والنهضة العربية : أدى صعود البورجوازيات الأوروبية، وقت أن كانت طبقة ثورية إلى حدوث نهضة، بدأت بالإصلاح الدينى، ثم التنوير، اعتمادا على حركة العلم الحديث والكشوف الجغرافية، ما أدى إلى ظهور مبادئ (العقلانية، الفردية، الحداثة، احترام الملكية الخاصة) قامت على إحياء التراث اليونانى والرومانى، الفلسفى والعلمى والفنى والأدبى، والعمل على الإفلات من هيمنة الكنيسة على البشر، كانت "النهضة الأوروبية Renaissance" تعنى التجدد، والولادة من خلال إدماج القديم فى الجديد ليخرج مركب جديد، الانتقال من كينونة قديمة إلى كينونة جديدة، وحركة فى الزمان بالانتقال من الماضى إلى المستقبل .
وقد استفادت النهضة الأوربية من انجازات البلدان العربية التى كانت من أكثر البلدان تقدما منذ القرن الثامن الميلادى، وفى الوقت الذى أخذت فيه أوربا تنتقل من عصور الظلام وتنطلق للتقدم اعتمادا على علوم وترجمات العرب، دخلت البلدان العربية فى مرحلة تخلف وانحدار ما زالت ترزح فيها إلى الآن .
وعندما بدأت "النهضة العربية” كانت تعنى انتقال نفس الكينونة من حال القعود إلى حال القيام، فقد كان مفهومها عند الرواد يعنى : النهوض فى مقابل السقوط أو الانحطاط،، وهذا المعنى نجده فى قاموس (المنجد ط 5) منقولا من "لسان العرب" لابن منظور (نهض ينهض نهوضا) أو قام من مكانه وارتفع بمعنى (حركة فى المكان) حيث كان الرواد فى حاجة لتعبير النهوض لمقاومة الاحتلال الأجنبى .
هكذا كانت "النهضة" العربية تبنى مستقبلها باستحضار ماضيها، الذى ادمج التراث - من أقوال وأفعال وكتابات الأصحاب والتابعين، والخلفاء، وجامعى الأحاديث، والفقهاء، والمفسرين، والوعاظ - ضمن المقدس الذى اتسع ليشمل كل التاريخ حسناته وسيئاته، كل من يمسه فقد مس عصبا حساسا يؤدى لتوتر الجسد الإسلامى وشدة غضبه وانفعاله الذى يصل لوصم من يفعل ذلك بالردة أوالكفر بالمقدسات .

الفرق بين الإصلاح الدينى فى أوروبا وعند الأفغانى : الإصلاح الدينى "لمارتن لوثر" كان هدفه إزالة الأوهام بهدم سلطة رجال الدين والكنيسة على البشر، وإبعادهم عن الدور السياسى، وأعمال العقل فى النص الدينى بنقده، هذه المعانى كانت النبع الذى استقى منه المجتمع الأوربى مرتكزات تطوره الحضارى، فحركة "التنوير" جذرها الإصلاح الدينى، وهو ما أدى إلى تطور الفكر السياسى عند جون لوك، وجان جاك رسو، وفولتير، فكان العقد الاجتماعى الذى ركز على فكرة السيادة للشعب .
كان الأفغانى على علم بحركة الإصلاح الدينى الأوربية فهو يقول "أننا لو تأملنا سبب انقلاب حالة أوربا من الهمجية إلى المدنية، نراه لا يتعدى الحركة الدينية التى قام بها "لوثر" فهذا الرجل دعا أمم أوربا إلى أعمال عقولهم فى نبذ الأوهام، فأصلح أخلاقهم، ونبههم إلى أنهم ولدوا أحرارا فلماذا يستعبدهم المستعبدون . غم ذلك كان الإصلاح الدينى عند الأفغانى مختلفا فالأوهام عنده كل عقيدة تخالف تعاليم الإسلام، لذلك يؤكد على ضرورة تطهير العقول من أوهام الماديين والارتقائيين، ورسو وفولتير، والاشتراكيين، فكل هذه الأفكار الفلسفية والعلمية والسياسة التى أسست الحضارة الغربية صارت عنده أوهما تخالف العقيدة الإسلامية .
هدف الإصلاح عنده أن يكون الدين الإسلامى الرباط الوحيد بين المسلمين، ويجب إن تتهاوى إلى جانبه أى علاقة أو رابطة تستند إلى الجنس، أو الشعب، أو الوطن، أو القومية "فكل رابطة سوى رابطة الشريعة ممقوتة، والمعتمد عليها مذموم" كما رفض الأفغانى الديمقراطية ومجالسها النيابية بدعوى أن الشعوب الإسلامية متخلفة وأن الانتخابات على الطريقة الأوروبية يمكن أن تسفر عن مجالس لا تمثل الأمة ولا أهدافها ولا مصالحها الحقيقية .
ورغم رفع الأفغانى لشعار أعمال العقل، فلا وجود لرؤية دينية جديدة بالنقد أو التأويل، بل يأتى الإصلاح ليحيى الرؤية الأشعرية الغزالية، ليكون الإسلام قوة فى وجه الغرب، ولذلك صار الإصلاح الدينى تجميدا لا تجديدا، جعل الدين معيار القبول والرفض لنظريات العلم، فلا خالق إلا الـله، فالطبيعة ليست مستقلة ولا تفعل بذاتها، أى إنه ينكر العلية والسببية وهى أهم مبادئ العلم الحديث .
تقول د . فريال حسن خليفة ”نخلص من هذا إلى إننا لم نمر بمرحلة إصلاح دينى حقيقى، ولم نعى مطالب النهضة الحقيقة برفض المسار الحضارى الذى سارت فيه الإنسانية بزعم أننا مجتمع له خصوصية“ .

لماذا فشلت مشروعات النهضة ؟
يدعى تيار الأصولية الإسلامية أن فشل مشروعات النهضة كانت تقليدا للغرب ومفروضة على الواقع العربى بما يتنافى مع التقاليد والأعراف والقيم الإسلامية، وهى نتيجة الغزو الثقافى الاستعمارى . فطارق البشرى الذى يحسب على التيار الإسلامى المستنير يرى : أن الدولة الحديثة منذ محمد على قامت على محاكاة النظم الإدارية والتقنيات القضائية الوضعية، بل ونظم التعليم الغربى، وتم الاستغناء عن النظام القضائي الإسلامي المستمد من الشريعة، وهذا هو الخلل الأساسى الذى أدى إلى تدهور شئون المجتمع المصرى .
ويدعى التيار القومى أن الأستعمار فرق الأمة العربية وقسمها لدول وجعل بينها حدود ليضعف قوتها، كما نهب ثرواتها وعقولها، وكان عقبة فى سبيل تنميتها المستقلة .
يتفق التيار اليسارى مع بعض هذه المنطلقات، ويضيف إليها أن البورجوازيات العربية طبقة عميلة لم تستطيع القيام بمهامها فى التحرر والاستقلال الوطنى، وساهمت مع الإمبريالية فى نهب فائض القيمة من الكادحين مما أضعف البناء الاجتماعى، والقدرات الاقتصادية، وكل ذلك أدى إلى تعويق إمكانية التغيير الجذرى .
وهكذا تتفق معظم تيارات الواقع العربى فى أن السبب الرئيسى لفشل النهضة هو القوى الخارجية، ولكننا سنحاول عرض مجموعة من الرؤى بغض النظر عن تصنيفها وفقا للتيارات السابقة وذلك لأنها وسعت من مجال نظرتها ولم تقصرها على سبب وحيد، كما أنها تتسم بالشمولية والموضعية إلى حد ما .
يؤكد فوزى منصور أن العرب خرجوا من التاريخ، فقد اتيح لهم عديد من شروط ولادة الرأسمالية (وحدة قومية، ملامح سوق مشتركة، تراكم رأسمالى) خلال القرن الهجرى الأول بوفرة الخراج والفيء والجزية، وفى ذروة الدولة العباسية، وبعد منتصف القرن العشرين بالنسبة لدول الوفرة البترولية، ولم ينجحوا فى ولادة الرأسمالية، كما لم تنجح الأنظمة الراديكالية فى التنمية المعتمدة على الذات والاستقلال عن السوق الرأسمالى، فخرجت جميع البلدان العربية من التاريخ قديما وحديثا .
ويرى شوقى جلال أن بلدان العالم العربى ما تزال تعيش فى مرحلة حضارة الرعى والزراعة، وهى حضارة شبه ريعية، وبعد اكتشاف البترول أصبح نمط اقتصاد الريع هو السائد، ولم تنتقل هذه البلدان إلى الحضارة الحديثة حضارة العلم والإبداع والصناعة التى تقوم على "العمل الاجتماعى المنتج" بينما تتسم مرحلة الرعى والزراعة والريع بأنها حضارة سكونية لغياب العمل الاجتماعى المنتج، فحين يتوقف الفعل الإنتاجي عن الاطراد والتجدد يتوقف بالتالي العقل عن توليد معارف جديدة، هذا هو سر الإخفاق الحضارى وسبب فشل كل نهضة .
محمد عابد الجابرى يقول أن هناك سببين لفشل مشروعات النهضة العربية سبب خارجى يتمثل فى تأمر ثلاث حركات(الحداثة الأوربية، الحركة الصهيونية، حركة الاشتراكية العالمية) فعرقلت مشروعات النهضة العربية ومنعت كل التيارات من تحقيق أهدافها ، وسبب داخلى يتمثل فى انفصال السياسة عن الايدولوجيا (الطموحات) حيث كانت الايدولوجيا القومية تبشر بالوحدة . أما سياسة الحكام والأحزاب والبيروقراطية فكانت تعمل بالعكس، وذلك بتكريس التجزئة وتثبيت دعائم الدولة القطرية، التيار السلفى نجح فى تجديد الدين واللغة وفشل فى الوصول لبرنامج عمل سياسى وتنموى، التيار الليبرالى فشل فى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
أما غالى شكرى فقد استخلص من السياق التاريخى لمحاولات النهوض الأربعة مجموعة من الثوابت والمتغيرات منها :
أن الحملة الفرنسية لم تكن العامل الأساسى فى "النهضة" بل العامل الرئيسى يعود إلى العنصر الداخلى فالانتفاضات المتعاقبة ضد الأتراك والمماليك، والفرنسيين والانجليز، هى العامل الحاسم للمطالبة بالنهضة .
كما توصل إلى ما يعتبره قوانين ذات صلابة نسبية من التاريخ الاجتماعى لمصر هى :
1. أن عروبة مصر تعنى تأمين حدود مصر الإستراتيجية، والتقدم فى الأسس المادية، بينما إقليمية مصر تعنى الهزيمة والتخلف و التبعية للأجنبى، والانحطاط الفكرى .
2. البناء الطبقى للمجتمع المصرى، لا يسمح بالحروب الأهلية، فالسلطة المركزية لم تسمح لتمردات الفلاحين أو لأية فتنة طائفية أن تتخذ شكل الحرب الأهلية، ولكنها أتاحتا ثورات خلع الحاكم والحروب الوطنية ضد الغزاة، فطبيعة مصر هى الوسطية، وطبيعة المصريين هى عبادة الشرعية، واحترام التراب الوطنى .
3. حين كانت الديمقراطية توجد يسود التيار الأكثر تقدما، فلم يلجأ إلى الاغتيالات والعنف إلا الأقليات السياسية، ولم تنهزم التجارب الوطنية إلا حين تجاهلت التنمية الاجتماعية، والجبهة على صعيد العمل السياسى من الثوابت، حين كانت تولد كانت النهضة، وحين كانت توأد كان السقوط .
4. أن ادوار الجيش والمثقفين والدين، سلبا وإيجابا، برهنت على أن :
• الطليعة العسكرية دائما تحسم التغيير وتحميه، وتسقط بفرضها النظام العسكرى على المجتمع .
• المثقفين والمهنيين والطلاب، كانوا دوما صوتا متميزا فى التغيير، ولكن اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية أدت إلى التشرذم الفكرى والتنظيمى، على أنهم فى نهاية المطاف هم الذين قادوا فكر وحركة النهضة فى كل العصور .
• الدين، كان الأزهر معقل الثورة والثوار ومعقل الثورة المضادة، وكان "الإخوان المسلمون" والفرق المتفرعة منهم والمنشقة عنهم ترفع راية الدين ضد التقدم .
وهو يرى أن سبب سقوط النهضات الأربعة : أن البرجوازية التى كانت حلما عند الطهطاوى لم تحقق ثورتها فى أى وقت، حيث كانت "نهضة" محمد على (نهضة نظام بدون طبقة) وحركة عرابى (ثورة لطبقة جنينية لم تكتمل) و(1919 نهضة لكبار الملاك لم تنجح فى أنشاء جبهة، وسقطت عندما تحولت إلى طبقة عميلة للأجنبى) و1952 (انقلاب الشريحة الوسطى ضد كبار الملاك، انتهت فى 1971 بانقلاب أعاد طبقة كبار الملاك) وكانت نهضتهم بعد فوات الوقت، حيث لم يعد النظام الرأسمالى يسمح للبلدان النامية بتنمية مستقلة فسقطت نهضتهم .
ولكننا نستخلص من كل ذلك أن الواقع العربى لم يشهد نهضات حقيقة ناجزه بسبب الخلل بين الهويات المتصارعة التى تنفى الآخر ووصلت لقتله . بل تصفية بعضها البعض فى حالة تعارض مصالحها أو اختلافها حول السطوة أو الحكم، كما أن استعصاء التحول الديمقراطى لخصوصية الوضع الاقليمى خاصة سيادة نمط الاقتصاد الريعى، واستشراء الاستبداد السياسى والجمود الثقافى، وتحول الفساد لمنظومة عامة، خاصة فى مصر وأغلب البلدان العربية . وهذا ما سنوضحه فيما يلى :
نمط الإنتاج الأستثمارى المنتج : هو أسلوب الحصول على الدخل القومي، وكيفية توزيعه، المتحقق من العمل الاجتماعي المنتج من خلال نشاط صناعى واستثمار فى الخدمات المتقدمة وما يترتب عليه من توزيع مرتبات وأجور وأرباح وفوائد، وبهذا تكون هذه الأنشطة محفزا للنمو الاقتصادي، ودافعا لتطوير العلوم والنظريات العلمية، وفتح آفاق الإبداع في شتى المجالات، وزيادة الكفاءة في الارتقاء بنوعية الحياة . كما أن هذا النمط يؤدى إلى تشكيل طبقات تحرص على تحقيق مصالحها من خلال صراعات اجتماعية وسياسية بأساليب ديمقراطية لتحسين فرص حصولها على أفضل عائد من الاستثمار المنتج .
أما نمط الاقتصاد الريعي والذي يعنى الاستغلال البدائي للموارد الطبيعية، أو الحصول على ثروات تكتسب من خلال الجاه أو السلطة، دون القيام بالعمل الاجتماعي المنتج، فأنها على العكس من ذلك تتوجه إلى استثمارات عقيمة كامتلاك العقارات وأساليب الاستهلاك الترفي والتفاخري التي لا أثر لها في بناء القدرات الإنتاجية أو تحقيق نمو اقتصادي حقيقي .
استعصاء الإصلاح السياسى : فى إطار مؤتمر الإصلاح العربي الثالث مارس 2006، قدم د. محمد السعيد إدريس دراسة عن استعصاء الإصلاح السياسي فى دول الخليج باعتبارها نموذجا للخصوصية العربية، حيث تتسم هذه الأنظمة بأنها تمر بنمو متسارع في المجال الاقتصادي. وشديد البطء في المجال السياسي نتيجة لخصوصيتها التى تقوم على ثلاث مرتكزات هي :
• القبلية السياسية : فأنظمة الحكم في دول الخليج العربى تستند الى تحالفات تقليدية قبلية .
• الميراثية : تتمتع نظم الحكم بقدر من الديمومة الناتج عن ميراثية الحكم ، وهذا الترابط بين حكم القبيلة وقاعدة توريث السلطة جعل الحكم يتحول إلى مؤسسة عائلية .
• الـريعــية : فهي دول يتحقق الدخل القومى لها من مصدر وحيد هو البترول والغاز الطبيعى، لا تفرض ضرائب على الأفراد، بل على العكس من كل دول العالم تدفع لهم، لذلك لا وجود لوطن أو هذه المرتكزات ربما تكون متحققة بشكل نموذجي في دول الخليج العربي، وإلى حد ما في باقي الدول النفطية، و لكن مصر لا يوجد بها حكم قبلى، ولكن ميراثية الحكم كانت موجودة طوال فترة أسرة محمد على، وإذا كانت سلطة يوليو قد أنهت ذلك من حيث الشكل إلا أنها أبقت عليه من حيث الجوهر، من خلال توارث العسكريين لسلطة الحكم الذى استمر حتى بعد نجح الشعب من اسقاط رمز من رموزه .
• كما أن النمط الريعي موجود بدرجة واضحة، فالدخل القومى يتحقق من إيرادات قناة السويس والنشاط السياحي، وتحويلات العاملين في الخارج، وتصدير قدر قليل من البترول، وما تحصل عليه مصر من منح وإعانات، كل ذلك يمثل النسبة الغالبة من الدخل القومي، وهكذا فأن النمط الريعي يكاد أن يكون متحقق بدرجة عالية في مصر .
• هذا بالإضافة إلى درجة التأثير والتأثر بين البلدان العربية وسطوة النمط الريعى السائد في المنطقة من خلال تعاظم القوة الاقتصادية لدول الخليج في العقود الماضية، إضافة إلى سطوتها الثقافية والتراثية من خلال اعتبارها موطن الدين الإسلامي الذي يشكل الإطار الايديولوجى لتبرير هذا النمط من الاقتصاد .
• مواطنين، أو منظمات مجتمع مدنى، لعدم وجود صراع اجتماعى .

لذلك فإننى أرى أن تحقيق ”نهضة“ حقيقة ناجزه يستوجب 3 شروط بشكل متوازى .

الشرط الأول : الانتقال من اقتصاد الريع إلى نمط الاقتصاد " الاستثمارى المنتج" من خلال فتح مجالات العمل والتملك لكافة المصريين وتوفير بيئة قانونية تحفزهم على إقامة مشروعات بنظام "العمل الاجتماعى المنتج"
الشرط الثانى : لقد أصبح التراث بما يحمله من تقديس لأقوال وأفعال وشخصيات وحكام وفقهاء ووعاظ قيدا على المجتمع المعاصر فى السياسة والاقتصاد وكل مجالات الحياة، وما نراه من صور العنف والقتل والتخريب جذره الحقيقى فى نصوص يرى تيار الإسلام السياسى أنها مقدسة وتمثل حقائق مطلقة فوق النقد لأنها تستمد سندها من شريعة تخصهم - جوهر الدين منها براء - ليس أمامنا إلا إعادة النظر فى هذا الإرث بتفكيكه ونقده للتخلص من ما به من معوقات لمسيرة النهضة والتقدم، وعلى رجال الدين السمح أن يكونوا رواد لهذا النقد، وعلى مؤسسات التعليم والتوعية والثقافة نشر نتائج هذا النقد بحيث يكون كل مواطن على علم بصحيح الدين بعد تخليصه من التراث المعوق، أنه شرط ضرورى لنجاح أى نهضة .
الشرط الثالث : بعد أن سادت الديكتاتورية والفساد لعصور طويلة نرى أنه لا يمكن استكمال بناء نهضة حقيقة إلا بإتاحة أكبر قدر من المشاركة عن طريق تطبيق ديمقراطية متكاملة، ليس الاكتفاء باليتها فى صناديق الانتخابات بل باستكمال جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بمنح أكبر قدر من حرية التعبير والتنظيم للوصول إلى مصادر صنع وتنفيذ القرار، وتحقيق أعلى قدر من استقلال الارادة الوطنية، والعدالة فى توزيع الثروة، والاستفادة من إنجازات التنمية، ونشر الثقافة الداعمة للتقدم بالتعليم الجيد والإعلام المتفتح للتخلص من ركام عصور التخلف، والعمل على تمكين الجميع كلا حسب كفاءته من تولى المناصب الرسمية والخاصة، وفتح مجالات العمل والتملك للمصريين ليبدع الجميع كلا فى المجال الذى يتناسب مع قدراته ومعارفه .
أن تشكيل اقتصاد رأسمالي منتج هو المدخل الوحيد للتخلص من حالة التردي الحضاري، والجمود السياسي، والانحطاط الثقافي الذي سوف يظل مستمرا ويعاد إنتاجه في ظل استمرار نمط الاقتصاد الريعي، كما أن الاشتراكية كمدخل للعدالة الاجتماعية لن تتحقق إلا بعد نضوج واكتمال نمط الاقتصاد الاستثمارى المنتج .




ميكانيزمات التطور .. صناعة النهضة
• أى شريحة اجتماعية تستحوذ على عناصر القوى المادية (الأرض، المصانع،، تبادل السلع أو الخدمات، السلاح) أو المعنوية ( عقيدة أو إيديولوجية حاشدة) أو كليهما . تدخل فى صراع اجتماعى تطالب فيه بدور سياسى يتساوى مع قوتها الاقتصادية وهذا ما نسميه الصراع الاجتماعى .
• هناك فئات اجتماعية تمتلك عناصر قوة قد تصنع أشكال من الازدهار مثل امتلاك الأرض الزراعية الذى يؤدى إلى عمل اجتماعى يتسم بانه بسيط وسكونى حيث أن طبيعة العمليات الزراعية غير معقدة ودرجة التطور فيها بطيئة وقدرية، والتراكم والفائض الاقتصادى ضعيف .
• وكذلك التجارة قد تدفع العاملين إلى التنقل والتعرف على ثقافات واكتساب مهارات ارقى من العمل الزراعى، ولكنه أيضا عمل اجتماعى بسيط ودرجة التطور فيه محدودة قد يؤدى إلى دورة اقتصادية أسرع تحقق أرباح أعلى، ويحتاج لوسائل تنقل تستدعى استخدام مستويات علمية وتكنولوجية ارقى، ولكنه فى النهاية قد يصنع ازدهارا ولكنه لا يؤدى إلى نهضة حقيقة ناجزه .
• أحيانا تستحوذ بعض القوى الاجتماعية على عناصر اقتصادية وتستدعى حماية بالسلاح أو تمتلك سلاح، ويكون لها عقيدة تبرر بها استغلالها لباقى الفئات الكادحة، فى ظل ضعف الدولة، فيستخدم السلاح للتناحر والاقتتال ويكون الصراع من أجل التفوق، وقد تقضى فئة على باقى الفئات المتصارعة معها، ولكن كل هذا لا يؤدى لتحقيق نهضة .
أما امتلاك وسائل الإنتاج الصناعية فانه يتطلب درجة عالية من الانتاج الاجتماعى المنتج الذى يحتاج إلى استخدام الأسلوب العلمى والتكنولوجيات المتطورة لحل مشكلات العمليات الإنتاجية المعقدة، كما انه يخلق صراع اجتماعى قوى بين من يمتلكون وسائل الإنتاج ومن يضطرون إلى بيع قوة عملهم، فى مثل هذه المجتمعات يكون التطور أسرع والعمل الاجتماعى المنتج يخلق تراكم وفائض اقتصادى أكبر ، كما أنه يحتاج أسواق لتصريف إنتاجه الوفير كل ذلك يؤدى إلى صراع أرقى يأخذ طابع سياسى بما يؤدى إلى خلق أشكال متطورة مثل البرلمان ومنظمات المجتمع المدنى (الأحزاب، والجمعيات الأهلية، ومراكز البحوث) هذا هو القانون الاجتماعى لميكانزمات التطور ونشأة النهضة الحقيقية ألناجزه .
النهضة لا تتولد إلا بالعمل الاجتماعى المنتج الذى يستدعى العلم والإبداع والتطور من خلال صراع سياسى وبأسلوب ديمقراطى لحسم الخلافات، كل هذا يتحقق عندما تتطور العملية الإنتاجية إلى مستوى التصنيع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟