الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هايدغر و الإنتقال من الميتافيزيقا إلى فلسفة الوجود

رضا لاغة

2015 / 5 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن الفكر العقلاني يخشى دوما من أن تتسلل إليه علاقات لا تنتمي إلى العالم الموضوعي . وهو اختراق لا يقاوم ، ينزع عن الإدراك سمته الموضوعية. و لطالما أثبت كارل مانهايم " أن الموضوعية تظهر بانكشاف الأقنعة الإيديولوجية . أما اختفاء العنصر الطوباوي من الفكر الإنساني فسيكون له شأن آخر .فقد يمثل ذلك المعضلة العظمى"1 .هذا يعني أن الفكر الموضوعي نفسه يمكن أن يتخذ صورة محتملة تحيي ، وفق تعليل مبسّط، ضربا من الشرود أو الانزياح عن الموضوعية فيقع من حيث لا يدري في ما يناقضه . وكلمة الحقيقة ذاتها يمكنها أن تنشأ بمقتضى معيار إدراكي يتنابذ مع رهاناتها . هذه العذوبة القلقة التي تغمرك ، و أنت تترحّل في كتابات هيدغر ، تثير في دواخلك قدرا من التشويق فأنت تنشد الحقيقة و في طريقك لتحصيلها تصطدم بمأزقين: إما أنك لا تعرفها و حينها تبدو كمن يحب أن يتحرر دون وعي مم سيتحرر أو أنك تعرفها فيستحيل إدراكك لها إلى مجرد "معرفة ملتبسة". يقول هيدغر:" عندما نطالب بالحقيقة الواقعية فإنه يتعيّن أن تكون لدينا من قبل معرفة بما هي الحقيقة من حيث هي كذلك"2 . غير أننا أثناء التفكير في الحقيقة بما هي كذلك " نجد أننا لا نملك منها سوى معرفة ملتبسة" 3 .
إن استنهاض الفكر و صيانته من زلل الالتباس ، مرده " كثرة الاستعمال ، لهذه الكلمة النبيلة ، المنهكة ، لدرجة أنها أصبحت فارغة من المعنى"4 . لتفكيك معالم هذه المفارقة يلقي بنا هيدغر داخل ثنائية الحقيقة و الواقع متحريا ما إذا صح القول بأن الحقيقي هو الواقعي . إن التورط في مثل هذا التبسيط يورث صعوبة في مسرح هذه العلاقة . أليست الملفوظات بدورها حقيقية عندما تتطابق مع موضوع حكمها؟ ذلك ما يفضي بهيدغر إلى إقرار أن " الحقيقي سواء كان شيئا أو حكما هو ما يتوافق و يتطابق بين الشيء و ما تتصوره و بين ما يدلّ عليه الملفوظ و بين الشيء"5 .
نحن إذن إزاء خاصية مزدوجة لمعنى التوافق ، إلا أنها خاصية تضعنا إزاء التعريف التقليدي لماهية الحقيقة أي بما هي تطابق الشيء مع العقل. يعتبر هيدغر أن هذا التصور لم يحظ بالتأمل الكافي في أسسه النظرية فما زال هناك ما نحتاج لكي نكتشفه عن ماهية الحقيقة . يقول :" إن التطابق لا يمكن أن يعني حدوث تماه فعلي بين شيئين مختلفين في طبيعتهما . فماهية التطابق تتحدد بطبيعة العلاقة القائمة بين المنطوق و الشيء"6 .
أن يكون معنى التطابق مبهما بهذا القدر، من جهة كونه يحمل على معان مختلفة ، فهذا يشوّه مرتبة الحكم الذي لم يعد" المقر الأصلي للحقيقة"7 . ولكن ما مآله حينئذ؟
هو يظل مجرد إمكانية . ومتى تتحقق؟ يجيب هيدغر:" إذا كنا أحرارا تجاه ما هو متجلّ ضمن المنفتح"8
يبدو أننا بدأنا نتفكّر في الحقيقة من زاوية الذات ، أي إرجاع الحقيقة إلى ذاتية الفاعل الإنساني. يقول:" إن التفكير في هذه العلاقة الإنسانية بين الحقيقة و الحرية يقودنا إلى تتبّع مشكل ماهية الإنسان"9
كنا ننشد معرفة الحقيقة فإذا بنا نستدعي مفهوما أكثر إلغازا هو الحرية. هذا التمركز الذي يخوض به هيدغر إستراتيجية البحث عن الحقيقة ، يقوم على مرجع يصحح المسار بالتساوق مع الحرية بما هي " فسح المجال أمام انكشاف الموجود من حيث هو كذلك" 10 . إن الحرية التي يقصدها هيدغر هنا هي " ترك الموجود يوجد" 11 ، إنها " تحقق ماهية الحقيقة على شكل انكشاف للموجود"12
أن تنكشف ماهية الحقيقة كحرية ، لا يجعلها تتمحور حول التفكير الميتافيزيقي ، بل يجعلها في مواجهة كل تفكير ميتافيزيقي. و ما طاقة التمرد و إرادة التنصل من الميتافيزيقا ، إلا لكون الميتافيزيقا تتضمن إستراتيجية منع انكشاف الحقيقة بما هي حرية ، إذ لا انكشاف في ظل نسيان الوجود.
إن جرم الميتافيزيقا أنها تضع الوجود دفعة واحدة خارج الزمان حيث العدمية و النسيان. و لعل المغامرة التي تتيحها لنا الأسئلة الهيدغرية تكفي لتعويض الردة التصورية و توضيح شروط بزوغ خطاب انتهاكي للميتافيزيقا.
هذه الحركة الموسومة عبارة عن " تمتمة معذبة تصارع من أجل النهوض من نسيان الوجود"13.
يقول غادامير :" كان السؤال الأول الذي جاء في البدء هو: ما حقيقة وجود الدازين ؟ من المؤكد أنه ليس مجرد وعي. و لكن ما نوع هذا الوجود الذي لا يدوم و لا يحصى كما تدوم النجوم و كما تحصى الحقائق الرياضية ، إنما هو يتضاءل بثبات مثل الحياة العالقة بين الميلاد و الموت و مع ذلك فرغم تناهيه و تاريخيته يكون موجودا هناك و هنا و الآن و حضورا لحظويا ، و ليس كنقطة جوفاء بل كزمانية مشبعة و كلية و متراكمة؟"14 .
إذا كانت الميتافيزيقا أهملت سؤال الوجود ليسقط في النسيان فإن هيدغر في محاورته للميتافيزيقا ( الوجود و الزمان) يستكشف جغرافيتها من أجل تقويضها بوصفها عاجزة عن النفاذ إلى الوجود . فهي نمط من التفكير يقوم على فكرة نسيان الوجود ؛ و لكن الملفت للنظر أن انخراط هيدغر في مطارحته لسؤال الميتافيزيقا هو بمعنى ما مباشرة لتلافي ما تجاوزته حول حقيقة هذا الوجود ." إنها علامة تبشّر بإعلان ابتداء فهم نسيان الوجود" 15
بمعنى آخر لو جاز لنا القول بأن الميتافيزيقا انخرطت في التفكير فيما لا يجب التفكير فيه ، فإن مقاربة هيدغر هي من هذا المنظور ضرب من الفضح لتاريخ الميتافيزيقا التي انشغلت فيما ينوب الوجود . هناك تيه ما ، يصور الوجود بمعزل عن ماهيته , وهو وفق هذا المعطى لا يظهر ، إنه محتجب و غائب؛ و التفكير في ما وراء الميتافيزيقا هو استرجاع لهذا اللامفكر فيه . و ليس لنا من بد سوى أن نسلك طريق اللا نظام ، أن نقوّ ض طريق انبعاث نظام الميتافيزيقا ، أن نستأصل الجرم الأفلاطوني ، أن نحفر في الأبنية النسقية حيث ينكفئ الوجود في عزلته .
لا مناص من أن نخرج السؤال من الأفق الميتافيزيقي لأن " أي أنطولوجيا مهما بلغت قوة المقولات في تماسكها تبقى في الأساس عمياء و تفسدها المقصد الأخص ،طالما لم تبدأ بتوضيح معنى الوجود بشكل كاف و لم تفهم هذا التوضيح بوصفه مهمتها الأساسية"16
إن هذه الكلمات تفوح منها رائحة المفارقة التي تنشد اشراقة الوجود من خلال الولوج إلى الميتافيزيقا ، إذ لا يتسنى لنا تعلم لعبة الخروج من نسقية الخطاب الميتافيزيقي إلا متى فكرنا من داخله قصد إعادة صياغة مستلزمات التفكير في الوجود الني لا ينفك عن الإنسان؛ لأن فهم حقيقة الوجود تستدعي أن نعتني بالوجود الخاص للإنسان . هنا تتحيز اللحظة الإفتراقية للعبور من الميتافيزيقا إلى الأنطولوجيا. " إن طرح سؤال الوجود يحتاج إلى الموجد بوصفه الخيط الهادي إلى استعادة معنى الوجود"17
يهذا التحول من العلاقة بين الوجود و الموجود يعتبر غادامير أن السؤال الميتافيزيقي يصبح ممكنا لأنه يبرز معالم المطارحة التي تبسط الدليل الأنطولوجي لإثبات حقيقة الوجود المنقذف في النسيان.
ألا يستنى لنا الجزم هنا أن أزمة الأنطولوجيا الكلاسيكية إنما مردها مصادرة هذه الوحدة الصماء بين الوجود و الموجود؟ ألا يتسنى لنا أيضا الجزم أن الحداثة الغربية إنما نجحت في اثبات حداثتها بتمثلها لذاتها كبحث في هذا الانشباك الذي يتوارى و ينكشف في آن؟
يقول هابرماس:" إن الذات ليست هي التي تأخذ المبادرة للارتباط بشيء ما في العالم. العالم هو الذي يخلق السياق و يسمح ما قبل الفهم بلقاء الوجود الذي يضع الإنسان في علاقات مع العالم ، يمنحه امتيازا على كل الموجودات الأخرى في هذا العالم" 18
و لأن هذا لاالإلتقاء بين الوجود و الموجود يحدث في الهنا و الآن فهو بلا شك لقاء مشحون بزمنية ما. زمنية تنهمك في بلورة المضامين الأنطولوجية لهذا التلاقي ، لأنه تلاقي يقوم على القصدية. يقول هيدغر:" لا يمثل العالم هذه الحزمة من الأشياء ، هو يمثل إمكان كل معنى و أساس كل تسخير"19 .
فهل تحولت الحداثة إلى حكاية تصور لنا خاتمة التاريخ الميتافيزيقي الذي ينفتح على بداية جديدة؟
المراجع:
1 ــ الإيديولوجيا ، اليوتوبيا ، مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة . كارل مانهايم ، ترجمة عبد الرحمان الديريني ، ص 247 ، جامعة الكويت.
2 ــ التقنية ، الحقيقة ، الوجود .هيدغر ، ترجمة محمد سبيلا و مفتاح عبد الهادي، ص 11 ، المركز الثقافي العربي.
3 ـــ نفس المرجع
4 ــ نفس المرجع
5 ــ نفس المرجع
6 ــ نفس المرجع ، ص 17
7 ــ نفس المرجع ، ص 20
8 ــ نفس المرجع ، ص 20
9 ـ نفس المرجع ، ص 22
10 ــ نفس المرجع ، ص 25
11 ــ نفس المرجع ، ص 26
12 ــ نفس المرجع ، ص 26
13 ــ طرق هيدغر . غادامير ، ترجمة حسن ناظم و علي حاكم ، ص 87 ، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط 1 ، 2007
14 ــ نفس المرجع ، ص 79
15 - Dépassement de la métaphysique . Gallimard. Paris 1956 .p 90.
16 - Heidegger . être et tems. Gallimard. Paris 1986 .p 52
ـ نفس المرجع ، ص 26 .17
18 ــ القول الفلسفي للحداثة ، هابرماس ، ترجمة فاطمة الجيوشي ، ص 233 ، منشورات وزارة الثقافة.
19 – problèmes fondamentaux de la phénoménologie . Gallimard. 1984 . p 359.

















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م