الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منهج سبينوزا في قراءة الكتاب المقدس

هادي اركون

2015 / 4 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




يشدد سبينوزا النكير على العوام بسبب تشبثهم بالانفعالات لا بالعقل وتصديقهم بالأوهام ، وكذلك على أصحاب النور الإلهي ، الساعين ، في اعتقاده ، إلى إطفاء نور العقل والى إثارة دهشة العوام .
ولذلك اختار الانكباب على الكتاب المقدس ، بحرية ذهنية كاملة استنادا إلى النور الفطري ،بعيدا عن املاءات الضمير الجمعي.
فرسالته في اللاهوت والسياسة هي في العمق ،نقد حاد لتأويلات اللاهوتيين ، وتهويلاتهم الباطنية أو التخييلية ، المخالفة في اعتباره ، لصريح وروح المتن الكتابي .فالدين لا يحتاج إلى محسنات خرافية ، أو إلى الإفراط في التقديس كما يعتقد الكهنوت .
( لقد أصبحت التقوى و أصبح الدين أسرارا ممتنعة ، و أصبح أصحاب النور الإلهي لا يعرفون إلا بشدة احتقارهم للعقل وبحطهم من شأن الذهن ونفورهم منه وقولهم إنه فاسد بالطبع .)1-
تقوم الخرافة في اعتباره على التمني والحقد والغضب والخداع ، أي على أقوى الانفعالات . ويرجع الخرافة إلى الخوف والتقلب المستمر واللانهائي بين الخوف والرجاء .
فالأفكار الموحى بها للأنبياء ، حسب سبينوزا ، هي طاعة الله بروح خالصة وذلك من خلال ممارسة العدل والإحسان.ومن هنا ،فلا بد من التجرد من الخرافات ،أيا كانت ،للوقوف على حقائق العهدين والابتعاد عن التهويلات الكهنوتية والسياسية .
يوجه سبينوزا نقدا لاذعا للاهوتيين وتأويلاتهم البعيدة للكتاب المقدس ، ويرجعها إلى الرغبة في التسيد على الآخرين لا إلى طاعة تعاليم الروح القدس وبث الإحسان بين الناس .ولا تنحصر مساوئ التّأويل المتعسف والإسقاطي في نشر الشقاق والعداوات والإحن بين الناس ، بل تمتد إلى إشاعة الخرافة واحتقار الطبيعة والعقل . ولتجاوز تعسفات التأويل البعيد ،فإنه يقترح اعتماد نفس المنهج المتبع في تفسير الطبيعة .
يعتمد الفحص التاريخي للكتاب المقدس عنده على المقتضيات التالية :
1-التمكن من اللغة العبرية لفهم مقاصد العهدين ؛
و يورد معطيات تولد مزيدا من المتشابهات في العبرية أكثر من أي لغة أخرى وهي خمسة :
- استبدال الأصوات بأصوات مشابهة لها ؛
- تعدد معاني حروف العطف والظروف ؛
- وجود تشوش في صيغ وأزمنة الأفعال ؛
- غياب العلامات والحروف المعادلة للحروف المتحركة ؛
-معطيات مرتبطة بسياق الإنتاج ووثاقة الرواة والناقلين والجامعين ومواضعات التقبل.
فبسبب هذه الصعوبات الصواتية والصرفية والإملائية والدلالية والسياقية ، يصعب أحيانا ، في اعتقاده ، تفسير بعض أجزاء العهدين .
2-الإبانة عن معاني النصوص لا على حقائقها عبر تجميع الآيات ذات الثيمة الواحدة ،
3-ربط كتب الأنبياء بملابساتها التاريخية بما في ذلك الجمع والرواة وطرق الجمع والنسخ الأصلية وكيفيات التقبل الأولى .
ويثير مشكل غياب الأصول الأولى لبعض الأسفار والرسائل : مثل أنجبل متى ورسالة إلى العبرانيين وهما مكتوبان أصلا بالعبرية وسفر أيوب وهو مترجم إلى العبرية حسب ابن عزرا .
ويصدر هذا المنهج ، عن النور الفطري،وقدرات العقل الطبيعي .يكفي النور الفطري لشرح الكتاب المقدس رغم ضياع معارف تاريخية ونقدية ثمينة ،واستكناه معانيه ،وجلاء خفاياه الدلالية .
وفي سياق نقده لتأويلات اللاهوتيين ،يشير إلى أنهم ، لم يقدموا في تفسيراتهم إلا تخمينات إيهامية ،لا علاقة لها باتجاهات النصوص وأهدافها الاصلية .فلا وجود لنور فوق طبيعي أو لسلطة خارجية أو كهنوت جديد ، يفرض آراءه ووصايته على الناس في اعتقاده.
وكما هو متوقع ،فإنه يوجه نقودا منهجية ، للتفسير العقلي عند موسى بن ميمون .فبما أن ابن ميمون يفترض أسبقية العقل على النص ،فإن يؤول النص تأويلا مجازيا كلما تعارض النص مع موجبات وشرائط العقل.فهو لا ينطلق من معطيات النص ، بل من معطيات العقل.
(وتضمنت هذه المقالة غرضا ثانيا وهو تبيين أمثال خفية جدا جاءت في كتب الأنبياء ولم يصرح بأنها مثل ، بل يبدو للجاهل والذاهل أنها على ظاهرها ولا باطن فيها ، فإذا تأملها العالم بالحقيقة وحملها على ظاهرها ، حدثت له أيضا حيرة شديدة .فإذا بينا له ذلك المثل أو نبهناه على كونه مثلا ، اهتدى وتخلص من تلك الحيرة ، ولذلك سميت هذه المقالة : دلالة الحائرين . ) 2-
فمن الملاحظ أنه سبينوزا ،يعتمد أساسا على المعنى الحرفي ، ولا يلتجئ إلى التأويل الرمزي أو المجازي إلا في سياقات محددة ومحدودة .فلا يجب التسليم إلا بما يورده الخطاب ، أما ما يقبل التأويل المجازي أو العقلي من نصوصه ومروياته ،فليس بالحجة القويمة ولا بالدليل السديد في اعتباره.
وتتمثل أخطاء ابن ميمون التفسيرية أو التأويلية على الأصح فيما يلي :
-إثبات حقائق الكتاب المقدس بالبرهان وهو كتاب غير برهاني أصلا،
تنطوي النبوة على اليقين ، إلا أن يقينها يقين أخلافي لا رياضي.ثمة فوارق بين النبوة والمعرفة الطبيعية ؛فبقدر ما تحتاج الأولى إلى الآيات ،فإن الثانية تستمد اليقين من ذاتها بدون سند خارجي .وإذا كانت المعرفة الطبيعية استدلالية ،مبنية على الأفكار الواضحة والمتميزة والمبادئ والمفاهيم الذهنية ، فإن النبوة ،تخييلية ،قائمة في تقدير سيبينوزا على الخيال وتستهدف ، الغاية العملية لا تحصيل المعارف النظرية حول الألوهة والعالم والإنسان .
(...لأن عامة اليهود وغير اليهود وهم الذين وجه إليهم الأنبياء والحواريون مواعظهم وكتبوا لهم كانوا يفهمون لغة الأنبياء والحواريين ، وكانوا يدركون بها فكر الأنبياء ،على حين أنهم كانوا يجهلون البراهين على حقيقة التعاليم التي دعوا إليها ، وهي البراهين التي يرى ابن ميمون انه عليهم معرفتها حتى يفهموا فكر الأنبياء . ) 3-
-تجاهل مدارك العوام وعجزهم عن الاستدلال والبرهنة على حقائق التعاليم الكتابية ؛
لقد اعتمد الكتاب المقدس في الإقناع على التمثيل والقياسات وليس على البراهين والاستدلالات .فمادام تحقيق الطاعة والخشوع مرهونا بإقناع العوام ، فلا مجال للبراهين النظرية حول التعاليم والقضايا الناموسية .فبسبب ضعف تكوينهم الذهني ،فإنهم لا يميلون إلى التصديق بالروايات التاريخية فحسب ، بل إلى التركيز على ماجريات السرد أو القصص دون كبير التفات إلى محتوى العقائد .والأكثر من ذلك أن هذه الروايات غير مرتبطة بالقانون الإلهي ولا تفيد في نيل السعادات الروحية الكبرى .
- عدم إمكان البرهنة على حقائق الكتاب بالكتاب نفسه ؛
-اعتماد معان بعيدة عن مؤدى المعنى الحرفي .
وبناء على هذه المآخذ ،فإنه يحكم على منهج ابن ميمون والقائلين بالتأويل العقلي للنصوص الكتابية عموما ،باللاجدوى وانعدام الفاعلية .
(فمنهج ابن ميمون إذن لا فائدة منه على الإطلاق ،فضلا على أنه يقضي تماما على الثقة في فهم المعنى الحقيقي للكتاب ، وهو ما يستطيع العامة الوصول إليه بمنهج آخر في التفسير .) 4-
ومن الملاحظ أنه يوجه انتقادات أكثر حدة للتفاسير الرمزية والباطنية ولا سيما القبالية
للكتاب المقدس . فالتأويل الباطني ، يفسر البديهي ذاتيا ، استجابة لقصد ذاتي أو دفاعا عن تصور مخصوص لأسفار التوراة والعهد القديم .
ليس للتأويلات المجازية أو الرمزية القبالية ،أي شرعية ،طالما أنها تحمل النصوص معاني وأبعادا برانية ،نابعة من قصد المؤول لا من قصد النص ومعطياته السياقية . وعليه، ليست النصوص معميات لا يغوص على معانيها إلا مؤولون متمكنون من المعارف البرهانية أو الباطنية كما يظن القباليون واللاهوتيون ، بل هي وصايا وإرشادات وقصص ،قابلة للتمثل والاستيعاب.
(...وإذن فلما كان لكل فرد حق مطلق في حرية التفكير ، حتى في المسائل الدينية ، ولما كان من المستحيل تصور انتزاع هذا الحق من أي إنسان –فإن لكل فرد إذن الحق المطلق والسلطة المطلقة في الحكم على الدين ، وبالتالي في شرحه وتفسيره لنفسه . ) 5-
هدف سبينوزا ، هو نقد الخرافة والدفاع عن الحرية ،بوصفها ترياقا ضد الخرافة ،وغير متعارضة مع التقوى ومع سلامة الدولة .كما يسعى إلى تخليص اللاهوت ،من التأويلات المتعسفة ،البعيدة عن القراءة التاريخية والنقدية بما هي معرفة مطابقة للعهدين . ورغم لغته المهادنة احيانا ،فإن استراتيجيته النقدية واضحة .والحقيقة أنه توخى تجاوز اليهودية بالمسيحية والمسيحية بالحكمة الفلسفية كما يرى ليفيناس .
الاحالات :
1- [-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة –ترجمة : حسن حنفي – مراجعة : فؤاد زكريا – الطبعة الثالثة –ص-116]
-[ موسى بن ميمون،دلالة الحائرين ،تحقيق،حسين اتاي،مكتبة الثقافة الدينية ،القاهرة،2002،ص.6]2
3-[-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة ––ص-261].
4-[-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة ––ص-262]
5-[-سبينوزا –رسالة في اللاهوت والسياسة ––ص-263]


هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي