الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة

علم الدين بدرية

2015 / 4 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


** الحقيقة **

علم الدين بدرية


(( متابعة نقديّة ، وقراءة في مجموعة الأديب معين حاطوم وروايته الفلسفيّة ... زمهرير الكرملي ))


عندما وضع الصديق والزميل معين حاطوم روايته الفلسفيّة المكوّنة من أربعة أجزاء بين يدي ، كتب في الإهداء على الصفحة الأولى ... ذاك زمهرير الكرملي بين يديك فعلّمه الحقيقة ...!!
ابتسمتُ لهذه العبارة المبطّنة الملغوزة ، كيف لا وهذه الحقيقة هي اللغز الذي حيّر ألباب الفلاسفة والمفكرين ، منذ فجر الوجود والتكوين حتى أيامنا هذه ، وكل حقيقة تبقى نسبية آنية بمقتضى المفكر الموجود الذي يبحث عنها . وأنا أقول في نقد معيار الحقيقة .. إنّ إقامته مستحيلة ، ومستحيل كذلك البرهان ، لأن كل برهان يستدعي آخر إلى ما لا نهاية .
وإذا أردت القول بأن الإنسان هو الحكم في الحقيقة ، فهذا قول غير قائم .. فأي إنسان يملك ذلك ..؟! واحد منهم أم الكل ؟! وإذا كان واحد فكيف نكتشفه ؟! وإذا كان الكل فكيف نوفّق بين مختلفهم ، وبأي خاصة يفصّل الإنسان في الحقيقة ؟! بالحواس وهي متناقضة متباينة في الناس جميعًا ، حتى في الواحد بين الحين والآخر ، وهي لا تعطينا إلاّ حالات ذاتيّة ولا تتيح لنا أن نحكم على طبيعة الأشياء ...؟! أم بالإدراك ...؟! وكيف يمكن للإدراك من داخل الإنسان أن يُدرك ما هو خارجه ؟!
إنّ إشراقة المعرفة ، ووميض الحقيقة يتم خارج دائرة الحواس والعقل والإدراك ، ولا يقاس بالبرهان والمبادئ ، لأن التداعي إلى ما لا نهاية في البرهان لا يحقق لنا المطلوب ، فكل قضية تتطلب برهانًا وهكذا إلى غير نهاية ، بحيث لا يتم البرهان أبداً .
المبادئ التي يعتمد عليها أصحاب اليقين لتفادي التسلسل في البرهان ، هي فروض وغير مبرهن عليها فهي ليست أبين من نقائضها ، وإذا أردنا تفادي التسلسل ، فليس لدينا سوى البرهان الدائري الذي يقيّم المقدمة على النتيجة ، والنتيجة على المقدمة ... وهذه هي الخطوة الأولى لفهم زمهرير الكرملي في بحثه الروائي الشيّق في وحدة الجوهر ، ومحاولة الإجابة عن مبرر هذه الوحدة ، ولماذا لا تكون هناك جواهر مخلوقة منفصلة عن الجوهر الخالق !! ولماذا لا تنفصل الماهيات فلا تتداخل ، وذلك من اعتبار الآنية منفصلة عن العالم ، والإرادة عن الإدراك ، وصولاً إلى حرية الروح ورقيّها تصاعديًا لفهم ماهية جوهرها ضمن ماهية الوجود ، وذلك من خلال منهج تحليلي يضع الجوهر أولاً قبل الصفات لأنها توجد به .
زمهرير الكرملي هو بحث فلسفي شامل في ماهية الجوهر وحلوله في الجزئيات ، والإدراك الحسيّ والقبلي ، وهو تحليل منطقي بصورة حوار تقييميّ حول الوجود ، وماهيّة العقل قبليّة كانت أم وضعيّة ماديّة ، فالكاتب يثير عدة تساؤلات فلسفيّة محوريّة ، يطرحها بصبغة قصصيّة أدبيّة شيّقة ترتقي إلى الجماليات البلاغيّة والتعبيريّة في الأجزاء الأربعة لهذه المجموعة ، فنراه في الكتاب الأول يبحث قضيّة الجوهر ، جوهر خالق وجواهر مخلوقة ، وعن تداخل الماهيات وفكرة الله والعقل الكلّي . وفي الكتاب الثاني يطرح قضية الروح الكونيّة والروح الجزئيّة والنفس والعلاقة بينهم ، ويتطرق فيه إلى قضيّة تمدّد الكون واتساعه وتباعده وخروجه من الذرة والعودة إليها ، وقضيّة الزمان والمكان والأبعاد ونرى هنا تأثرًا ملموسًا بالفيزيائي ستيفن هوكنغ في كتابه ( ملخص ولادة الزمن ) وجيمس غليك في كتابه ( الكاوس ) . أما في الكتاب الثالث فيطرح فلسفة العقل ونقد السببيّة والاستدلال والتسيير والتخيير ونقد الأخلاق ، والكائنات الروحيّة والضديّة والشيطان ، والعلاقة بين المحسوس والمعقول وتسويد العقل والتصور إلخ ...
وفي الجزء الرابع والأخير يطرح موازنة في اليقين والموضوع ووحدة الجوهر ، فالكاتب مؤمن بالحقيقة كل الإيمان ولا تحتاج لديه إلى تعريف أو برهان وبشرحه المنهجي المسرود ، يرقى المؤلف لصور بلاغيّة في المعرفة والوعي الكوني ضمن تراث مُشكّل وحوار فعّال ومُقارنة ضديّة مقابلة بين العلم والظن وبين المعرفة العقلية والإحساس ، متناولاً بالبحث والمقارنة جلّ الفلاسفة القدامى والمحدثين ، من سقراط وأفلاطون وأرسطو ... حتى ديكارت وإسبينوزا .. ووصولاً إلى داروين وكارل ساغن ...
ولن أطيل عليكم فهذه الرواية ممتعة ، تأخذنا إلى رحاب واسعة من المعرفة ، ومبحث شامل وأسلوب جديد في صياغة المدلول حول الوحدة ، وحدة الحقيقة ووحدة آلتها ، ووحدة الطبيعة الإنسانيّة ، ووحدة المعقول والمحسوس في وحدة الوجود ، ووحدة الوجود والحقيقة والواقع والمكان ... وقد جعل الكاتب جلّ اهتمامه في استقصاء الروابط والفواصل ، ومقارنة الدوافع والمرامي ، غير مهمل آراء المعلقين والمذاهب المختلفة ، جاعلاً من المعرفة الإنسانيّة وقيمتها غايته القصوى ، يعالجها كما عالجها أسلاف له من قبل ، يُحمّلها العناية بما استحقت به العناية المكررة في تاريخ الفكر الإنساني حقبة بعد حقبة ، وجيلاً بعد جيل ، وهو يحاول بهذه الدراسة المستفيضة الوصول إلى اللاإنسان في الإنسان ، والوصول إلى العقل الكلي وما وراء حدود الظاهر ، يخترق حجاب الوجود ويمزّق ستار الأشياء ، يتخطى العتبة للوصول إلى النور الباهر والمطلق العظيم وإلى اللا إنسان حيث يكون الفرح العظيم بملاقاة وجه الحق الكلّي الذي يجعل الإنسان يتجلى بكل إنسان ، ونراه يطرح فكرة مبدئيّة ، فكرة الجزء والكل ، فهو يعتبر الفرد جزءًا من الكل ، وهذا الجزء هو جوهر الكل أي هو الذي يكوّن الكل إذ ليس الكل هو تجميع للأفراد ، بل هو جسم واحد له أجزاء مشابهة له في التناسب الهندسي ، ونراه كما قلت سابقًا يغوص في الفلسفة اليونانيّة ، متتبعًا الفلسفة العربيّة الإسلاميّة حتى يصل إلى فنتغشتين وهديغر وفوكو وجوديل وكانط وغيرهم ... ولا أغالي إذا قلت أن هذه المجموعة هي أهل لمزيد من المراجعة والمطالعة والدراسة ، وتستحق المزيد من العناية من الدارسين والنقّاد ، وكفى الكاتب فخرًا أن نفسه قد تعلقت بالحق وتاقت إلى أنواره ، وشرّف الفلسفة بطلب الحكمة فذلك الطلب هو الحكمة والفضيلة معًا.
وأخيرًا بودي الإشارة بأنه قد صدر للأديب معين حاطوم حتى الآن خمسة عشر مؤلّفًا ، غير المجموعة الحاليّة ، وموضوعاته تجمع بين القصة الفلسفيّة ، والمجموعات الشعريّة ، وأقوال الحكمة وغيره .
أشدّ على يد الكاتب الشاعر والمبدع معين حاطوم وأتمنى له المزيد من العطاء والنتاج الثقافي المتواصل .

ملاحظة :
هذه المتابعة نشرت في صحيفة الكلمة عدد200 بتاريخ29/01/2001 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟