الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - اقفاص الرمل (5)

حمودي زيارة

2015 / 4 / 23
الادب والفن


الفصل الثاني
الثورة المدينة التي ترقد بتمرد بين اضمامة السدة الى اشنات نهر القناة. ولدت كأحياء الغجر بتعسر شاق من بيوت الطين, والتبن, والنفاش, والصرائف, واعمدة منخورة, واوراق السعف, والبواري ينمش سقفها سواد السخام, وفانوس مدلى لا يقوي على اضأت نفسه, يفغم الانفاس برائحة الزيت الثقيلة. تتراكم بيوتها بشقاء كشعبية اسواقها الترابية. تماثلت بكبرياء في مداخل احيائها وذلك بعد ان جلبوها من الشاكرية الممتدة كخرائب مدن الحرب في الكرخ مابعد نهر دجلة, واخلدوها هناك قرب الافق بعد ان خطفوها من سياط الاقطاع وحملوها من الجنوب بباصات الخشب. اتت يقوض شغاف قلبها نحيب ساهم كمواكب الحسين يتدافع ابنائها المشردين منذ الولادة بحزن وشفقة, تشق بهم الطرق الوعرة والدروب الموحلة لمثوى موقعها الجديد.
هرولت كخرز المسابح باصابع الاباء في خلل توهج السموم في طرقات الجوادر والداخل والكيارة, تشارك ابنائها الفقراء الذين ولدوا في جنبات ازقتها, طقوسهم, وعاداتهم, وطبائعهم, من جريمة قتل ترتكب في وهدة الظلام عند تخوم الكيارة او سكون باذخ لتهجد في جامع سيد حسين يعمده الخشوع او خلاف او ربما فضيحة تصدر من بيت ما. وتدمن لاهثة في حنايا الدروب الجاثية بتداخل فج.
اغرى ضوء الفجر صياح الديكة, مما قض منام المدينة الهش, حينها اعتراها استياء طري لتنبذ تغالب النوم. فبدت كالمعتاد جلبة سادرة هائمة دون حياء, اخذت تتفاقم بتاد حثيث مع تجشات سقيمة وناشزة لمناداة الباعة المنتشرين, كاعواد القصب العاري وهي تغتال اتساع مجرى نهر القناة, بصفيح عرباتهم الصدأة, ومناضدهم الخشبية, ومقاعد علب الصفيح التي توصد حافات الارصفة, ومواقف السيارات. بعد ان دعك زعيق مزامير السيارات وسن عيون المدينة, وصهيل الاحصنة المتهادية وحمحمتها بتثاقل نحو علوة جميلة, من اول ومضة ضوء الى غسق الظلمة. عندها استيقظت المدينة بتبرم مداهن, لتطالع بحبور من جذوة فجرها الفضي وثقوب كوتها من ينتظر بتأهب ليستأثر بمقعد في سيارة تقله قبل ذروة دبيب النمل من ثقوبها. وماوشكت ان تبدأ, ابنائها, العائدين, المتاخرين, اللصوص, العشاق, الملتحقين, المجازين تتفقدهم المدينة بتلذذ غريزي, ويأخذ اللغط الناشئ في اكنان المدينة المواربة يبدد حشمة الليل بعد ان يكتنز الشوارع اناس ينسلون كرذاذ غدق من اوجارهم المتداخلة بانسجام دمث كتلاصق القبور. ويندر ان حدث للمدينة ان تكتم السر حينما يتقارف حدث في جنبات بيت ما, فسرعان ماتفشيه, ويصبح مثار تندر لنواصي الازقة, وقارعات الطريق. وعند هجير الظهيرة تزكم المدينة بدخان التنانير الخانق. وصياح الاطفال الفاغم وهم يلعبون التوكي, الطنب بقطع الجعاب, والشطارد, وحشرجات الاقدام اللاهثة خوفا من ان يدركها طوفان الوقت, ورائحة الاسواق النافرة الجذلى, ولثغ المدارس مع كلمات الدرس الاول, فتتشرنق المدينة ذاوية في نسغ الحياة المتوالدة في ثناياها بانتشاء, وفي استغراق الشوارع بهتافات شتى, وغلواء دهاليز الازقة الرابضة بسأم في متاهة خارطتها المكعبة كأحياء لاتينية.
***

تندس المدينة بعنوة من نافذة السيارة لتحوز على مقعد كيما تنصرف هاربة مع الكوسترات الرامية لمراسم ندية خلف معابر نهر القناة, وفي احدى المرات وهي تجالسهم مقاعد الكوستر اطرق سمعها مشادة وقحة حدثت مع فتاة راحت عيونها تتطلع من خلال لوحة لوجه بشري زركشت بالوان مختلفة, وشاب بوجه حليق اتهمته بانه مرر يده على فخذها. ترجلت المدينة في موقف الباص الاخير قبيل ساحة مظفر على مقربة قصيرة من نهر القناة من اجل ان تغسل عنها اثار النعاس. رجعت يعتريها حلم ناعم, واقفة بهدوء كجنود الالمان, ممزقة صباح وقتها في مسطر ساحة (خمس وخمسين) الواقع كأثر لمسلة بابلية قرب الساحة نفسها. القت ماقيها الذرافة على ذلك المكان الذي احتضن جثة (حسين) لثلاثة ايام دون كفن في العراء كموعظة قذرة لمن يتمرد على قبلية القدر. غمست احداقها في نزيف الدمع وفي تذمر متقيح على تلك الجثة المسجاة من دون ان يثأر لها مختار ما. ركبت المدينة عائدة مع الذين لم يحظوا على من يستخدمهم. نزلت معهم الواحد بعد الاخر, حتى قاربت السدة الترابية التي تسورها كجدار برلين, تهافتت بوداعة نحو ظلال البيوت والازقة لحين تطامن سخط الشمس اللاهب بنثيث برودة طراوة الاصيل.
***

وكثيرا ما غرز الالم اوجاعه في تضاريسها عندما يلكز مهجتها دم ضاج او نحيب مفرط ما أن يترأى ابنائها قادمين داخل التوابيت جثث مهشمة وبقايا اوصال في كيس او قبضة تراب يلفهم علم الدولة التي وضعتهم في قرارة اللاشئ يمارسون طقوسهم البوهيمية بهوس كطائر البلشون. كثيرا ماكانت المدينة تجلس على اكتاف الرصيف قبالة التسجيلات تستمع لصوت حسين البصري وهو يردد ( نايم المدلول حلوة نومته مسلهم عيونه وناثر كذلته).
تتمشى مع الكل دون عناء تترك ذكرى مليئة بالنوادر والحكايا في البيوتات, وتطوف بوله في الاسواق كطفل بملابس العيد, سوق مريدي, العورة, اجمالة, الحي, تتسوق معهم تأكل, تطبخ, تحلق مع لفيف الطيور, تصلي في الجوامع, تثمل في البارات, تتابع بتلصص العاهرات وهن يتوارن بحنكة يتربصن من اضاق بغريزته, تجالس النساء في مداخل الازقة.
وعلى اعتاب الابواب, تأتي مع العائدين تمسح تفصد عرقهم تشرب الشاي من يد عجوز على ناصية الطريق يغمرها وشم جلبته كذكرى متيمة من اعماق القرى المغمورة بالحنين في سافانا البردي.
تردد مع مواكب النساء في ليالي عاشوراء (حجيتلك يامولاي شتطيني) تمر الاعياد في ارجاءها كموسيقى الماية في هسهسة المراجيح وصفعات الدومنةعلى مناضد المقاهي, ومزارات الائمة, وسواد الأم المغروس بجلدها كندبة.
***

على طوال عمرها المتضامر كحياة ولي زاهد تحاول ان تنسل منه كما جلد الافعى, فتختزله الما او ترثه السجن, المشانق, المنافي, اقبية العدم في اغوار دوائر الامن, او اقتفاءات المخبر.
تراهقت طفلا يتيما في تيه اليهود منذ نشأتها من دنس مخادع الجمهورية, ونمت كنخلة واقفة في ظلامها القاتم.
أه ما اجمل دجى ظلمتها حينما تمسد جسدها الدميم الليالي القمراء وهل يدرك سلافة رضابها الا من ترعرع بحبائل ظلمتها. وبثمن ما عب تراب الحرب من دماء ابنائها, وماوأد الرصاص من انفاسهم ردم ترابها الاسفلت, وكشفت دروبها اعمدة الكهرباء.
***

افترت الشوارع بمظاهرة عارمة توشم جدران المدينة بخطوط للدم ولافتات غاضبة, واصوات (الله اكبر) تتوالد كعواصف استوائية, تهفو من تحت اكف الحناء التي تبصم باب جامع المبركع, تكبل ارصفة شوارع الداخل, تهتف ساخطة (للصدر) المرهون بقرارة السجن, وتتوعد بالثأر, يطلق الرصاص بتعابث عليهم لم يرتدوا صمدت المدينة معهم, يسفح دمهم تلطعه, يقتل المحتجين احدهم, يتكاثف الصمت, يشتتون, يعتقلون, يعدمون, يختفون, فيعاود الخوف والحزن يبثر وجه المدينة هامت تحتضر في شحوب ازقتها, واوغلت هواجس الخوف تتسكع في شوارعها, قارفت نزعة الموت فما عاد شئ يجدي, اعدامات محمومة, صراخ على لافتات تعلق سرا, كتابات على الجدران, مناشير توصم صمت الشوارع. ترأت المدينة كأم تتضرج بالسواد كلوحة للبؤس, غارت بوجوم تسير هدوة بيوتها, تحتسي القهوة في المأتم, تركل باهمال تقويم احزانها, تراقب بتألم مكابدات ابنائها ومعاناة الطرق الاسنة. فقد دأبت على هرس رتابة ايامها دون اكتراث فما ان تأتي حتى تبدو كالامس. انخرطت تفتش بمثابرة عن ليلة تحترق رمادا ببارود الصمت الحانق, تفاجأت المدينة يوما بغيوم زيتية سوداء قادمة من اقاصي الجنوب هطلت بحقد فتركت خطوط قاتمة سوداء على بشرة الجدران, فكأن المطر دعى غيوم كل مواسمه فحالت المدينة الى اشباح غائمة. جنود بارجل متورمة تركوا الجنوب مشيا هاربين الى بيوتهم, قالوا ثورة في الجنوب فقد عادت المدن من السجون والمنافي ترقص مع ابنائها, وتوارى الخوف من ازقتها, ونشر الحنين رائحته العبقة وطالبت بالثأر, واطلقت الرصاص على سجانيها.
فبقيت المدينة تنتظر, تترقب دون طائل تتوارى خجلا خلف مداهنة الكلمات, وذرائع التسويف, تشعر بالهزيمة توخز كرامتها, راحت تهرول بجنون في ايام غدها, تنقب بغضب عن يوم يوري ظلمتها ولو بضوء خافت, وعلى الرغم بانها كانت تشعر بهذا اليوم من لجة الشوارع, واحتقان الازقة, وعلى جلدات الشفاه, واحاديث المقاهي ويوما ينتصب في تاريخها موسم لمداعبات الفرح فقد شوهدت المدينة تلبس ثوب نذرها الملون تثير ابنائها. تقافزت البنادق في صمت الدروب, فواصلت المدينة تردد ولدت فينا مجنونة كطقوس طفولتنا من مدارات سوق مريدي يدفعها موج القدر كصندوق موسى. تضرجت المدينة بالدم, اشعلت الاطارات. توسدت جثثهم صدرها, قاتلت معهم, قتلت بعضا من جنود السلطة, اوقدت النار في مركباتهم, تطاولت ردحا من الزمن في شوارعها, يرافقها المجد, اشعلت البخو , مخرت ازقتها نشوة وشغف. طرقت الابواب تحمل البشارة, سيأتي عن قريب رجل السماء فالجنوب مازال يشد قبضته على البنادق ويخلد الى المتارس. وفي زمن خائف اهمل ان يوقف عقاربه ليمد فرح المدينة, فعادت المدينة تختبأ خائفة من البيت الى اخر تنتحل البؤس بعد ان ردمت السلطة احلامها في وهاد المقابر الجماعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا