الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن المدن و الأرياف و -ترييف- المدن

حازم العظمة

2005 / 10 / 1
المجتمع المدني


حين يقال بأن من نتائج الإنقلابات التي أتت بالعسكريين إلى السلطة ، على الطريقة العربية ، وهي في الواقع متشابهة إلى حد ٍ بعيد ،و مشابهة لـ "ثورات ٍ"من الطراز نفسه ، حدثت في أقسام واسعة من أفريقيا و أمريكا اللاتينية خلال المنتصف الثاني من القرن الماضي يقال عادة ً أن من نتائجها ، ربما الأوضح ، " ترييف المدن "، هذه المدن التي لفترات ٍطويلةبقيت ( ساكنة ً) بمعنى ما
، و الواقع أن الحدث الإجتماعي الأهم هنا هو أن المدن تطبعت "على هيئة الريف "و هو مفهوم يتضمن العديد من الظواهر الثقافية ،بصورة ٍ خاصة ،و السياسية حتماً، وليس مجرد الظاهرة الديموغرافية التي هي ببساطة هجرة الريف إلى المدينة ، مدن أخرى غير مدن العالم الثالث تلقت هجرات ٍ كهذه ِ إلا أن النتائج " الثقافية " لتلك الهجرا ت كانت ضمن مفاهيم مختلفة تماما ً .
حين يسمع " القروي "بمفا هيم من نوع " المجتمع المدني " يعتقد أن هذا موجّه ضده شخصيا ً و ربما يعتقد بأن " المدنية " هي عكس " الريفية "التي تخصه ُ .....
و المفارقة – السخرية يمكن أن تذهب أبعد من ذلك ، ففي سورية العسكريون ،بعضهم على الأقل، حين سمعوا بـ " لجان إحياء المجتمع المدني " علق قائلاً :
لماذا .. ألا يعجبهم" المجتمع العسكري " ... ( هم ممتنون أنهم يعيشون في "بحبوحة" بفضله.. أو يعتقدون أنهم كذلك )
العقل القروي يستنكر" الآخر " و "المختلف " ، ما من "تعددية " في القرية ، و حين يذهب العقل القروي إلى إدارة بلاد ، أو إلى إدارة "وطن" إن شئتم ، يصبح من الصعب تماماً أن تثنيه عن دأبه في جعل كل شيىء ٍ متشابها، عن رغبته في جعل كل شيىءٍ متشابها ً..
الذين عاشوا فترة الستينات و السبعينات في سورية يذكرون بسخرية ٍ الدفتر المدرسي الموحد و رغيف الخبز الموحد و اللباس الجامعي الموحد ، المشكلة بعد ذلك كانت بأن " الرغيف الموحد" هذا لم يكن يؤكل حقاً ( أو يؤكل بصعوبة) و أن " اللباس الجامعي الموحد" بدا قبيحا ً و أن الدفتر المدرسي الموحد كان بشعا ً ، و عليه صورة" القائد "...
، الذين في سورية يقيمون قريبا ً من المدارس ، يشتكون من الضجيج الفظيع الذي يرافق " العملية التربوية " ... ، هذا الضجيج ليس مصدره لهو الأطفال أو اليافعين و لكن المعلمات و المعلمين و الذين يستخدمون الأبواق الكهربائية في توبيخ الأطفال و شتمهم ... أي : تدريبهم على "حفظ النظام "و يحرصون هكذا على أن يبدو الأطفال كالجنود في الانضباط

، في هذه الفترة ، إبتداء ً من السبعينات ، تركت سورية الشرائح الاجتماعية التي تمثل السوريين الأكثر كفاءة ً ، مخلين بهذا المكان لهذا " النظام " الذي هو مركب من " إشتراكية " قروية و "رأسمالية" الدولة الفاسدة .
و كما أن "العقل القروي" لا يفهم الإختلاف و التعدد هو أيضا ً لا يفهم الثقافة و يرى أنها مسألة خطيرة ، و هكذا بذرائع مختلفة ، و بحجة " الثقافة الملتزمة " جرى عمليا ، وعلى سبيل المثال ،ً إلغاء السينما في سورية و دور السينما القليلة أصلاً توقفت تدريجياً أو تحولت إلى أفلام الكاراتيه و أفلام مطاردات السيارات الأمريكية خاصة ، و النادي السينمائي الذي لعب دوراً ثقافياً هاماً و إن كان محدوداً من حيث الإنتشار ، في الستينات و حتى بداية السبعينات ، أغلقوه و ما زال مغلقاً
ترييف المجتمع يعني أيضاً الإرتداد من مفهوم المواطنة و المجتمع المدني إلى العائلية و الطائفية و العشائرية ، ففيما جرت ملاحقة كل مظاهر و مواقع المجتمع المدني خلال أربعة عقود كنا نرى كيف أن منابر المتدينيين من كل الطوائف و المذاهب ، كانت تتمتع برعاية تكاد تكون غير محدودة في نشر " الدعوة"و "الدعوات"من كل المذاهب و الطوائف بشرط واحد هو أن لا تقترب من السياسة إلا طبعاً في مديح النظام ، لدى أولئك و هؤلاء ما لا يحصى من المنابر و الأقنية فيما المجتمع المدني و منذ أكثر من أربعين سنة ملاحق و منابره القليلة التي كانت ، قد جرى إغلاقها و بإصرار منهجي
،الولع بالثنائيات أيضا ًمن سمات القرويين ، بما في ذلك جو رج بوش الذي له ولع كهذا لا ينتهي ( تذكروا : جاء من تكساس )... الأشرار و الأخيار ، "فسطاط" الحق .. و "فسطاط" الباطل و ما إلى ذلك
ما من تناقض ٍ ( تاريخي ) ،هكذا يبدو ، بين العقول " البسيطة " و بين " الامبراطورية"حتى و لو كانت مزودة ً – حتى أسنانها-بالتكنولوجيا الأحدث في العالم
،فهم العقل القروي هذا يفسر لنا الخطاب النمطي الذي يؤسس للعدوان الأمريكي ، ضد العالم كله في الواقع و ليس فقط ضد البلدان المسماة بالعالم الثالث
، و أعني هنا مسألة " الدفاع عن نمط الحياة الأميريكية "( كل الأساطيل و الصواريخ الباليستية و الحروب الفعلية كُرّست لهذا الهدف النبيل .. ) ، و الذي يعتقد الأميريكي المتوسط أنه " النمط " الأرقى في العالم ، تماماً كما يعتقد " القروي " بأن قريته هي المكان الأجمل في العالم و "الأطهر " بالمفهوم الأخلاقي ( ربما تكون أغاني وديع الصافي أحسن مثال في هذا الشأن مأخوذاً من ثقافتنا المحلية )
العقل القروي لم يفهم مرة ً التعددية ،كل ما يختلف عنه ، ولأنه لا يفهمه ، هو بالضرورة فاسق و فاسد ، وكما لا يفهم جورج بوش لماذا اليمنيون يلفون " وزرة ً "حول خصورهم كذلك اليمنيون لا يفهمون لماذا الأميريكي يحب أكثر ما يحب أن يشاهد السينما بينما يجلس في سيارته ، وهذا يدفعنا للتساؤل : لماذا اليمني لا يهلكنا في خطابات ٍلاتنتهي في الدفاع عن " نمط الحياة اليمني " ... مثلاً .
"ترييف المدن " ليس جديداً تماماً ، جرى قبل هذا عشرات المرات ، آخرها في منطقتنا كان الفتح العربي لبلاد الشام " الفتح الإسلامي" إن شئتم ،
قبلها الآشوريون ،الأكاديون ،الكلدانين ، العموريون ... ما يهمنا هنا هو العربي أي الأخير ،حين وصل معاوية إلى دمشق أذهله العمران و الحضارة بحيث أنه قرر بدون تردد أن ينقل مركز الخلافة من مكة إلى دمشق ، و سرعان ما انتقل اهتمامه من النصوص الدينية و العبادات إلى الحضارة أي :الفن ، العمارة، الموسيقى ، الشعر ، العلوم ، الترجمة .. نستطيع أن نقول بدون لعثمة أو تردد أن الأمويين هم من أسس أولاً الحضارة العربية (ثم تبعهم العباسيون و الأندلس ) السؤال هنا إلى أي درجة هذا "التكوين" المديني الجديد كان يشبه " ترييف المدن " حسب مفاهيمنا الحالية ... أم أنه يشبه أكثر انخراط أو ربما "اندماج" ثقافة صحراوية و " بدوية" خشنة بـ " مدنية"حقيقية تشبه دمشق ، ظلّت منذ أزمان قديمة ، تُراكم المعرفة الإنسانية و ترُاكم معها مفاهيم الـ"تسامح" و قبول الآخر المختلف و الحوار و ما هو "إجتماعي " و ما هو "مدني" ... ، كثير من الأجوبة سنجدها عند "ابن خلدون"و الذي هو بدون مبالغة المؤسس الحقيقي لعلم الإجتماع
أما لماذا بحث الأرياف و المدن يثير حساسيا ت و عصبيات فلأننا بالتحديد لم نغادر تماماً أو ربما لم نغادر إلا قليلاً أرض التعصب ( القبائل و العشائر و الحمولات و ما إلى ذلك ) المدن أيضا ً لها عصبياتها ، المدن أيضاً لها "قبائلها" و "عائليتها " و "بطونها" ، ربما أن مدننا هي أنصاف مدن ، و لم تختلف كثيراً عن قرية كبيرة ، ثمة أسباب تاريخية لها بعض الخصوصية بالمقارنة مع أماكن أخرى من العالم ، ثمة نزاع تاريخي بين مدن نشأت أساساً من التجارة الزراعية و بين الريف، الريفي من الجنوب مثلاً كان حين يأتي إلى دمشق يتعرض للسخرية و يتعرض للإذلال و هذا بصورة خاصة نشأ مع نظام الإستبداد العثماني ، مع تشكل الدولة القمعية الإستبدادية القائمة على جباية المكوس من الأرياف،و "جباية الرجال كـ"وقود" للـ"الفتوحات".. ( اي لزيادة مجد و ثراء السلطان ) و على "جباية" النساء الجميلات.. لإمداد القصور بـ"الحريم" ... وأساس السلطة فيها فرق عسكرية و نخب عسكرية لا تأخذ أوامرها إلا من مركز الدولة الإستبدادي ( المتروبول ) في الأستانة ،و هذه السلطة التي هناك هي بدورها حافظت خلال تاريخها على تراتبية دقيقة في صلبها العشائر و القبائل و البطون ..

نظام الإستبداد المركزي أيضاً كان أيضاً دخيلاً عل مدينة كدمشق ، لكننا نستطيع قبلها، و بعدها، و ربما منذ بداية تاريخ هذه المدينة أن نستشف ملامحا ً لمدينة متطورة و متمدنة حقا ً رغم التعاقب الطويل للغزاة و لأنظمة الإستبداد

"مدنية " المدن تقاس أيضاً بالتسامح ،هذه المدينة ،دمشق ، تجاور فيها الناس من مختلف المذاهب و الأديان و العروق و الأصول ... العرب و الشركس و الترك و الأكراد و الأرمن ، اليهود و الأروذوكس والكاثوليك و الشيعة و حتى الكريتيون ، أهل "كريت" ، الذين مرة فروا إليها من مذابح في وطنهم
دمشق قبلت كل هؤلاء في تسامح لافت بمقاييس تلك الأيام وحتى بالمقاييس المعاصرة ، فيما المدن الأوربية أثناء أزمان كتلك كانت تنضح بالتعصب و التمذهب و الـ"الغيتوات" .. ( الغيتوات يعاد إنشائها الآن في عهد " البعث" .. ) ، التسامح هذا ما تزال تحفظه هذه المدينة ، و هذا لا يعني أن ما من مشاكل كانت أو من أحداث عرقية أو طائفية جرت على فترات ، إلا أنها كانت قليلة وغالباً بتحريض من النظام الإنكشاري العثماني و إقطاعياته العسكرية

حين ننتقل من مفهوم العشيرة و القبيلة إلى مفهوم الوطن ، ثم حين ننتقل من هذا و ذاك إلى مفهوم الإنسانية عندها نصبح متمدنين حقاً








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان.. قوات الدعم السريع تطلق سراح مئات الأسرى بمبادرة أح


.. ماذا تعني الأمم المتحدة بالصدمة الزلزالية في حديثها عن الوضع




.. المتحدث باسم -الأونروا-: هناك مئات الآلاف من الإصابات بالكبد


.. لماذا لم تنجح عملية استعادة الأسرى ومجزرة النصيرات في تجنّب




.. شبكات | لأول مرة.. إسرائيل تتصدر قائمة العار في الأمم المتحد