الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فريدريك نيتشة – رأيه في الدين والعلوم

محمد زكريا توفيق

2015 / 5 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



يطلب منا نيتشة ويلح في الطلب، الالتفات إلى أدق الأشياء والظواهر حولنا. ينصحنا بترك عظائم الأعمال الفكرية والتاريخية، والتركيز على الأحداث البسيطة، التي لها تأثير مباشر شبه يومي على حياتنا، والتي تشكل ثقافة كل منا. إنه هنا يقترب من فلسفة "الزن" المنبثقة من البوذية.

هذه الأحداث، ليس لها تاريخ. وإلا قل لي، ما هو تاريخ وتسلسل الحب، الجشع، الغيرة، الضمير، الشفقة أو القسوة؟ لا توجد حتى دراسة تاريخية للعدل أو العقاب.

إذا كتبت مثل هذه الدراسات التاريخية، فإنها ستوضح لنا التنوع الكبير لما نسميه بالأخلاق، التي تتباين وفقا للمكان والزمان. ستبين لنا أنه يوجد أخلاقيات متعددة، لا أخلاق واحدة. ولن توجد حقبة، يكون فيها الصلاح أو الحقيقة، بالمفهوم الأفلاطوني أو الديني، هي المسيطرة إلى الأبد.

في فيلم "الأبرياء المتوحشون"، يقوم بطل الفيلم، أنتوني كوين، بقتل كاهن قام بزيارته ضربا، لأن الكاهن رفض ما قدم له من طعام ومشاركة زوجة الإسكيمو الفراش.

رفض مشاركة الفراش مع زوجة الاسكيمو تعتبر إهانة بالغة للمضيف وللزوجة. هي قيم خلقية معكوسة تقريبا إذا ما قورنت بالقيم الخلقية في بلادنا.

هذا يقودنا إلى الحقيقة المرة بالنسبة لمفهوم الأخلاق، الذي جاء في كتابه "ما وراء الخير والشر 1886م". لا توجد ظاهرة اسمها الأخلاق، بالمطلق، على الإطلاق. إنما الموجود هو وصف وتفسير لما نسميه أخلاق.

دعنا ننظر إلى الرجل الذي نعتبره على خلق. هو الرجل الصالح الذي يلقى المديح والتكريم من الآخرين. لماذا؟ هذا بسبب سلوكه الطيب نحوهم وما ينالونه منه من فوائد.

القيم الخلقية، مثل الطاعة والعفة والعدل والكرم، إلخ – هي في الواقع قيم تضر بصاحبها. إذا كنت رجلا على خلق، فستكون أنت الضحية. نحن نمدح الأخلاق في الآخرين، لأننا نستفيد من ذلك. من يجاور الكريم، يا سعده يا هناه.

بدلا من أن يكرس صاحب الفضيلة، قوته وفكره وأمواله في تطوير نفسه وتقدمها، يبدد هذه الأشياء على الآخرين. نيتشة يقول هنا بما معناه، "فليذهب الكرم وباقي الأخلاق إلى الجحيم". وبما أنه لا يوجد شئ اسمه الأخلاق، لا يوجد أيضا شئ اسمه الشعور بالذنب.

الأخلاق، في رأي نيتشة، هي عقيدة القطيع، شأنها شأن التدين. عقيدة القطيع هي المسيطرة وتأثيها أكبر من عقيدة الفرد. كذلك الأخلاق، هي ما يقرره القطيع لا الفرد. يتمسك الفرد بأخلاق القطيع بسبب ضعفه، وبسبب اعتقاده بأن قوانين الأخلاق تحميه، وتوفر له العدالة.

سأبين هنا ما يعنيه نيتشة بفوائد الإنتماء للقطيع. إذا كنت تسير وحدك في الغابة وظهر أمامك أسد مفترس، فما هي فرصتك في النجاة؟ ربما تقترب من الصفر.

لكن لو كنتما اثنان، تصبح فرصة النجاة 50%. أما إذا كنت فردا في قطيع يتكون من 100 عضو، ترتفع فرصة النجاة إلى 99%. الإنتماء إلى القطيع له فوائد.

إذا كانت فكرة نيتشة عن الأخلاق سليمة، وإذا كانت الأخلاق هي نتيجة لظروف المجتمع، وميكانيزم يساعد على البقاء، فما هي فكرة نيتشة عن الدين، وهو المصدر التقليدي القديم للأخلاق؟

إذا كان نيتشة قد أنكر وجود الأخلاق، فلا غرابة في أن ينكر أيضا وجود الرب. هنا نسطدم بمقولته المرعبة "موت الإله". مرعبة لأننا نكون قد فقدنا القوة الأبوية الهائلة التي تقوم بحمايتنا. لكننا في نفس الوقت، نكون قد تحررنا. ويكون الكون كله قد تفتح أمامنا بدون حدود. ويصبح كل شئ قابلا للتخيل.

أصحاب الأفكار الحرة بيننا، سيبتهجون لهذه الأنباء. ستمتلء قلوبهم بالرضا والدهشة والأمل. أخيرا، سيجدون الحرية التي ينشدونها بدون حدود. أخيرا، ستنطلق سفينتهم في اليم، غير مبالين بما قد تواجهه من صعاب. لقد فتحت أمامهم أعالي البحار. لقد فتحت لهم آفاقا لم تفتح من قبل.

في كتابه "العلم المرح"، يعلن نيتشة مقولة "موت الإله" على لسان رجل مخبول. لا تعيره العامة أو تعير ما يقوله أدنى اهتمام. مع هذا، هو يظهر بصورة صادمة. يحمل مصباحا منيرا في الصباح. يبحث به عن الإله في كل مكان، لكنه لا يجده. فيقول المخبول المعتوه:

"لقد قتلناه، أنت وأنا. نحن جميعا قاتلوه. لكن، كيف فعلنا ذلك؟ كيف تمكنا من شرب مياه المحيط كلها؟ من أعطانا السفنجة لكي نمحو بها الأفق كله؟" كلام مجانين.

بعد أن شعر المخبول أنه لا يصدقه أحد، بدأ يقول:

"يبدو أنني قد أتـيت مبكرا. زماني لم يأت بعد. هذا الحدث العظيم لا يزال في الطريق. لم يصل إلى آذان الناس حتى الآن. هذا الحدث، يبعد عنا مسافة أكبر من المسافة التي بيننا وبين أبعد النجوم. المهم أننا قد فعلنا هذا بأنفسنا بدون مساعدة من أحد."

في آخر النهار، يقوم المعتوه بزيارة الكنائس في المدينة، مرددا: "ما هذه الكنائس ودور العبادة؟ إنها لا شئ سوى قبور وشواهد دفن فيها الإله."

مرت على هذه المقولة أكثر من 130 سنة، ولازال تأثيرها قويا على كل الثقافات الحديثة. إذا كنا من الشجاعة والعظمة، جعلتنا نستطيع التخلص من استعباد الإله لنا، والتحرر من قبضته، ألا يجدر بنا نحن البشر أن نكون آلهة؟

هتلر، ماو، ناصر، وباقي القادة العظام. مارلين منرو وكلارك جيبل وباقي نجوم السينما. الفنانون والأدباء ونجوم الرياضة، إلخ. أليسوا آلهة حديثة؟ وهل هم يمثلون أي تقدم عن الآلة القديمة؟ ربما لازلنا غير قادرين على الحياة بدون آلهة.

أفكار نيتشة بالنسبة للعلوم، لا تختلف كثيرا عن أفكاره الخاصة بالأخلاق والدين. استخدام العلوم للبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم لا يوجد به إله، قوبل بنقد شديد من نيتشة. طلب العلم للعلم، مثله مثل طلب الصلاح للصلاح نفسه. هذا قد يكون مضرا جدا.

إذا سألنا أنفسنا "الصلاح من أجل ماذا؟" فعلينا أن نسأل أيضا "المعرفة لأي غرض؟" طلب المعرفة بغير حدود، يستعبدنا في الغالب. لكن، من الواجب أن تكون المعرفة هي خادمة للإنسان، وليس العكس.

هناك الكثير الذي لا أرغب في معرفته. الحكمة، هي أن تضع حدودا لطلب المعرفة. إذا أهملنا هذه النصيحة، سنصبح مدمنين معرفة. وهذا ينتج عنه نتائج مريعة.

اسلوبنا في طلب العلوم بهذه الطريقة اليوم، يثبت أننا قد فقدنا القدرة على استخدام غريزتنا الأولية في الحفاظ على حياتنا. الحقيقة التي تهدد الحياة نفسها، ليست حقيقة بالمرة، بل هي مجرد خطأ بين.

ثم يستمر نيتشة في نقده لاستخدام العلم في تفسير العالم:

ما نسميه تفسير، هو مجرد وصف. وصفنا يختلف عن وصف من سبقونا من المفكرين. نحن نستطيع أن نصف أفضل منهم، ولكن بالنسبة للتفسير، فلا نزيد عنهم إلا قليلا. ما لدينا الآن، هو المزيد من الوصف المعقد، الذي يزداد تعقيدا على تعقيد.

إننا لم نفسر شيئا. ولا تزال الظواهر غامضة بالنسبة لنا، كما كانت غامضة للإنسان البدائي. إننا نصف غليان الماء في درجة حرارة 100 مئوية. ولكن لا نستطيع أن نفسر لماذا درجة مئة بالذات وليست درجة 90 أو 110 درجة مئوية.

لدينا صورة وضاحة للأشياء، لكننا لم نتعد مرحلة الصورة إلى ما وراء الصورة. نحن نصف السبب ونقول أنه ينتج عنه فعل. لكن هذا يعني ثنائية بدائية.

لقد وضعها بدقة الفيلسوف دافيد هيوم (1711-1776م)، "السببية هي أداة الإنسان لرؤية تتابع الأحداث، ولا شئ أكثر من ذلك. تسخين الماء يأتـي أولا، بعد ذلك يأتي غليانه. نحن نعزل حدثين فقط من مجموعة أحداث لا نرى بقيتها.

نقوم بعزل جزء من الكل، وتحويله إلى شئ يسهل فهمه. حتى يمكننا أن نعيش في هذا العالم. لذلك لدينا الأجسام، الخطوط، السطوح، السبب والمسبب، الحركة والسكون، الصيغة والمحتوى، إلخ. بدون تصور هذه الأشياء، لا يمكننا أن نعيش.

تاريخ الدين والأخلاق والعلوم، هو تاريخ بشري. لم يبلغ الإنسان ما يصبو إليه من الحقيقة. هنا يأتي نيتشة قبل فرويد، لكي يربط بين علم النفس والمعرفة.

من المضحك أننا نفتخر بقدرة حواسنا الغير دقيقة. من حواسنا يأتي الوعي. لذلك الوعي عند الإنسان غير كامل وضعيف. من ثم، ينتج من الوعي العديد من الأخطاء، التي بتراكمها، قد تجعل الإنسان ينقرض قبل الأوان.

مزج الفكر بالشعور والعواطف، وبالغريزة والرغبة والحاجة، كما يقول علماء النفس والتحليل النفس في القرن العشرين، تجعلنا غير واثقين من فهمنا للحقيقة، التي لا يزال بيننا وبينها بون شاسع.

تشارلز داروين (1809-1882م)، كتب عام 1871م في كتابه "أصل الإنسان"، أن القبيلة تتكون من أفراد عديدة. القبيلة مستعدة للتعاون والتضحية بالنفس في سبيل الصالح العام. بذلك تنتصر على باقي القبائل. هذا ما نسميه ب"الاختيار الطبيعي".

لكن نيتشة، يعكس المقولة والسيناريو. دع القبيلة تضحي بنفسها، عند الضرورة، لكي تحفظ بقاء فرد عظيم من أفرادها. المهم هنا ليس بقاء الكم، ولكن بقاء النوع المميز من البشر. هذا النوع المميز هو ما يجب زيادته وانتشاره.

الصراع ليس من أجل البقاء، كما يقول دارون، ولكن الصراع كما يقول نيتشة يكون من أجل التقدم والعظمة. مع هذا يأتي الصراع من أجل السلطة. خلال السلطة، يظهر أفراد قليلون عظماء، يطبقون أفكار نيتشة السياسية.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بـريـطانـيا: هـل تـطوى صـفـحـة الـمحـافـظيـن في الـحـكـم؟ •


.. حزب الله يستهدف إسرائيل بـ200 صاروخ.. معلومات عن انكشافه وبل




.. ماذا يجري في كوكب الأرض؟ وأين ذهبت الكهرباء؟ | #منصات


.. القسام: إطلاق صواريخ -سام-7- تجاه طائرات الاحتلال في مدينة غ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - حزب الله يقول إن الجبهة ستبقى مشتع