الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طاليس الملطي . أول الفلاسفة الإغريق

حسام المنفي

2015 / 4 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من المعروف أن طاليس هو أول فيلسوف وعالم أنجبته الحضارة اليونانية القديمة وهذا الأمر حتى هذه اللحظة يعتبر من الأمور المسلم بصحتها ، ويكاد يجمع المؤرخون على أن طاليس الذي ولد بمدينة ملطية في أسيا الصغرى سنة 624 ق.م يكاد يتفقون على أن طاليس ليس فقط أول عالم وفيلسوف يوناني بل أول عالم وفيلسوف ظهر على وجه الخليقة ، ذلك لأن طاليس قد حاول أن ينقي منهجه من الشوائب و العوالق التي ما كانت أن تتفق مع نظرته العلمية والفلسفية ، فكان المفكرون والعلماء قبل طاليس كثيرا ما يزاوجون بين دربين مختلفين أو إن شئت فقل "متناقدين" من دروب التفكير ، فكانوا يمزجون بين الأساطير والخرافات والممارسات السحرية والطقوس والمعتقدات الدينية من جهة وبين العلوم والفلسفة (إن كانت ثمة فلسفة في ذلك الوقت) من جهة أخرى، وهذه السمة كانت واضحة ومميزة في الحضارات الشرقية القديمة . علاوة على ذلك فإن طاليس قد انطلق يفسر العالم والوجود من خلال مبدأ مادي بحت وهو " الماء " الذي اعتبره طاليس المادة الأولى التي انبثق منها الوجود بجميع مظاهره المختلفة ، فالماء هو المادة الوحيدة التي يعرفها الإنسان بغير صعوبة في الأحوال الثلاث : الصلبة ، والسائلة ، والغازية . ولذلك على حد قول د. مصطفى النشار ، نجد أن طاليس قد وضع ولأول مرة المسألة الطبيعية وضعا نظريا بعد محاولات الشعراء والاهوتيين ، فشق للفلسفة طريقها ، ووصل إلى هذه الفرضية أن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء (1). بل نستطيع القول بأن طاليس قد وضع أول لبنة في تشييد وبناء الصرح العلمي العظيم الذي يقوم أساسا على التجربة والمشاهدة الحسية . يقول برتراند رسل " وقوله أن كل شيء مصنوع من الماء ، يمكن اعتباره فرضا علميا ، وليس هو بالقول الهراء ، فمنذ عشرين عاما كان الرأي الراجح هو أن كل شيء مصنوع من الهيدروجين الذي يتألف منه ثلثا الماء . فلئن كان الإغريق يتسرعون في فرضهم الفروض ، إلا أن المدرسة الملطية على الأقل كانت تأخذ باختبار تلك الفروض اختبارا قائما على التجربة الحسية (2) . ويرى أرسطو أن طاليس هو المؤسس الأول للفلسفة الطبيعية حيث يقول " إن طاليس هو مؤسس هذا النوع من الفلسفة ، يقول بأن المبدأ هو الماء وذلك هو السبب في إعلانه أن الأرض تطفو فوق الماء " (3) .
ولكن من أين جائت لطاليس هذه الفرضية ؟ ولماذا اختار الماء على وجه الخصوص ليفسر به العالم ؟ وهنا يحاول أرسطو أن يتحسس الأسباب والدوافع التي أوحت لطاليس هذه الفكرة بقوله " ربما جاء بهذا الرأي بعد أن شاهد . أن غذاء كل شيء رطب ، وأن بذور كل شيء ذات طبيعة رطبة ، وأن مايتولد منه كل شيء هو دائما مبدؤها الأساسي"(4)و ربما نجد الإجابة أكثر وضوحا في قول طاليس نفسه حيث قال " إن النبات والحيوان يتغذيان بالرطوبة ، ومبدأ الرطوبة الماء ، فما منه يتغذى الشيء فهو منه بالضرورة . ثم إن النبات والحيوان يولدان من الرطوبة فإن الجراثيم الحية رطبة ، وما منه يولد الشيء فهو مكون منه . بل إن التراب مكون من الماء ويطغى عليه شيأ فشيأ ، كما يشاهد في الدلتا المصرية وفي أنهر أيونية حيث يتراكم الطمي عاما بعد عام ، وما يشاهد في هذه الأحوال الجزئية ينطبق على هذه الأرض بالإجمال ، فإنها خرجت من الماء وصارت قرصا طافيا على وجهه كجزيرة كبرى في بحر عظيم وهي تستمد من هذا المحيط اللامتناهي العناصر الغازية التي تفتقر إليها ، فالماء أصل الأشياء " . ورغم أن المنهج الذي انتهجه طاليس في تفسير العالم منهج يعتمد على التجربة الحسية ، ورغم أن طاليس قد أرجع جميع مظاهر الوجود إلى عنصر فيزيقي (مادي) إلا أن عنصر الماء نفسه قد اتخذته مذاهب وديانات كثيرة سابقة على طاليس نفسه لتفسير الوجود . فقد قال هوميروس " إن الأقيانوس (5) هو المصدر الأول للأشياء " ومن قبل قالت أسطورة بابلية " في البدء قبل أن تسمى السماء وقبل أن يعرف للأرض إسم كان المحيط مكان البحر " وجاء في قصة مصرية " في البدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول حيث كان أتون وحده الإله الأول صانع الألهة والبشر والأشياء " وجاء في التوراة " في البدء خلق السموات والأرض ، وكانت الأرض خاوية خالية ، وعلى وجه القمر ظلام ، وروح الله يرف على وجه المياه " ولم تكن الديانات السابقة على طاليس وحدها التي كانت تعتقد أن الماء هو مصدر الوجود والعنصر الأساسي التي تقوم عليه الحياة ، بل امتدت هذه الفكرة زمانيا إلى ما بعد طاليس بأكثر من ألف عام وامتدت من حيث المكان فسكنت قلب الجزبرة العربية فتحدث عنها القرءان بصيغة واضحة كل الوضوح ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هود/7 . وفي سورة الأنبياء " وَ جَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ" الأنبياء :30 وفي سورة النور "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ " النور-45 . ومن هذه النصوص اللاهوتيه يتضح لنا أن طاليس رغم أنه اختلف مع سابقيه في "المنهج" الذي ارتضاه لنفسه لينطلق منه مفسرا طبيعة العالم والوجود إلا أنه اتفق مع كثير من الشعراء واللاهوتيين من حيث "المبدأ" وهو " الماء" . أي أنه في نفس الوقت الذي استغنى فيه عن أي تعبير أسطوري أو رمزي لحدسه واعتماده بصفة عامة على المشاهدة والتجربة ، إلا أنه يبدو شديد الإلتصاق باللاهوتيين والشعراء عندما نظر بنفس المنظور التي كانت تنظر من خلاله المذاهب الدينية في تفسيرها لأصل العالم ونشأته . إذ على الرغم من أن نظريته هذه تبدو فيزيقية(6) خالصة ، إلا أنه من الواضح أنها يمكن الإعتقاد فيها كنظرية لها نفس ما ندعوه بالسمة الميتافيزيقية(7) .
=================
مشكلة الألوهية عند طاليس .
=================
كان طاليس يعتقد أن : كل جزء في العالم حي ، وأن المادة والحياه وحدة لا ينفصل أحد أجزائها عن الأخر ، وأن في النبات والمعادن "نفسا" خالدة كما في الحيوان والإنسان ، وأن القوة الحيوية تتغير صورتها ولكنها لا تموت أبدا ، وأن المغناطيس حي لأن فيه قوة تحريك الحديد . وتنسب لطاليس مقولة "الكون مليء بالألهه" . ولكن علينا أن نقف هنا ونتساءل . هل هذا يعد اعترافا منه بوجود قوة إلهية عليا مفارقة أو كامنة في المادة نفسها ؟ أم أنه كان يقصد معنى أخر مختلف عن المعنى الحرفي الذي جاء في تلك الشذرة ؟ وهنا الإجابة تأتي على حد قول د. مصطفى النشار في كتابه القيم " فكرة الألوهية عند أفلاطون " حيث يقول : وثمة قول أخر ينسبه أرسطو إليه وهو يقول " إن العالم مليء بالألهه" وكان لهذا القول تفسيرات عدة ، فيشير إليه أفلاطون في القوانين . وقد فسره أرسطو في كتابه النفس بأن طاليس ربما عنى بذلك أن للعالم نفسا . وكذلك فسر المؤرخ أيتبوس هذا القول بأن طاليس كان يقول بعقل للعالم ، وجاء شيشرون الذي رأى أيضا أنه كان يقول بعقل إلهي أوجد الأشياء من الماء . وعلى أي حال فإنه يمكن القول بأن هذه العبارة التي وردت على لسان طاليس تعبر عن الإتجاه السائد بين الفلاسفة الطبيعيين أنئذ ، وهو الذي كان يرى في المادة قوة حيوية دافعة(8) . وتتفق د. أميرة حلمي مطر في تفسير تلك المقولة التي نسبت لطاليس مع التفسير الذي قدمه د. مصطفى النشار حيث تقول : غير أن قول طاليس بأن الكون مليء بالألهة يجب ألا يفيد أي نزعة دينية ثيولوجية (9) عند طاليس لأن المادة كانت تتسم عند القدماء بالحياة ولذهذا وصف مذهبه بالنزعة الحيوية ، وهي نزعة سادت معظم مذاهب القدماء في المادة كما سوف يتضح لنا فيما بعد (10) .
================
بعض المقولات المأثورة عنه .
================
وكان طاليس قد برع في علوم الحساب والرياضيات والهندسة والفلك ، وتروي إحدى الروايات أنه وهو في مصر قدر ارتفاع الأهرام بقياس ظلها في الساعة التي يكون فيها ظل الإنسان مساويا لطول قامته (11) . كما أنه درس الفلك ونقله إلى اليونان وحاول تخليصه من ارتباطه بالتنجيم الذي أدخله فيه الشرقيون . وقد أدهش طاليس اليونانيين حينما أفلح بالتنبأ بكسوف الشمس الذي حدث في الثامن والعشرين من مايو عام 585ق.م (12) . وحول هذا التاريخ كما تقول د. أميرة حلمي مطر " بلغ طاليس أوج ازدهاره . وقد اشتهر في عصره بالحكمة وسمي بالحكيم لذلك كثيرا ما يرتبط اسمه بإسم الحكماء السبعة السابقين عليه . وهم بالإضافة إلى طاليس صولون وبرياندروس وكلينوبولس وخيلون وبياس وبيتاكوس (13) . وإليك بعض المأثورة عنه .
فعندما سئل طاليس عن أصعب الأشياء ، فأجاب بقوله : الحكيم الذي جرى مجرى الأمثال : " أن تعرف نفسك " . ولما سئل عن أسهل الأشياء قال : " أن تسدي النصح " وعندما سئل ما هو الله قال : " هو ماليس له بداية ولا نهاية " . وسئل كيف يستطيع الناس أن يعيشوا عيشة الفضيلة والعدالة فأجاب : " ألا نفعل نحن ما نلوم غيرنا على فعله (14) . وقد مات طاليس وهو يشاهد مباراة في الألعاب الرياضية . بعد أن أضناه الحر والظمأ والتعب لأنه كان قد بلغ سن الشيخوخة وذلك في عام 546ق.م .
============================================
(1) د. مصطفى النشار . فكرة الألوهية عند أفلاطون ص39. مكتبة الأنجلو مصرية .
(2) برتراند رسل . تاريخ الفلسفة الغربية . المجلد الأول ص63 . الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(3) د. مصطفى النشار . تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي . الجزء الأول ص104 . دار قباء للطباعة والنشر .
(4) ول ديورانت . قصة الحضارة . المجلد السادس ص252 . ترجمة : محمد بدران . الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(5) أوقيانوس (بالإنجليزية: Oceanus) أَو (بالإنجليزية: Okeanos) يُشيرانِ إلى المحيط، في الأساطير الإغريقية وهو إله ابن اورانوس وجايا أحيانًا كما أنه والد إلهات النسيم. وأوكيانوس Okeanos تعني بالإغريقية المحيط، لأوقيانوس كإله في الميثولوجيا الإغريقية الكثير من الحكايات والقصص المختلفة. ويكيبيديا الموسوعة الحرة .
(6) الفيزيقا : هي العلم الذي يدرس كل ما يتعلق بالمادة و حركتها و الطاقة ، وتحاول أن تفهم الظواهر الطبيعية والقوى والحركة المؤثرة في سيرها ، وصياغة المعرفة في قوانين لا تفسر العمليات السالفة فقط بل التنبؤ بمسيرة العمليات الطبيعية بنماذج تقترب رويدا رويدا من الواقع .
(7) الميتـافـيزيقـا . كلمة مشتقة من الكلمـة الإغريقيـة "Metata Physika"، ومعناها (ما بعد الطبيعة). أي البحث في ما وراء الطبيعة مثل الله وصفاته ، النفس ، العقل وطبيعته ... إلخ .
(8) د. مصطفى النشار . فكرة الألوهية عند أفلاطون ص41. مكتبة الأنجلو مصرية .
(9) ثيولوجيا : الإلهيات (بالإنجليزية: Theology) (باليونانية θ-;-ε-;-ο-;-ς-;-, theos, "أي الله أو الإله", + λ-;-ο-;-γ-;-ι-;-α-;-, logia, "كلمة," "قول") هي دراسة منطقية منهجية تتعلق بالدين والروحانية والآلهة. ويكبيديا الموسوعة الحرة .
(10) د. أميرة حلمي مطر . الفلسفة عند اليونان ص76 . دار النهضة العربية .
(11) د. مصطفى النشار . تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي . الجزء الأول ص100 . دار قباء للطباعة والنشر .
(12) نفس المصدر ص101 .
(13) د. أميرة حلمي مطر . الفلسفة عند اليونان ص46 . دار النهضة العربية .
(14) ل ديورانت . قصة الحضارة . المجلد السادس ص253 . ترجمة : محمد بدران . الهيئة المصرية العامة للكتاب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة جزئية للعمل بمستشفى الأمل في غزة بعد اقتحامه وإتلاف محت


.. دول أوروبية تدرس شراء أسلحة من أسواق خارجية لدعم أوكرانيا




.. البنتاغون: لن نتردد في الدفاع عن إسرائيل وسنعمل على حماية قو


.. شهداء بينهم أطفال بقصف إسرائيلي استهدف نازحين شرق مدينة رفح




.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال