الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية .. دليل الثورات العربية التي لم تكتمل

عبدالعزيز عبدالله القناعي

2015 / 5 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اوشاج

العلمانية .. دليل الثورات العربية التي لم تكتمل

بعد سنوات ليست بالقليلة على مرور الربيع العربي وما تركه من فوضى سياسية واجتماعية واقتصادية في مجتمعاتنا، وضياع لبوصلة الشعوب العربية في تحديد أطر تعاملها، سواء مع الأنظمة العربية أو مع بعضها البعض. حريا بنا أن نتوقف لحظات لتدارس أوجه الفشل في تحقيق الانتقال السلمي الي الديمقراطية التي كانت حلم الشعوب العربية وتطلعها الي بناء أنظمة عربية بديلة عن نظم الإستبداد والقمع القائمة. فبعد قيام الثورات العربية، لابد لنا أن نعرف مواطن الخلل في العقل العربي حتى نستطيع أن نجزم تقريبا بأن الحل ذاك وذاك. تاريخيا، كانت الشعوب العربية مقيمة وراكدة في أزمة حضارية منذ القرن الخامس عشر، بل ويجزم المؤرخون أن الحضارة العربية الإسلامية قد توقفت عن الإبداع مع حلول القرن الثاني عشر مع توقف الإجتهاد وفرض النقل على العقل. فهل من المعقول أن نتمادى في رد التخلف الثقافي والعلمي والاقتصادي إلى الغرب أو مؤامرة اليهود والنصارى؟ ألا يسبق دائما الانحطاط في المجتمع كي تصبح المجتمعات مستعمرة؟ ألم تكن معظم المجتمعات العربية في حالة يرثى لها من الوهن في بداية القرن التاسع عشر؟. هنا، علينا في البداية أن نعترف بقسوة تخلفنا وتردي سلوكنا ومفاهيمنا وقيمنا عن اللحاق بالحضارة والعلم والإنسانية. فالخطاب العربي لا يجد الكثير من الخيارات فهو يفتقد الوعي اللازم لفهم مرحلته وكذلك لوضع الأهداف لتصحيح المسار.. فلا يجد العقل العربي، بعد فشل حاضره، إِلَّا أن يرتد الى الوراء أكثر فأكثر ولا يدرك أنّه في النهاية لن يجد خلفه إِلَّا الجدار، جدار الجاهلية والتخلف والبدائية وهو ما وقع فيه بالفعل دون أن يشعر بأن الحداثة التي يدعيها ماهي إلا ديكور سرعان ما يهتريء مع شدة الأفكار والفلسفات التحررية.
وأمام هذا التراجع أختار العقل العربي خطاب الدين لتنقسم الشعوب على نفسها كل مرّة؟ بل ونتج من هذا الانقسام أعداء جدد وحروب جديدة طالت مجتمعاتنا اليوم بشكل أكثر دموية ووحشية حين تم استغلال الدين سياسيا، فخرجت الطائفية والمذهبية لتشكل هوية الشعوب العربية وتقام من أجلها الحروب وهو ما نشاهده حاليا من تحول الربيع العربي الي صراعات على الهوية المذهبية، إن كان في العراق أو سوريا ومؤخرا اليمن وليبيا. لقد استطاعت المذاهب الإسلامية، السنية أو الشيعية، في ضوء انعدام الأمل بدول ديمقراطية مدنية أن تتواجد بقوة وكثافة، وأن تعمل الدول الإقليمية الإستبدادية المتمذهبة، على اقتناص الفرص لمليء فراغات الحروب والصراعات والتخلف بعد ثورات الربيع العربي بتشكيل قوى عسكرية يكون لها القوة بالدخول الي مكامن وبؤر الصراع لدعم تطلعاتها التاريخية والإستيطانية.
وفي المستقبل المنظور لا يبدو هناك أي أمل أو تفاؤل يمكن أن ننطلق منه لبناء مجتمعات حديثة. فالصيرورة التاريخية الطبيعية تشير الي أن تشكيل الدول الحديثة لا يكون إلا بعد مواجهات وصدامات يتمخض عنها وعي جديد مختلف، وهذا هو ما أراهن عليه في أيامنا هذه بعد وصولنا الي دوامات من القتل والذبح والكراهية على أسس دينية ومذهبية وهو نفس المخاض التى مرت به الشعوب الغربية آبان ثوراتها ضد الكنسية والهيمنة الدينية. إن التحرر من الوثوقيات الدوغمائية هو المنطلق الأول لأن يكون العقل العربي حرا من القيود، فلن نستطيع بناء ثقافة جديدة دون أن نلغي الثقافة الدينية من التعامل مع المستجدات التاريخية، أو على الأقل تحييدها عن التعليم لما تمارسه من غرس لتابوهات القداسة والجمود والتشرنق المذهبي. فإذا كانت شروط النهضة تحتاج لبدايات، فإن تحصيلها لا يكون بغرفها واستهلاكها، فهي تكتسب بالمراس، بالتعلم، بالمعاشرة، بالمحاولة الفلسفية. هذه التربية الفكرية الجديدة هي التي تعلمنا النظر والفكر، القراءة والكتابة، الحياة والموت...هنا تتضح رهانات التقدم باعتبارها أمل المستقبل.
ولعل العلمانية في رؤيتها الشمولية للإنسان والمجتمع هي الخلاص الحقيقي لمخاض المجتمعات العربية بعد فشل التيارات الإسلامية في تنفيذ وتحقيق جنتها على الأرض، فلم يسفر الخطاب الإسلامي قبل وأثناء الربيع العربي إلا عن تزايد الحروب وتفريخ تيارات الجهاد والعنف. ولما كان غرض العلمانية هو تكوين إنسان حر قادر على الاختيار واتخاذ القرار دون تسلط ولا إكراه، بل استنادا إلى العقل النقدي، فان الفكر الديني من جهة أخرى هو الذي أصل مفاهيم الطاعة والخضوع والإستسلام، ورفض كل ما من شأنه الإعتراض على الحاكم أو السلطة الدينية، وبالتالي خلق شعوبا ومجتمعات اتكالية ضعيفة غير قادرة على رؤية حاضرها فضلا عن مستقبلها. وإذا كانت التيارات الدينيّة تقول أن الحل هناك في الخلف حيث يقبع النص الديني بفهمه الأوّل، تمارس العلمانية إطلاق طاقات العقل البشري وتكوين الظروف الملائمة للإبداع والتفكير للتوصل الي افضل الحلول وفقا لمهارات الإنسان ومصالحه الآنية، وهذا لا يتعارض أبدا من كون الدين، أي دين هو عبادة خاصة شخصية تمارس وفقا لطقوسها في دور العبادة فقط. إننا اليوم بأشد الحاجة الي استنباط الحلول لواقعنا المؤلم من الإرض، من الإنسان الذي يعيش مع أخيه الإنسان ويتعامل معه، ولسنا بحاجة الي حلول السماء التى جاءت وفق زمانها ومنظورها التاريخي المختلف حوله والتي أصبحت بعد التفسير والتأويل مذاهب وأديان تتصارع على تمكين نفسها وإقصاء الآخر المختلف.
إن مشكلة العلمانية المطروحة كبديل عن التيارات الإسلامية هي في الواقع أكثر تعقيداً وعمقاً وخطورة مما قد يوحي به السياسيون والكتاب والعلمانيون، وحتى أكثر عمقاً من إدراك وفهم أصحاب الحركات الدينية أنفسهم، لأنها مشكلة متعددة الوجوه والأبعاد، وعملية عقلها علمياً لا تكون من خلال التعامل مع تعبيراتها الخارجية، لكن من خلال الغوص في البنى العميقة للعقل الرافض لها واستقصاء الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحافزة على ظهورها. فالعلمانية من المفاهيم التي أقحمت في الجدل المحتدم في العالم العربي والإسلامي حول علاقة الديني بالدنيوي، يظهرها بعضهم كأسلوب حياة وحكم متعارض مع الشريعة الإسلامية، ويطرحها آخرون بشكل لا يضعها موضع التصادم مع الإسلام. لاشك هنا في أن مفهوم العلمانية مفهوم غربي النشأة، وسواء نسبنا الكلمة إلى، العلم ـ العلمانية، بكسر العين ـ أو العالم ـ العلمانية، بفتح العين، فإن هناك شبه إجماع لدى المختصين على أنها تعني فصل الدين عن الدولة. إن الفهم الحقيقي للعلمانية التي أخذ بها الغرب، يعني أن أمور الدين ليست حكرا على جماعة تدعي أنها واسطة بين الإنسان وربه. فالعلمانية ترفض التسليم بأن أمور الدنيا لا تستقيم إلا إذا نظمت وسارت على أساس تطبيق نص أو تعاليم دينية محددة وثابتة. وبالمقابل فهي لا تتدخل أبدا في العبادات او الطقوس الدينية، بل هي إطار عام للدولة يحفظ الجميع من التخندق في التطرف المؤدي الي تخريب المجتمع. وبالتالي فإن معرفة سبب الخوف من تطبيق العلمانية في مجتمعاتنا العربية، غالبا لا يأتي من عامة الشعب، وإن كان بعضهم الكثير مغسول الدماغ بسبب التأثير الديني، بل يأتي الخوف من العلمانية بالمقام الأول من السلطة الدينية التى تعلم تمام العلم أن بهرجة السلطة والمال والحكم ستختفي لا محالة حال تطبيق العلمانية، ولهذا فإن شروط تطبيق العلمانية يتطلب أولا مواجهة السلطة الدينية، وبالتأكيد أنها مواجهة مكلفة وتؤدي الي عواقب وخيمة وقد أدت بالفعل الي ذلك في مجتمعاتنا العربية ووصلت المواجهة الي حد التصفيات والإعتقالات وحتى القتل والنفي لبعض المفكرين والمدافعين عن العلمانية. لكن، وحتى لا يكون الصدام هو الخيار الأول، نؤجله الي خيار آخر نعتقد أن الفرصة مواتية له اليوم وهو الحاجة الي تقبل الناس إياها، من دون أن يشعروا أنهم يتخلون عن إسلامهم بالتعامل معها. فالمجتمع الغربي العلماني هيأ للناس شروطاً حياتية دنيوية أفضل مما كانوا عليه، فقد ساعدتهم العلمانية على حل مشاكلهم اليومية، ومكنتهم من القوة والقدرة على التحكم في الطبيعة وفي المجتمع، من دون أن يحتاجوا إلى فتاوى رجال الدين، أو ينتظروا حلولاً سماوية، أو يهربوا من الدنيوي إلى الأخروي. وهكذا فكلما زادت قدرة الانسان على فهم الحياة والتحكم في واقعه وحل مشاكله، قلت حاجته إلى الهروب من الواقع إلى الخيال أو الأيديولوجيا أو الأسطورة أو انتظار حلول سماوية لمشاكله، وبالتالي قلت حاجته إلى استحضار الإله لينوب عنه في حل مشاكله.
إن الخطر، إذا لم يتم مواجهته والناشيء من الخوف من مواجهة السلطة الدينية سوف يكون أشد خطورة، وسوف ندفع الثمن جميعنا يوما ما اذا لم نتدارك ونفصل الدين عن الدولة وإعادة المدنية الي مجتمعاتنا مع الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية كتاريخ وثقافة غير إلزامية بل أن يتم اعتبارهما مرحلة تاريخية في حياة مجتمعاتنا ندرسها، نعلمها للأجيال، ننهل من تعاليمها، أدب وفكر ومعرفة. إن الشعوب العربية مازالت تخشي الثورة المدنية، مازالت ترى في الحلال والحرام منهج حياة وتدبير يومي، ولم يكن هذا الشعور طاغيا إلا بعد أن تمكنت التيارات الإسلامية وربيبتها المذهبية من السيطرة على الأنظمة العربية ومداهنتها وتخصيص فتاوي السلطة وبقاء الحاكم مدى الحياة مقابل إطلاق يدها في مجتمعاتنا ليمارسوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع المرأة والحريات والرأي.
إذن في ظل مأزق الثورات العربية وفشلها، وفي أزمة الواقع العربي الغارق بالفساد والتبعية الدينية. لن نجامل أكثر، ولن نداهن أحد ولن نجزع من سلطة أو دين أو مذهب. فالعلمانية كمنهج عقلي وإنساني وحضاري هو الزمن الجميل الذي ينتظرنا، هو الثورة التي لم تستكمل بشكل صحيح في دولنا العربية، هو الفكر الذي تم قمعه طويلا وتحريمه طويلا ومحاربته طويلا. فإذا كان لأي سلعة في السوق دليل استعمال السلعة، فإن دليل الثورات العربية البائسة التي لم تنتهي حتى اليوم لن يكون سوى العلمانية.

د. عبدالعزيز عبدالله القناعي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المشوار طويل
احمد الانصاري ( 2015 / 5 / 3 - 11:09 )
رؤية واضحة ولست أول من نبه اليه يا دكتور ويؤيدك الفئات المثقفة تثقيفا نوعيا لكنك تحرث ف البحر وتصاب ف النهاية بخيبة أمل ف مجتمع يعاني من الاختلال ف بنيته وليس مهتما بتعديل مساره فمن جانب يحارب الارهاب ومن جانب أخر يصنعه عبر مناهجه الدراسية / متى يبلغ البنيان يوما تمامه / اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وشكرا


2 - الأمل لا يأتي إلا بعد الألم
عبدالعزيز القناعي ( 2015 / 5 / 3 - 12:49 )
استاذ احمد
نعم صحيح ما تفضلت به وقد سبقني الكثير لهذا التنبيه وزرع الأمل.. الغاية الحقيقية من الإستمرار في هذا الطرح هو رؤية الدماء التي تسيل والفتاوى التي تتكاثر والعقول التي تحصد التخلف.. لا نستطيع أن نتوقف لمجرد فقدان الأمل فالقضية مستحقة وبحاجة إلى تضحيات ونحن نقدم أصغرها وهي الكتابة لخلق أجيال واعية تؤمن يوما ما بالطريق الصحيح للنهضة والتقدم دون خوف أو رهبة.. المجتمعات الحية تصنع التغيير.
شكرا لمرورك والتعليق.. تحياتي لك

اخر الافلام

.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين


.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ




.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح


.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا




.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم