الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشاهد من سيرة رائد التعليم الاهلي بمنطقة النيل الابيض بالسودان .. الاستاذ عبدالملك عبدالله حامد .. معلم الأجيال الذي كاد ان يكون رسولا !

محمد المصطفي موسي

2015 / 4 / 29
التربية والتعليم والبحث العلمي


إذا كانت النفوس كباراً .. تعبت في مرادها الأجسام ..

نحن لا نختار اقدارنا في هذه الحياة الدنيا .. ولكن بعضنا يأتي الي هذه الدنيا فيملؤها زخماً بجلائل الاعمال .. ثم يرحل عنا في صمت المتصوفة الزاهدين .. لا يريد جزاءً ولا شكورا !

هكذا ترسم الكلمات بريشتها.. حينما نستدعيها .. لوحة صادقة ..لأستاذ الأساتيذ ورائد التعليم الاهلي بمنطقة النيل الابيض الراحل .. التقي النقي .. معلم الأجيال ..الاستاذ عبدالملك عبدالله حامد .. رحمه الله ..بل نزعم انه من صفوة الأساتيذ السودانيين الذين وهبوا مالهم وجهدهم ووقتهم بسخاء يكفي تماماً لتخليد ذكراهم في صحائف مسيرة التعليم منذ فجر الاستقلال الاول .. ان كان في ذاكرة هذا الوطن .. متسع لعطاء الصادقين والمتجردين من ابنائه .

عرف الناس فيه علو همة ووعي مبكر حمله علي إنهاء إعارته كمعلم بالسعودية .. حين كان راتبها يعدل التبر "المجمر" .. ولكن تبر الغربة لم يكن ليعدل ذرة واحدة من ذرات تراب الوطن .. الأحب الي نفسه !

أي نبلٍ كامن في إنسانية الإنسان .. ذلك الذي دفع بأستاذنا عبدالملك .. الي ركل أموال مؤسسات شركة أرامكو السعودية التعليمية الخاصة .. ذات الامتيازات التي تخلب لب كل ساع الي التصالح مع أمان الغربة الكاذب و الاستعصام بواقع بديل .. يحمل صاحبه علي التوهان في "فنتازيا الغياب" .. بعيدا عن ذلك الوطن الذي كان أساتذته يفرون منه بحثا عن "يوتوبيا" لم تكن لتشمل دائرة ابعد من الأبناء والأقربين .. وصدق من قال .. حين تتقزم احلام الناس .. يتقزم معها الوطن !

ثم أي نبلٍ وصدقٍ ذلك الذي ساق استاذنا ليسكب كل ما اكتسبته بعرقه وكده في ديار الغربة لينشئ مدارس دار السلام الوسطي بمدينة ربك كمشاعل باقية للعلم والنور في منطقة النيل الابيض بأسره .. ينفق كل ما كسبت يداه من اجل حلم طالما راوده .. وان الاوان لجعله واقعا يمشي بين الناس ! .. ومن منا لم يسمع أهالي مدينة ربك وهم يتناقلون ذلك المشهد العجيب .. حينما كان استاذنا عبدالملك .. يحمل الطوب و المونة علي ظهره يبني ويشيد بنفسه مع العاملين اسوار وفصول مدارس دار السلام الوسطي .. فتعلموا منه ان رسالة المعلم الحقيقي ..لا تقف عند حدود "السبورة" و" الطبشيرة" وجدران الفصل الأربعة ..بل تتعدي ذلك لتشمل أدوار أوسع وانفع للناس .. في شتي مناحي الحياة .. ذلك كان الدرس الأول الذي القاه في مدارس دار السلام .. حتي قبل ان تفتتح أبوابها لطلاب ذلك الزمان !

أي قيمٍ ومعانٍ عظام تلك التي غرسها في نفوس طلابه وعارفي فضله .. حين كان يقتطع من راتبه لدفع المصاريف الدراسية لبعض التلاميذ .. حينما حط هذا النظام الكارثة بمسغبته علي اهل السودان ! ذلك السر الذي كان يكتمه حتي عن اهل بيته .. فصدع به طلابه المشتتون في شتي بقاع الأرض اليوم .. تلهج ألسنتهم بالثناء والعرفان .. يدعون له بالخير في الدنيا والآخرة .. فما قالوا الا صدقاً .. وما رفعوا اكفهم الي السماء الا بما يستحق !

أي جسارة تلك التي عرفها الناس فيه ..وهو يتصدي لبطش وتنكيل النظام المايوي بجموع اهل النيل الأبيض علي أيام مجزرة الجزيرة أبا 1970 .. حينما همس في أذنه أحدهم مترجياً ان ينكر علاقة رحمه بالإمام الهادي المهدي إيثارا للسلامة وتعلقا بأسباب النجاة ..فكانت عبارته الشهيرة التي أطلقها امام مدرعات العساكر المدججة بالسلاح والتي ما زال اهل ربك يذكرونها الي الآن .. (ان لم اكن ابن عمه .. فانا اليوم وفي هذه اللحظة بالذات ..ابن عمه ودمه ولحمه ) .. فكانت داره الفسيحة كالرحاب الامنة تلوذ بها الافواج من رصاص العسكر المنهمر من كل الاتجاهات .. رصاصا لم يكن ليعرف شيخا ولا امراءة ولا طفلا يحبو ! .. وإن من الإقدام ما يحمل حتي العدو الباطش علي احترام صاحبه .. وإن له من السحر ما يفوق بيان الخطيب المفوّه! .. فتعلم منه الناس مجددا درسا اخر مضمونه ان المعلم لا يقود تلاميذه في اسوار المدرسة فقط بل هو عند الملمات قائد يلتف حوله الناس ويحتمون به !

اي رسالة تلك التي قام بها كمعلم في رحاب "بحر ابيض " .. تلك التي حملت قبائل المنطقة علي جعله علي رأس جل لجان "الجودية" التي كونها الناس لفض النزاعات بين مختلف القبائل والأفخاذ ولسان حالهم كما قال شيخهم .. كيف لا نستأمن الاستاذ عبدالملك علي حل نزاعاتنا وهو الذي استأمناه علي فلذات أكبادنا او كما يقول المثل الدراجي " ليك اللحم ولينا العظم " .. وهكذا تعلم منه الناس درسا جديدا .. وهو ان المعلم الحقيقي هو من انفعل بقضايا مجتمعه .. فكان ركنا مهما لترسيخ وتأمين دعائم السلام الاجتماعي في الوسط الذي ينشط فيه .

ثم من منا لا يعرف داره المضيافة المفتوحة لكل عابر سبيل يستزيد منها بما يقيم الأود و يوجب الشكر .. شكرا كان هو يرفضه .. لما يراه واجبا يقوم به .. ومن منا لا يعرف ذلك الديوان المتسع والذي تحفل جنباته ب" العناقريب" والاسرة.. فان قلبت بصرك فيه لوجدت "سودانا" مصغرا بكل قسماته و نبضاته ومعاناته .. فذلك اب ومعه ابنه المريض انقطع بهما السبيل وهما في طريقهما للعلاج بعاصمة البلاد .. وهناك شاب قادم من أقاصي غرب السودان الحبيب .. تعلقت امال أهله البسطاء به .. وهو في طريقه للخرطوم لاستلام وظيفة جديدة .. اخبره الثقاة : "ان توقفت بمدينة ربك فاذهب لأستاذ عبدالملك فداره تأوي كل عابر سبيل" ..وهؤلاء ثلة من شرقنا الحبيب من مزارعي القضارف.. اسرة من اب وأبناء ثلاثة يمضون ليلتهم هنا .. بعد ان تعطل " اللوري " الذي كان يقل محصول السمسم الذي تعطرت كل حبة من حباته بزخات عرقهم الزكية .. تعطل بهم في مشارف " ربك " .. وهم في طريقهم للخرطوم " كرش الفيل ".. تسابقهم اليها الآلام قبل الامال ! .. وها انت ذا تلمح الاستاذ عبدالملك قائما بنفسه علي راحة ضيوفه و معه ابنائه .. وزكائب الذرة تفرغ الواحدة تلو الأخري من اجل إعداد " الكسرة" و " عشا الضيفان " .. تتبعها اواني الشاي ذو البخار الكثيف المتصاعد .. و معها أكواب "الجبنة " التي تصطك في اوانيها اصطكاكا فتحدث جرسا فريدا لا تخطئ وقعه اذن .. وها هو استاذنا يجالس هذا ويطايب ذاك .. ولا يخلد الي النوم الا بعد يطمئن علي ضيوفه فردا .. فردا .. ثم لا يدعهم الا و في ذهن كل منهم سؤال حائر.. اليست هذه هي اخلاق أولياء الله ؟

ثم اي زهد خليق بأمثاله من الواهبين عطائهم من اجل الناس بلا من ولا استكثار .. ذلك الذي عرفه الجميع عن استاذنا عبدالملك .. حينما ضايقه اهل الانقاذ .. ووضعوا نصب اعينهم سياسة محاصرة مدارس دار السلام الوسطي بمدينة ربك .. ومحاولة تجفيفها كما جففوا الوطن وحاصروه بأسره .. و كما فعلوا مع منارات التعليم الأخري كخور طقت و حنتوب .. و في عهد الرساميل الطفيلية التي طالما جبُنت عن الخوض في غمار التعليم .. ولكن حينما صار التعليم في هذا العهد الغيهب .. مرتعا للاستثمار والتكسب..أقبلت عليه ذات الرساميل الجبانة ..لاهثة .. متلهفة .. لا تخاف بخساً ولا رهقا ! وعندما صار المكان غير المكان والزمان غير الزمان .. عندها اسر الاستاذ عبدالملك لمقربيه .." هذا ليس اواني وليس ميداني" .. فباع داره في مدينة ربك بدريهمات قليلة وابتاع له منزلا في ضواحي الخرطوم .. مؤثرا سلامة الانزواء عن الخوض في هذا الوحل .. واستحال حضوره الجميل بين أهالي مدينة ربك .. الي "اركالوجيا " من الغياب في ضواحي " بندر" .. لم يكن ليحبه يوما .. ولكنه أكرم وأخلق به وبسيرته عن التنازل عن ما ارتأه حقا ..فقد تلك هي احدي سجاياه .. عنيدا لا يصح عنده الا الصحيح !

ثم جاءته الوفود من النيل الابيض ومن مدينة " ربك " تحديدا .. من مختلف القطاعات .. روابط طلاب .. روابط خريجين و اساتذة وأطباء .. وأناس عاديون بسطاء .. جاءوا يحتفون به ويكٌرمونه في داره .. فكان هو ذات الرجل الذي يسهر علي راحتهم وضيافتهم حتي لم يعد احد يدري .. من يكرم من ! .. هكذا كان صادقا .. كريما.. ومتعففا لاخر قطرة من سنوات عمره البضع وسبعين ! .. سنوات حافلات بالبذل والعطاء .. وحب الناس .. الذي لا يدركه البعض وان أنفق مافي الارض جميعا !

سيدي وأستاذي عبدالملك عبدالله حامد في ذكري رحيلك الأولي لا يسعنا الا ان نقول .. لقد كنت فينا متوهجاً .. بعطائك المتجرد لوطنك الحبيب .. ولطلابك ولمهنتك .. ولمجتمعك .. وسيبقي هذا الوهج متقداً وباقياً .. بما تركته فينا من اثر وخلق.. وكأن شاعرنا الراحل صلاح احمد ابراهيم كان يتمثلك حين قال :

نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الكادحين
وولاء، حينما يكذب أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عرق !

طبت حياً وميتاً سيدي عبدالملك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الصيني في زيارة إلى فرنسا تركز على العلاقات التجارية


.. مفاوضات حماس وإسرائيل تأتي في ظل مطالبة الحركة بانسحاب كامل




.. مصدر مصري رفيع المستوى يؤكد إحراز تقدم إيجابي بشأن مفاوضات ا


.. النازحون يأملون وصول إسرائيل وحماس إلى اتفاق وقف إطلاق النا




.. Ctقتيلان وعدة إصابات بغارة إسرائيلية استهدفت بلدة ميس الجبل