الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرويد,الإيروس و الموت

محمد المشماش

2015 / 4 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في مقالنا السابق قمنا بتسليط الضوء على مؤلف"الهذيان و الأحلامفي الفن"الذي قدم فيه فرويد قراءة سيكولوجية لشخوص رواية "غراديفا"لمؤلفها "فلهلم ينسن",و في هذا المقال سنركز على مؤلف آخر لرائد مملكة التحليل النفسي "الحب و الحرب و الحضارة و الموت"الذي اعتبر لدى العديد من المشتغلين على علم النفس و غيره من المباحث الإنسانية الأخرى مجهودا يربط بين التحليل النفسي و الفلسفة و الأنثروبولوجيا و الإثنولوجيا و غيرها من المباحث الإنسانية الأخرى,حاول من خلاله فرويد الإجابة عن العديد من الأسئلة الوجودية و ربطها باللاشعور من قبيل:ما الغاية من الحياة؟ما هو الموت؟كيف ظهرت فكرة الشعور بالذنب؟و هل استطاعت فعلا الحضارة بكل أشكالها سواء منها المتدنية أو الراقية وضع حد للحرب و العدوان؟
بخصوص الإجابات التي قدمها فرويد في هذا المؤلف سنحاول عرضها بطريقة موجزة و سنسلط الضوء على الخطوط العريضة وبعض المفاهيم التي ابتدعها و التي توضح على أن فرويد يعتبر من المفكرين الذين اجترحوا مفاهيم خاصة جعلتهم يتبوءون مكانة خاصة لدى أتباعهم مكانة تصل إلى حد النبوءة,ربما كتلك التي حققها ماركس في نفوس أتباعه الاشتراكيين و الشيوعيين.
و لعل أبرز المفاهيم التي تناولها فرويد في مؤلف الحب و الحرب و الحضارة و الموت مفهوم "الإيروس" أو مبدأ اللذة و تجنب الألم الذي يحكم تصرفات الإنسان و يوجهها نحو البحث عن السعادة,و يتمثل هذا المبدأ في المطالب التي ترجع في نشأتها إلى اللبيدو أو غريزة الحياة,أما المفهوم أو المبدأ الآخر يقوم بربط الإيروس بالعمل و الإنتاج و الامتلاك و يحركه "الواقع",و هذان المبدءان أزليان يحكمان الإنسان في الماضي و الحاضر و المستقبل,و يتواجدان في الشخصية الإنسانية و يستحوذان على مراحل تطورها,ربما كالحالات الثلاث التي تحدث عنها أغيست كونت(الحالة اللاهوتية و الميتافيزيقية و الوضعية)غير أن كونت راهن من خلال هذه الحالات على أخلاق خاصة تستجيب لحالة النضج الفكري الذي وصل إليه العقل البشري في الحالة الوضعية,و أصبح ملزما برد دين الحضارة التي منحته خيراتها,على خلاف فرويد الذي أراد من خلال مفاهيمه التشويش على سكينة الحضارة,فاللذة هي مبدأ يحرك الطفل,الذي يحاول إشباع رغباته و تجنب الـألم و مع الوقت يدرك أن الواقع يحرمه من إشباع الرغبة بحرية و يؤجل هذا الإشباع إلى حين,و هكذا فالإيروس هو طاقة حيوية و مستمرة غايتها الإشباع أما الواقع قوة تأثيرية تساعد الإنسان على التكيف مع البنيات الاقتصادية و الاجتماعية.
و هنا يمكن القول أن مملكة التحليل النفسي ابتعدت عن الفكر الماركسي و لم تتفق معه في كون أن الاقتصاد هو المحرك الأول للعلاقات الإنسانية و التاريخ,بل ما يحرك الإنسان حسب الفرويدية هي عوامل نفسية محضة,لأن الإنسان حتى و هو يتصرف بضغط من الضرورة الاقتصادية فهو يمتثل لنزعاته الغريزية(المحافظة على الحياة) لهذا يميل إلى العدوان و يخلق الحب و ينشد اللذة و يتحاشى الألم,و كل هذا ناتج عن مركبات نفسية غريزية ...
و الإيروس أو تشبث الإنسان بغريزة الحياة هو ما يجعله يرفض الحديث عن فكرة الموت,رغم أن الموت شيء طبيعي موجود كالحياة "الموت شيء طبيعي,الموت موتنا نحن,و مع ذلك لا نفكر فيه إلا بوصفه موت الآخرين"(1)لهذ فالإنسان غالبا ما يشغل تفكيره بأشياء أخرى تنسيه فكرة الموت,حتى أصبح الإنسان المتحضر يقف موقف المتفرج من هذه الفكرة,و بقدر ما يتحاشى الإنسان الموت بقدر ما يود إبعاده عن أحبائه,لأن حياته أصبحت رهينة بهم,لهذا لا نقوى على التفكير فيما يمكن أن تفعله الأم بدون ابنها,أو الزوجة بدون زوجها و الأطفال من غير أبيهم ...,لهذا غالبا ما ينأى الإنسان عن التفكير في الموت و يسقطه من حساباته,"كما يقول المثل:أن يستمر في الإبحار و لا يهم بعدها إن عاش أو مات"(2).
و في نظر فرويد فالفكرة التي تذكر الإنسان المتحضر بالموت,و تعتبر سلاحا قويا لمواجهته و مجابهته بكل قوة هي الحرب,لأن الحرب تواجه الإنسان بالموت و تجبره على الاعتراف و الاقرار به,و مرد هذا الأمر إلى أن الناس في حالة الحرب لا يموتون بالآحاد بل بالعشرات و المئات و الآلاف في وقت واحد,و من الأفكار التي ساعدت الإنسان كذلك على مقاومة الموت تحدث فرويد عن فكرة "الخلود"التي عرفت لدى الإنسان البدائي و ليس كما يظن البعض أنها ظهرت مع الحضارة و الأديان التوحيدية,لكن كيف فكر الإنسان في "الخلود"؟
يربط فرويد انبثاق فكرة الخلود بفكرة الإحساس بالذنب,فالبدائي تولدت لديه فكرة الخلود انطلاقا من إمعان تأمله في جثمان فقيد غال عليه فتفجر على إثره إحساس بالذنب,و بهذا نشأ أول واجب أخلاقي(يجب عليك ألا تقتل) و هذا الشعور الذي ساد لدى البدائي مرده إلى كونه كان يعتقد أن الذي يقتل حتما ستطارده روح ضحيته في اليقظة و النوم,و سيزعجه الدم الذي قام بسفكه,إلا أن هذا الحس الخلقي الذي ساد لدى الإنسان البدائي يمكن أن يفقده الإنسان المتحضر في حالة الحرب المتطورة,لأن المنتصر لا يحس بأدنى ذنب نحو الأعداء الذين قام بسفك دمائهم,و بهذا تكون الحرب كفعل إنساني هي التي كشفت زيف الحضارة و نظامها الأخلاقي الذي يقول:أن الحب قادر على الحد من النزاعات العدوانية في الإنسان,و أنها نقلته من براثن القوة و الجبروت و الحيوانية إلى الطمأنينة و السلم و الأمان.
و حتى "فريدريك نيتشه"عبر عن هذه الفكرة في مؤلفه"جينيالوجيا الأخلاق"عندما ربط تشكل الوعي الأخلاقي بالإحساس بالذنب الذي ظهر في العلاقات الإنسانية الأولى عن قانون الالتزام الذي كان يحكم الدائن بالمدين,فالمدين كان مطالب بتسديد دينه للدائن في الوقت الذي قطعه على نفسه,و في حالة عدم تسديده لهذا الدين,ينبغي تعويضه بشيء آخر مما يملك,كجسده مثلا أو زوجته,أو حريته,لهذا كان باستطاعة الدائن التصرف حتى في جسد المدين,و تعذيبه كأن يقطع جزءا يبدو له مناسبا مع أهمية الدين,و الغاية هي حب السيادة,و الاحساس المشرف الناتج عن احتقار و إهانة مخلوق ما باعتباره شيئا أدنى منه,"و في نطاق قانون الالتزام هذا,يكمن أصل التصورات الأخلاقية مثل الخطأ" و "الضمير"و"الواجب"و قدسية الواجب,مثلها مثل كل شيء عظيم على هذه الأرض فقد روتها في بدايتها دماء كثيرة ردحا طويلا من الزمان,و ينبغي أن نضيف أن هذا العلم من التصورات لم يفقد يوما رائحة الدم و التعذيب,حتى الأمر المطلق الذي يقول به كانط نجد أثرا من القسوة"(3)
لهذا يقر فرويد أن الإنسان البدائي لا يزال يسكن فينا و يعيش بداخلنا,و لا يمكن بأي وجه من الأوجه وقف العدوان و الحرب,طالما هناك ظروف متباينة أشد التباين,و ستظل الحروب مشتعلة و تشتعل أبدا "إذا كنت تريد السلم فلتستعد للحرب,و لقد حان الوقت أن نقول بشكل آخر:إذا كنت تحتمل الحياة فلتستعد للموت"
- سيغموند فرويد,الحب و الحرب والحضارة و الموت,ترجمة عبد المنعم حنفي,دار الرشاد القاهرة,1992 ص 30
(2)نفس المرجع ص30
-(3) فريدريك نيتشه,جينيالوجيا الأخلاق,ترجمة محمد الناجي,إفريقيا الشرق,2006,ص56
- (4) سيغموند فرويد,الحب و الحرب والحضارة و الموت,ترجمة عبد المنعم حنفي,دار الرشاد القاهرة,1992 ص56








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر سويسرا.. عملية السلام من دون روسيا لا يمكن أن تستمر| #


.. واشنطن تحذر.. هجمات حزب الله شمالي إسرائيل قد تؤدي لحرب -غير




.. الجيش الإسرائيلي: استدعينا مقاتلين برا وجوا لمنع اختطاف جثث


.. محتجز إسرائيلي أنقذ من غزة يدعو حكومته إلى التوصل لصفقة تباد




.. الحجاج ينفرون من عرفات إلى مشعر مزدلفة بعد أداء ركن الحج الأ