الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم يعد يراها

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2015 / 4 / 9
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات



حركت رأسى نحو جسده الممدود فوق الأسفلت، يدى تحاول الامتداد لتغطيه المسافة بينى وبينه تزداد اتساعا، شفتاى، تتحركان أحاول أن أناديه، اسمه يهرب، كل شئ يهرب بعيدا، لاتصل يداى إلى حقيبتى الملقاة على الأرض، تبتعد الحقيبة ومعها الأرض وجسده الممدود يبتعد، أفتح فمى لأتنفس، لأنادى على أمى، كنت طفلة بالأمس، كم سنة مرت؟ كنت فى ربيع العمر. أنام وأحلم وأصحو أغنى أحاول النهوض وتغطية جسده، العرى مخيف، منذ الطفولة أخاف العرى، العورة، يدى معلقة فى الفضاء، بشرتى خشنة مبقعة، بأعقاب سجائر محروقة، كانت بالأمس ناعمة، أتركها فى يده يلامسها بشفتيه، يربت عليها بحنان الأم، أمد يدى لأغطيه، لا أريد العيون تراه عاريا، كان مختلفا عن الناس، لاشئ فيه يخجلنى، عام كامل، اثنا عشر شهرا فى فراش واحد، لم أر له عورة.
تقاطيع وجهه غاصت فى عمق رأسه، عيناه مربوطتان بشاش أبيض، لا تعرفه إلا من عينيه، رجل غريب لم تره من قبل، الا الوحمة الصغيرة تحت حاجبه الأيسر، بشرته بلون البشكير الأبيض، يشبه وجه أبيها بعد موته، العرى أيضا متشابه، مرة واحدة فقط رأته فى لحظة خاطفة تشبه ومضة برق، كان راقدا فوق ظهره، شخيره خافت منتظم مثل الساعة، كانت فى السابعة من عمرها، لا تستطيع النظر إلى عورة أخيها الأصغر.
أرادت أن تزحف بجسدها على البلاط، أرض الأسفلت مبللة بسائل ليس الماء، لا تقوى على فتح عينيها، لا تستطيع رؤية الدم، هل انزلق وهو يجرى نحو الثورة؟ لم تكن قدمه تنزلق، وان انزلقت لا يسقط، وان سقط ينهض فى لمح البصر دون خدش، كم ليلة مرت منذ الليلة الأولى.
أحاول أن أكتب عنها وعنه، وجهى ناحية الكمبيوتر، ظهرى إلى الحائط، أصابعى تتحرك فوق الحروف ببطء، ضوء شاحب يتسلل من شقوق الشيش، الساعة السادسة صباحا، مدينة القاهرة تنفث الصهد فى الصبح، تتنفس دخانا ملوثا، تنز عرقا مسمما، له رائحة الحزن 11، هل أجهضوا الثورة منذ الليلة الأولى، اختفى الأصدقاء، انه صيف العام والصديقات، سكتة فى القلب مفاجئة داخل السجن، جلطة فى المخ مباغتة أثناء الطريق، طعنة فى الظهر بيد رفيق، تتوالى الأكاذيب، يزداد الإيمان بالله والقضاء والقدر تجاوز النظام حدود عمره الافتراضى، هل ورث جهاز المناعة ضد الفناء؟ الحامض الوراثى والجينات أم الموت حيوان يهرب من الجبناء؟ أصبحت الشجاعة مرضا والخنوع هو الشفاء، الجوعى على الأرصفة، وشباب عاطلون، عمال مطرودون، وثوار مخطوفو العيون، وفوق المقاعد المتحركة معاقون، وأمهات مطلقات وأطفال يرضعون، وبيوت تسقط، فوق سكانها وهم نائمون، يحلمون برؤية الرحمن من بين الجفون!
مرت السنة الكاملة بجرة قلم، فى الساعة السادسة صباحا، انفتحت البوابة الضخمة العتيقة، أزيز حديدها الصدئ يشبه الأنين، عمرها ألف عام وأكثر، منذ الجوارى والعبيد وسلاسل الحديد، خرجت الشابة تحمل صرة هدومها تحت إبطها، لا شئ فى ملامحها يلفت النظر، قامتها متوسطة، لونها متوسط بين البياض والسمرة، ترتدى نظارة طبية تمشى بخطوات حذرة، تتوقف عاجزة عن اجتياز الشارع، السيارات، تمرق كالبرق، أضواؤها تؤلم عينيها، تخشى أن تسقط تحت العجلات، كانت خطوتها سريعة، تجتاز الشارع تقفز فوق السيارات، تطير فى الهواء تسبق القطط والكلاب البوليسية.
تخلع النظارة وتمسح عنها العرق، منذ الطفولة ترتدى نظارة، ورثت النظر عن أبيها، أرادت أن يكون لها أب آخر، قوى البصر، حى الضمير، لا يخون أمها فى السر، أدارت رأسها إلى الخلف، المبنى الضخم نوافذه مسدودة بالقضبان، جدرانه سوداء تغرق فى الضباب، تعلوها الأسلاك الشائكة المكهربة، تجمد فوقها عصفور مات، شبابها هل راح؟
تفرك عينيها من تحت النظارة، لم يكن فى انتظارها أحد عند البوابة؟ أمها مريضة فى الفراش، تركت أهلها من أجل أبيها، تركها أبوها من أجل نفسه؟ تصحو على صوت السجانة، صحن الفول يطفو فوقه سوس صغير أسود، لبابة الرغيف ينام فيها دود.
دقيق أبيض، وكوب شاى له طعم التراب، صباح الخير يا بنتى، ترن الكلمة فى أذنها، بنتى؟ كتلة اللحم الممزقة على الأرض؟ فى أنفها تراب، لا تعرف الليل من النهار، وجه السجانة أو أمها؟
تنتظر طويلا عند إشارة الضوء تتأمل الناس، يسيرون فى إعياء وهم نائمون، أو يسرعون فى ذعر يهرولون، شابة تجرى نحو شىء يشبه سعادة، حلم تريد تحقيقه؟ شاب يحبها؟ ثورة فى انتظارها؟ كانت مثلها منذ عام واحد، يشتعل النور الأحمر، تتوقف السيارات، تجتاز الشارع بخطوة بطيئة، لا شىء يدفعها للسرعة، لا أحد ينتظرها الا أمها المريضة، أبوها مع عروسته الجديدة، لا تعرف عنوانه، يدق الجرس، تطل أمها من فوق الوسادة، تقفز من السرير، بنتى حبيبتى، تحوطها بذراعيها تذرف الدموع فى صدرها، تدور فى غرف البيت تبحث عنه، صورته فى ميدان التحرير بجوار السرير، عيناه تلمعان بضوء الشمس، اتجهت أمها إلى المطبخ، لازم جعانة يا حبيبتى.
فى السرير وهو نائم همست فى أذنه، وحشتنى يا حبيبى، وانتى كمان يا حبيبتى، مدت يدها وأمسكت يده، راقد على ظهره إلى جوارها، يحاول أن يفتح جفونه ليراها، جفونه مفتوحة عن آخرها، لم يعد يراها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تدريب المرأة مهنيا.. أولوية لتمكينها اقتصاديا


.. الأردن.. برامج لتمكين النساء وتوجيههن لدخول سوق العمل




.. الناشطة بالجمعية التونسية من أجل الحقوق والحريات رانيا بن فر


.. حقوقيات تطالبن بتطبيق قانون النفاذ إلى المعلومة في تونس




.. رئيسة الجمعية التونسية للحكومة والمساءلة الاجتماعية هاجر الط